- الضغوط الأميركية تشمل إصلاحات تقضي على تمثيل سياسي وطني فلسطيني، مثل وقف رواتب الأسرى وحذف المحتوى التعليمي والإعلامي المتعلق بتاريخ فلسطين والمقاومة.
- الاستجابة لهذه الضغوط تعني تغييراً جذرياً في الهيكل السياسي للسلطة الفلسطينية، مما يضعف المقاومة والهوية الوطنية، بينما تدعو الأصوات الفلسطينية لتوحيد الفصائل وحماية المشروع الوطني من التدخلات.
مع تصاعد الضغوط الأميركية أخيراً لإبعاد حماس عن إدارة قطاع غزّة بعد الحرب، بدأت أصواتٌ فلسطينيةٌ باقتراح تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية، بوصفه جزءاً من حكومةٍ موحدةٍ تشمل قطاع غزّة والضفّة الغربية، ضمن خطواتٍ لإعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية، بالتوازي مع مشروعٍ أميركيٍ لإنشاء حكومة تكنوقراط في قطاع غزّة تحت شعار "تنشيط السلطة الفلسطينية" أو تجديدها.
فلسطينياً، هناك حديثٌ ونشاطاتٌ تحض على البدء بتحركٍ فلسطينيٍ لضمان وجود الفلسطينيين في سياق محاولات إحياء المشروع الوطني الفلسطيني؛ لم تتبلور أو تتوحد الآراء حوله بعد، لمواجهة تداعيات حرب الإبادة على قطاع غزّة.
في الوقت نفسه، يستهدف المشروع الأميركي المعلن إنهاء أيّ تمثيلٍ وطنيٍ سياسيٍ للشعب الفلسطيني، وتتقاطع دعواتٌ أخرى مشبوهةٌ مع المنظور الأميركي، بحجة وقف إبادة أهل قطاع غزّة.
خضعت السلطة لمعظم مطالب واشنطن الأمنية، لكن ذلك لم يعد كافياً، خاصّةً منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب
هذه ليست المرة الأولى التي تطرح واشنطن فيها تشكيل حكومة تكنوقراط في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، من دون القدس الشرقية، بخاصّةً منذ الانتفاضة الثانية، ويتم تداولها رفقة أفكارٍ مماثلةٍ في المؤسسة الأميركية الرسمية، ومراكز الأبحاث الصهيونية في واشنطن. والتبرير دائماً: "أهمية إصلاح السلطة الفلسطينية"، وتجفيف فساد أجهزتها.
صحيحٌ أن السلطة الفلسطينية تحتاج إلى إصلاحٍ جذريٍ، لكن واشنطن تستغل حجة الفساد لفرض شروطٍ أخرى؛ أهمّها وقف رواتب الأسرى وأهالي الشهداء، وحذف كلّ ما يتعلق بتاريخ فلسطين والمجازر الصهيونية، وشطب المقاومة الفلسطينية وقيادتها منذ 1936 من الذاكرة والمناهج المدرسية، والإعلام الفلسطيني.
أي سلطةٍ "مجددةٍ" عليها أن تخضع لشروط الإصلاح الأميركي، كما عليها أن تمتنع تماماً عن اللجوء إلى الهيئات الدولية والأممية، وتحديداً محكمتي الجنايات والعدل الدوليتين؛ بمعنى أدق القضاء على حقّ الفلسطينيين في المطالبة بالعدالة ومقاضاة إسرائيل، تمهيداً لشطب كلّ الحقوق الفلسطينية.
أميركا، بخاصّة الكونغرس، تطالب بوقف رواتب الأسرى وأهالي الشهداء، وشطب المقاومة من المناهج والإعلام، ومنع سفراء فلسطين من الدفاع عن حقوق الشعب، أو إدانة الانتهاكات الإسرائيلية. فذلك كلّه يقع ضمن مفهومها لإصلاح السلطة الفلسطينية، وجعلها حكومة "تكنوقراط" منتقاة الأعضاء والمهمات.
ضغطت واشنطن باستمرارٍ على السلطة الفلسطينية، وكانت تنجح أحياناً بردعها، ومنعها من اللجوء إلى المؤسسات الدولية، كما خضعت السلطة لمعظم مطالب واشنطن الأمنية، لكن ذلك لم يعد كافياً، خاصّةً منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبعد توقيع اتّفاقيات أبراهام التحالفية التطبيعية مع دولٍ عربيةٍ عدّة، وعليه بدأت المؤسسة الرسمية الأميركية بالمطالبة بخنوع السلطة الفلسطينية الكامل، وتغيير هيكلها.
