دانييلا فايس... دينامو "المصنع الاستيطاني" الإسرائيلي

17 ديسمبر 2024
دانييلا فايس تحضر فعالية دينية يهودية، 21 أكتوبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تاريخ حركة "غوش إيمونيم" ودانييلا فايس: بعد حرب 1973، قادت "غوش إيمونيم" التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، وكانت دانييلا فايس شخصية بارزة فيها. رغم تراجع نفوذ الحركة، استمرت فايس في نشاطها الاستيطاني.

- الأيديولوجية الصهيونية الدينية وتأثيرها: تأسست على يد الحاخام أبراهام كوك، ربطت بين التوبة والخلاص والاستيطان. دعمت التوسع الاستيطاني وغيّرت جغرافية المنطقة بقيادة الحاخام تسفي كوك.

- دانييلا فايس وحركة "نحالا": بعد 2005، أسست فايس "نحالا" لتعزيز الاستيطان في غزة والضفة الغربية، تسعى لإقامة مستوطنات مؤقتة واستعادة السيطرة اليهودية على غزة بحلول 2025.

"إذا هطل المطرُ، فحتماً ثمّة ما تحضر له حركة غوش إيمونيم"، شاعت هذه "النُكتة" السمجة بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، للربط ما بين هطول المطر والتوسع الاستيطاني الذي قادته الحركة؛ فالمرأة التي سيرد اسمها بين هذه السطور كانت تتبارك بالمطر مع رفاقها الأوائل في حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية؛ إذ ما أن يتساقط "خير الرب" من السماء حتّى يهرع هؤلاء "الكوكيين" (نسبة للحاخام كوك)، إلى التلال باسطين أكياساً من النايلون لتفادي تلطيخ أقدامهم بوحل الأرض الفلسطينية، ليشيّدوا هناك خياماً قبل أن تتحول مع الوقتِ بيوتاً يعلوها القرميد الأحمر.

هكذا مع كل شتوة، كانت دانييلا فايس تكسو جسدها بما تيسر من ثيابٍ خارجةً تحت زخات المطر لتشغّل محركات "المصنع الاستيطاني". لن يمضي عقد ونيّف حتّى يتقلص نفوذ "غوش إيمونيم" التي كانت قد حظيت بدعم من السياسيين اليمينيين في حينه، وتعززت سيطرتها مع صعود "الليكود" للحكم عام 1977، ثم تأسيس قائمة "هتحيا" السياسية (التي انضوت فيها الأحزاب اليمينية موليدت وتسومت. بالإضافة لكاخ التي كانت قد تأسست قبل ذلك)، وهي التي تمسّكت جميعها بـ"أرض إسرائيل الكاملة" رداً على توقيع "كامب دايفيد".

وعلى الرغم من أنّ وجود الحركة انتهى تقريباً في أواخر الثمانينيات، وقائمة "هتحيا" لم تجتز العتبة الانتخابية منذ بداية التسعينيات، فإنّ جمرة فايس ذاتها لم تُخمد للحظة. فبعد أسبوع واحدٍ من مقتل مؤسس حركة "كاخ" الراف مئير كهانا، في نوفمبر/تشرين الثاني 1990، قابلت صحيفة "معاريف" فايس في منزلها بعدما كانت قد وقعت مع شركة مقاولات على عقدٍ لتشييد 1000 وحدة سكنيّة في مستوطنة "كدوميم" التي كانت عضواً في لجنة البناء في مجلسها، وكذلك أوّل من أقامت بيتاً ثابتاً فيها. وطبقاً لما ورد في المقابلة المؤرشفة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية، فإن فايس صرحت يومها بأن حركة "كاخ" التي دعمت "غوش إيمونيم" سياسياً وتلاقت معها "لم تمت"، معتبرةً أنها "في بداية الطريق فحسب".

