تمرّ حركة "النهضة" في تونس من جديد بمخاض صعب. فرسالة المائة قيادي التي وجهوها إلى رئيس الحركة راشد الغنوشي، في 16 سبتمبر/أيلول الحالي، وطالبوه فيها بالتعهّد مسبقاً بعدم خرق القانون الداخلي، وإعلان الالتزام بعدم الترشح مرة أخرى إلى منصب رئاسة الحركة بعد دورتين متتاليتين، أحدثت رجة قوية على مختلف المستويات والأصعدة. فالذين وقّعوا على هذه الرسالة لكل منهم تاريخه ودوره وتجاربه الخاصة مع "النهضة"، كما أنهم ينتمون إلى تيارات اختلفت في ما بينها وتصارعت، لكنهم التقوا اليوم حول ضرورة التمييز بين الحركة والمؤسس.
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ولدت الحركة الإسلامية التونسية كفرع من فروع تنظيم "الإخوان المسلمين". كان يقف وراء المشروع أستاذ الفلسفة راشد الغنوشي. تشكلت النواة الأولى للحركة، وقدمت للرجل البيعة الضرورية التي بمقتضاها أصبح قائد الجماعة وممثلها والناطق باسمها.
في أواخر السبعينيات، حدثت أزمة وصراع داخل الحركة. ومن بين القضايا التي طرحت يومها الاعتراض على دور الغنوشي، والمطالبة بتحديد صلاحياته، إلى جانب الاختلاف حول العديد من المسائل الفكرية والسياسية. بعد تلك الواقعة، غادر من غادر وبقي من بقي، ودخلت الحركة في صراع طويل مع النظام. مع ذلك، تجددت المناورات والاشتباكات من أجل القيادة خلال مختلف مراحل الهجرة والنفي لقياديي الحركة، وفي كل مرة كان الغنوشي يخرج منتصراً.
كان بإمكان عبد الفتاح مورو أن يلعب دور البديل المطمئن للجميع بمن فيهم الغنوشي
بعد الثورة مباشرة، تجدد الإشكال. أعلن الغنوشي قبل عودته من لندن أنه لا ينوي تحمّل أي مسؤولية داخل الحركة أو في الدولة، وسيكتفي بدوره كمثقف ومصلح اجتماعي داخل تونس وفي العالم الإسلامي. ظنّ كثيرون بأنّ الرجل غيّر فعلاً خطته وتخلّص من طموحه القديم، لكن سرعان ما عاد ليتمسك بقيادة الحركة، على الرغم من الصراعات التي حصلت، سواء خلال انعقاد المؤتمر الاستثنائي أو في المؤتمر العاشر في مايو/أيار 2016. إذ تمكّن من فرض تعيينه لأعضاء المكتب التنفيذي، إلى جانب ثلث أعضاء مجلس الشورى، حتى يبقى قادراً على تحريك مختلف خيوط الحركة والإمساك بموازين القوى. وعندما اعترض عليه تيار قوي من داخل المؤتمر، هدد بالاستقالة وملازمة بيته في محاولة للضغط عاطفياً على "أبنائه" في "النهضة".
اليوم، يطالبه من اتفقوا معه خلال المحطة الأخيرة، باحترام العهد الذي قطعه على نفسه، أي عدم ترك المجال مفتوحاً أمام رئاسة الحركة مدى الحياة. وهو طلب يأتي في أعقاب المعركة السياسية الشرسة التي خاضتها "النهضة" من أجل الحيلولة دون سحب الشرعية منه داخل البرلمان.
ليست المشكلة في معرفة أنّ الرسالة التي نشرت في 17 سبتمبر الحالي وتضمنت تعقيباً على مبادرة المائة قيادي، كتبها هو أم أنها منسوبة إليه، إنّما في درجة تعلّق الرجل بالحركة التي يرى فيها قطعة منه، وهو غير مستعدّ للتخلي عنها أو التنازل عن قيادتها. لهذا، دعا إلى ضرورة التمييز بين الرؤساء والزعماء. فالزعيم لا يتم التعامل معه وفق سقف زمني مضبوط، وهو يرى في نفسه زعيماً ضحّى من أجل هذه الحركة حتى أوصلها إلى السلطة. لكن ما العمل للتخلّص من التزام علني وجماعي لا يزال منقوشاً في وثائق المؤتمر السابق، خصوصاً أنّ الزمن يمرّ بسرعة، وخصوم الحركة يحاولون من جهتهم استغلال الوضعية الحالية لمضاعفة هجومهم على "النهضة" وزعيمها؟
المتمسكون بالغنوشي يرون فيه رمز الحركة، والأقدر على حمايتها، ويخشون غياب بديل مقنع
في أول زيارة قام بها نائب رئيس حركة "النهضة" السابق، عبد الفتاح مورو، إلى أميركا قبل أن يستقيل من الحركة في مايو/أيار الماضي، سأله أحد الصحافيين: ما الذي بقي ثابتاً في الحركة بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ أجاب بطريقته الفكاهية: "ثلاثة أشياء لم يمسسها التغيير وهي: اسم الحركة، ورئيسها، وأخيراً جبتي".
خرج مورو من المشهد، وهو الذي كان بإمكانه أن يلعب دور البديل المطمئن للجميع بمن فيهم الغنوشي، وأصبحت الحركة أمام ضرورات التغيير. كيف ستتصرف بعد أن اضطرب الجميع، وتضاربت الروايات والشائعات، خصوصاً أنّ الجميع؛ سواء من المدافعين عن التمديد لرئاسة الغنوشي أو الرافضين لذلك، قد استعدّوا لخوض معركة يعتبرونها مفصلية في السياق الراهن.
المتمسكون بالغنوشي يرون فيه رمز الحركة، والأقدر على حمايتها، ويخشون غياب بديل مقنع. في المقابل يتصدى الرافضون لهذه المبررات، ويؤكدون على أنّ الحركة أكبر وأبقى من المؤسس. وأنّ استجابة الغنوشي لقانون اللعبة الديمقراطية شهادة لصالحه وليست استنقاصاً منه.