يجد المتابع لجلسات الاستماع في الكونغرس أنّ التغيير أصبح "ضرورياً ومطلوباً"، تحت شعارٍ كاذبٍ هو "إصلاح" السلطة الفلسطينية، ولذا نسمع تعبيراتٍ مثل "تغيير هيكلية السلطة وأشخاصها، وتشكيل حكومة تكنوقراط" ليس لها طابعٌ تمثيليٌ سياسيٌ.
الأهمّ عدم السماح لواشنطن بالتدخل بعملية إحيائها، فمن غير المقبول اشتراط قبول حركة حماس باتّفاقيات أوسلو (المنتهية أصلا)
الفهم الأميركي لهذه الحكومة هو "إدارة السكان، مع قوّةٍ أمنيةٍ تقمع المعارضة والمقاومة"؛ فمتطلبات المعركة الحالية مختلفةٌ، وواشنطن لا تتحمل ما تراه "منطقةً رماديةً"، رغم خضوع السلطة الفلسطينية وخنوعها لها. لأن المطلوب الآن هو "إنقاذ إسرائيل من تداعيات حرب الإبادة" التي تشنها على قطاع غزّة، وتمكينها من فرض سيطرتها على القطاع بعد الحرب؛ لذا تحتاج إلى "سلطةٍ معدلةٍ"، تمنع أي بناءٍ للمجتمع المدني الفلسطيني يرتبط بالهوية الشاملة والتاريخية للشعب الفلسطيني.
هذا ليس جديدًا، لكن واشنطن وجدت فرصةً انتظرتها طويلاً؛ فحاجة الفلسطينيين الملحة إلى وقف الحرب، وإدخال المساعدات، وتوفير الرعاية الطبية والأغذية، في ظلّ انتشار الموت جوعاً، يجعلها تعتقد أنّها تستطيع فرض مطالبها بتشكيل "حكومة تكنوقراط أمنية" في قطاع غزّة، من دون حركة حماس.
هذه الشروط لن تقف عند قطاع غزّة، إنّما ستصعّد واشنطن شروطها لاحقاً، كي تقصي مَن تريد مِن "قيادات السلطة الفلسطينية في رام الله"، وهي تتوقع أنّ الفلسطينيين مضطرون إلى قبول إبعاد حركة حماس عن إدارة قطاع غزّة، لإنقاذ القطاع المنكوب.
هذا لا يعني أن أيّ اقتراحٍ وطنيٍ يدعو حركة حماس إلى قبول تغييبها عن إدارة قطاع غزّة بعد الحرب يستهدف اجتثاثها، لأن بعض المقترحات تفترض أن هذا وضعٌ مؤقتٌ، ينتهي عند توحيد الفلسطينيين تحت قيادةٍ موحدةٍ، وإعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية كي تضم جميع الفصائل، بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، مع تمثيلٍ واسعٍ للفلسطينيين في كلّ أماكن وجودهم.
لكن المسألة صعبةٌ، وتستوجب تحركاتٍ سريعةً حتّى لا يكون قبول حركة حماس استثناءَها من السلطة "المُعاد قولبتها"، أو حكومة التكنوقراط الأمنية في قطاع غزّة، مقدمةً ليس لإبعادها فقط، بل لاستبعاد كلّ التنظيمات والمجموعات والمؤسسات الحالية والمستقبلية، فالمقاومة لن تتوقف بوجود الاحتلال، وستظهر أشكالٌ، وربّما تنظيماتٌ جديدةٌ.
وعليه؛ فإنّ واشنطن تحاول إنجاح مشروعها من خلال إسرائيل، ودولٍ عربيةٍ في المرحلة الأولى، بحيث تجعل هذه الدول ضامنةً لإدارةٍ فلسطينيةٍ بالشروط الجديدة، وضامنةً لمنع أي فعلٍ مقاومٍ، مع التشديد عليها بتمويل "بناءٍ مشروطٍ" لقطاع غزّة، يضمن ألا يعود القطاع مجتمعاً حيوياً وجزءاً أصيلاً من الشعب الفلسطيني.