وفي هذه الأيام، وبعد 50 عاماً من تأسيس "غوش إيمونيم"، وأكثر من ثلاثة عقود على مقتل داعمها كهانا وموت الكثير من الحاخامات الذين دعموها، تبدو حرب الإبادة المستمرة على غزّة فرصة لفايس وأمثالها لإزالة الصدأ عن آلات "المصنع الاستيطاني" الذي تعمل على إعادة تفعيله في القطاع أيضاً. ومع أنّ جريمة التهجير الممنهج التي تُمعن فيها آلة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة تقف خلفها منظومة متكاملة بطبقاتها السياسية والعسكرية والأمنية، والاجتماعية والاقتصادية المتعددة، غير أن لفايس دوراً محورياً في الجريمة التي تسامت فيها النظرية لتشارف مرحلة التطبيق. وليس من قبيل المبالغة إذا وُصفت فايس، ومن خلفها حركة "نحالا" التي تقودها هذه الأيام، باعتبارها "الصمغ" الذي يربط بين مختلف هذه الطبقات. وعلى هذا الأساس، لا يمكن تجاوز التهجير الممنهج دون الولوج إلى عقل فايس، وهي المتشربة من المدرسة "الكوكية"، فحتّى حركة "بني عكيفا" التي كانت عضواً فيها في صباها شُكلت بتشجيع من الحاخام أبراهام كوك الذي تُنسب الصهيونية الخلاصية إليه.

العقلية التي ولّدت دانييلا

"أتحلتا ديجئولا" (بالآرامية)، كما يرد في التلمود البابليّ، وتعني "بداية الخلاص" من الشتات اليهودي الذي يعتبره المتزمتون الحريديون عقاباً على الخطايا. هُنا تُعد "بداية الخلاص" توصيفاً للفترة التي تسبق "مجيء المسيح" (وفق العقيدة اليهودية)، وهو "ابن داوود؛ أكبر الملوك" (الركن 12 في الأركان التي أرساها الراف موشيه بن ميمون). وطبقاً لما تقدّم، فإن "الخلاص" منوطٌ بالتوبة عن الخطايا، من طريق تأدية جميع الفرائض الدينية، وبكلام آخر الشتات لن ينتهي قبل "مجيء المسيح"؛ ولهذا ثمة تيارات يهودية لا-صهيونية عارضت ولا تزال إقامة دولة يهودية تضع حداً للشتات اليهودي قبل ذلك.

لكن في مخالفة للتفسير السابق، نجحت المؤسسة الدينية اليهودية والتي شكّلت تيار الصهيونية الدينية- الذي شهد صعوداً نحو سدّة الحكم وتغلغلاً في مفاصله على مدى عقود- بصياغة معنى آخر للخلاص الذي "صُهِر" في "بوتقة" الدولة. أمّا أداة "الصهر" فلم تكن إلا الصهيونية، والتوسّع الاستيطاني ذاتهما؛ إذ منح هؤلاء الخلاص إطاراً نظرياً طُبق في تشييد المستوطنات. عملية "الصهر" هذه بدأت مع الراف المولود في روسيا عام 1865، أبراهام يتسحاق كوك، والذي يمكن وصفه بواضع الإطار النظري للمسيانيّة الصهيونية. وكان كوك، الحاخام الرئيس للأشكناز الذي عيّنه الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى لعموم فلسطين، وحاخام مدينتي يافا والقدس، والذي نجح خلال توليه المنصب في سنوات 1921-1935، في التشبيك بين التوبة والخلاص وربطهما بالصهيونية. فالخلاص، وفقاً لإيديولوجية كوك، يبدأ بالاستيطان في أرض إسرائيل من خلال الصهيونية، أمّا التوبة، بحسبه، فهي ليست مسألة فردية، بل جماعية. وهي باختصار تقوم، كما عرّفها، على أن "عودة شعب إسرائيل إلى أرضه وخلاصه القومي هي بحد ذاتها التوبة".

الراف كوك لم يترك نظرياته في كتبه، بل أسس "يشفاة مركاز هراف"، والتي تُعد أهم المدارس الدينية التي سيتخرج منها قادة التيار الصهيوني الديني، وأحدهم رفيق درب فايس في مسيرتها، غير أن هذه اللحظات المهمة في مسيرة كوك، وفي تاريخ الاحتلال لاحقاً، سبقتها معارضته الشديدة لقيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين. ولم يكن مرد ذلك لاعتقاده بأن قيامها مخالفاً للمشيئة الإلهية كما تمنح أقلية يهودية أرثوذكسية خارج إسرائيل وداخلها عناية كبيرة لذلك، بل لأن قادة الحركة الصهيونية لدى قيام إسرائيل كانوا علمانيين، ومنهم ملحدون، لا يؤمنون بالتوراة والأدب التلمودي؛ حيث حاولوا إسقاط حواشي الحضارة الغربية وفرضها ثقافةً موحّدة على جميع يهود العالم.

ومع ذلك، تلاقى كوك وأتباعه مع المعسكر الصهيوني العلماني؛ إذ اجتمعا على الإيمان بضرورة استيطان فلسطين من خلال فرض العنف والقوّة، حيث رأى الأول أن الحل يقوم على التطهير العرقي الشامل، ورأى الثاني أن الأمر يتطلّب إخضاع الفلسطينيين وفصلهم. ويبدو أن كوك وأتباعه في ذلك الحين، وفي إطار تشكيل مخرجٍ، استحضروا صورة "حمار المسيح" التوراتية، والتي تصف عودة "المشياح" إلى الأرض المقدسة راكباً على ظهر حمار أبيض، خلف ملاكٍ ينفخ ببوق. وكان العلمانيون الصهاينة هم "حمار المسيح" بنظر كوك، فهم المهاجرون لفلسطين الذين سيقتلون سكّانها الأصليين ويهجرونهم، ليقيموا الظرف الدنيوي (الدولة) الذي سيهيئ عودة "أبناء إسرائيل الحق" الذين سيحكمون العالم إلى جانب المسيح. لاقى كوك عملياً مفتاحاً لإدخال القوى المتحالفة من باب الهدف المشترك، تاركاً الصراع الفكري بين الصهاينة الدينيين والصهاينة العلمانيين، مُشرعاً. 

من أكمل درب الأب كوك كان نجله الحاخام تسفي (Zvi) كوك. فإذا كان الأب هو المنظّر فإن الابن هو المُطبّق؛ فقد أصبح القائد الروحي للتيار الصهيوني الديني ورئيس "يشيفات مركاز هراف"، والذي بدأ منذ العام 1952 تحديداً في استقطاب خريجي حركة "بني عكيفا" إلى مدرسته وبات تأثيره كبيراً على الأتباع بعد نكسة عام 1967 التي احتلت فيها إسرائيل أجزاء من دول الطوق. ومن هذا العام، بدأت أفكار الأب والابن تتحقق فعلياً، حيث عاشت "الكوكية" مراحلها الأكثر ازدهاراً إلى أن تمكّنت على مدى العقود الطويلة من البلوغ بالصهيوينة الدينية سدّة السلطة، وبرزت في أبلغ صورها منذ تشكيل حكومة "معسكر المؤمنين" في نهاية 2022، وصولاً لأنشطتها العريضة خلال حرب الإبادة المستمرة على القطاع.

اعتبر كوك الابن إذاً أن "قدوم اليهود إلى إسرائيل والاستيطان في يهودا والسامرة (التسمية التوراتية للضفة الغربية المحتلة)، هو من أهمّ محطات هذا الخلاص"، وانطلاقاً من ذلك، برز الابن كوك باعتباره القائد الروحي المؤسس لـ"غوش إيمونيم" عقب حرب 1973. شجّع كوك أتباعه من أعضاء الحركة الذين كانت فايس واحدة منهم، ثم رئيسة لهم، على إقامة مستوطنات في الضفة؛ حيث كان يقودهم من نواة استيطانية إلى أخرى، يواجه معهم محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي لتفكيك الخيام التي كانوا ينصبونها. إصرار كوك وحزم تلامذته، إلى جانب السياسات الممنهجة لسلطات الاحتلال، حوّلت المستوطنات في غضون سنوات، ثم عقود، من محض بؤر إلى واقع مغاير تماماً قلب جغرافية الضفة الغربية إلى الحد الذي قضى فيه على وهم "حل الدولتين" حتّى قبل توقيع اتفاقية أوسلو.