هناك حديثٌ ونشاطاتٌ تحض على البدء بتحركٍ فلسطينيٍ لضمان وجود الفلسطينيين في سياق محاولات إحياء المشروع الوطني الفلسطيني
إسرائيل ترفض أي سلطةٍ فلسطينيةٍ، لكن واشنطن قد تعوّل على بيني غانتس، ووزير الدفاع يوآف غالانت (الذي وصف الفلسطينيين بـ"الحيوانات البشرية") لإيجاد صيغة حلٍّ وسطٍ، تختار إسرائيل بموجبه أشخاصاً معينين من الجهاز الأمني و/ أو السلطة نفسها، وقد تسرب أن غالانت رشح مدير المخابرات الفلسطيني، ماجد فرج، ليكون فاعلاً في سلطة التكنوقراط الأمنية في قطاع غزّة بعد الحرب.
المخيف في هذه الأفكار كلّها أن هناك، كما هو متوقع، نفراً من الفلسطينيين المستعدين لتنفيذ هذه المتطلبات..
مثالٌ على ذلك، تجاوب بعض الشخصيات وتواصلها مع المشروع، الذي تعمل عليه دولٌ عربيةٌ، وهو إحدى نسخ المشروع الأميركي، الذي روج له القيادي السابق محمد دحلان قبل فترةٍ؛ لإدارة قطاع غزّة بعد الحرب، تحت شعار "لا حماس ولا عباس"، أي مزيجٌ بين الرؤيتين الإسرائيلية والأميركية، وإن كان دحلان قد صرح بأنّه على تواصلٍ مع حركة حماس بشأنه.
حركة حماس لم تعلق على ذلك، مع أن اتصالاتها ولقاءاتها مع دحلان ليست سرية، وهو دليلٌ أنّها تبحث عن حلٍّ يوقف شلال الدم، وقد تكون تحاول ضمان بقائها، لكن هذه طموحاتٌ خطيرةٌ ولا يغامَر بها؛ لذا فالمطلوب من حركة حماس، والقوى والشخصيات الفلسطينية أن تحمي حماس من مشاريعٍ ليس لتصفيتها وحدها، إنّما لتصفية المشروع الوطني الفلسطيني؛ لذا فالمطلوب فلسطينياً الآن وضوحٌ في وضع أسسٍ مرحليةٍ لحكومة التكنوقراط، لمنع خضوع أي طرفٍ أو استسلامه للمشروع الأميركي.
لذلك توحيد الفصائل والتنظيمات الفلسطينية في إطار منظّمة التحرير الفلسطينية، وانضمام حركة حماس الفوري إليها يوفر حمايةً للجميع، فهو ضمانٌ لاستمرارية حماس والمنظمة العلني والمؤسسي، وحمايةٌ للمنظّمة من التبعية لأميركا، في ما يدعو باحثون صهاينة أميركيون إلى شطب المنظّمة تماماً. لأن هناك فرقاً بين أي إدارةٍ تفرضها أميركا وإسرائيل في قطاع غزّة، والضفّة الغربية لاحقاً، وبين حكومة تكنوقراط مرحلية لمنع سقوط المؤسسات في الضفّة الغربية، ضمن عملية إعادة بناء منظّمة التحرير، وإحياء المشروع الوطني الفلسطيني.
صحيحٌ أن السلطة الفلسطينية قد عملت على إضعاف/ تهميش منظّمة التحرير الفلسطينية، لكن التحرك من أجل بعث المنظّمة، وإعادة هيكلتها، واستعادة مؤسساتها هو جزءٌ وشرطٌ أساسيٌ لمقاومة المشروع الأميركي وإفشاله. والأهمّ عدم السماح لواشنطن بالتدخل بعملية إحيائها، فمن غير المقبول اشتراط قبول حركة حماس باتّفاقيات أوسلو (المنتهية أصلا) كي تنضم إلى المنظّمة. فالحاجة إلى إحياء منظّمة التحرير جزءٌ من مشروع إحياء المشروع الوطني الفلسطيني، وليس لتشكيل "سلطة" أميركية وإسرائيلية الهوى.
إعلان رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمد مصطفى أنّ إصلاح السلطة من أولويّات حكومته، دليلٌ آخر على أن السلطة تحاول نيل رضاً أميركيٍّ لن تناله، بدل السعي إلى تجميع التنظيمات الفلسطينية في بوتقةٍ واحدةٍ.
الإصلاح يبدأ بالتركيز على توحيد الشعب الفلسطيني، ضمن رؤيةٍ تحرريةٍ، لكننا نشهد عملية فرزٍ سياسيٍ بين مشروعين متناقضين، فالمرحلة لا تحتمل مهادنة ومغازلة الرؤية الأميركية.