 في البدء قادت "غوش إيمونيم" ثم "نحالا"

في 28 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ظهرت دانييلا فايس بمقابلة مع "القناة 12"، لتوضح بفجاجة- غير مُستغربة- أنها منذ اندلاع الحرب دأبت على زيارة القطاع مرّة إلى مرتين أسبوعياً. ولدى سؤالها مع من نسّقت هذه الزيارات، ردّت بالقول "مع ضميري، ومع رفاقي في نحالا. يجب الاطلاع على الميدان عن كثب ومعرفة كل زقاق وكل مكان"، مشددة على اهتمامها "بدراسة المنطقة"، وعلى أن "هدفي هو الاستيطان في غزّة". ومع أن حركتها (نحالا)، أصدرت من جهتها بياناً ادعت فيه أن الزيارات "جرت بالقرب من حدود القطاع وليس في داخله"، شددت على أنها "تبذل جهوداً حثيثة للدفع بالاستيطان في القطاع". وعلى أثر ما سبق، من تكون دانييلا هذه؟ ومن أين تستحضر كل هذه الطاقة وهي في عقدها السبعين لإعادة بناء المستوطنات في غزة؟

في الـ30 من أغسطس/آب 1945 سيُرزق يعكوف (جوكي) مينتس، اليهودي المُهاجر من الولايات المتحدة، وزوجته بلها ليبيت بوفوبسكي المهاجرة من بولندا، واللذان نشطا في إطار حركة "الليحي" (المقاتلون من أجل حريّة إسرائيل)، بابنتهم البكر دانييلا مينتس. بعد سنة واحدة على ولادتها ستعود العائلة المُحافظة وذات الاتجاه الوطني القومي، من تل أبيب إلى نيويورك لإدارة بستانٍ كانت تملكه هناك، قبل أن تعود لاحقاً إلى فلسطين.

مسيرة الابنة مينتس التي ستتزوج لاحقاً من أمنون فايس، وتُكنى باسم عائلته، بدأت تحديداً في حركة "بني عكيفا" الشبابية، التي دعمها كوك. أنهت دانييلا تعليمها في المدرسة الثانوية في بني باراك، معقل الحريديم، قبل أن تتجنّد للجيش وتخدم في إطار ما يُعرف بـ"الاحتياط الأكاديمي". وفي سبعينيات القرن الماضي تحديداً، بدأت الطفرة في حياة فايس ونضالها الاستيطاني وخصوصاً في الضفة الغربية المحتلة. فبعد حرب أكتوبر/ تشرين الثاني 1973، وفي إطار "غوش إيمونيم" وجدت فايس ذاتها، رفقة زوجها، بين طلائع مؤسسي أنويّة "معراف شمرون" و"ألون موريه" الاستيطانيتين، والتي أخليت ووطّنت ثماني مرّات حتّى صدّقت حكومة الاحتلال على نقلها لمعسكر "كدوم"، والذي تحوّل بعد سنوات من ذلك لمستوطنة "كدوميم" التي تقيم فيها فايس. وخلال هذه الفترة، التقت الأخيرة مع الراف موشيه لفينغر خريج "يشيفاة مركاز هراف" وأحد أتباع كوك، تقاطع كلاهما في الإيديولوجية المُدافعة عن رؤية "أرض إسرائيل الكاملة"، وأسست صداقتهما للعديد من المبادرات والمشاريع الاستيطانية.

لم تكلّ فايس، حتّى بعد توقيع اتفاق أوسلو، الذي أتى عكس الرياح التي اشتهتها سفن الصهيونية الدينية والكهانية، تابعت فايس نشاطها، لتنتخب في العام 1996 للمرة الأولى لرئاسة مستوطنة "كدوميم" ثم لولاية جديدة في المنصب ذاته الذي أنهته في العام 2007. وخلال هذه السنوات، قادت توسيع الأحياء الجديدة للمستوطنة التي قضمت مساحات كبيرة من الأرض الفلسطينية، قياساً بمحدودية عدد مستوطنيها. وعلى أثر إنهائها الولاية الثانية، تقاعدت فايس من المناصب الإدارية الرسمية، لتنتقل للعمل مع لفينغر في منظمة "نحالا"، وتصبح الأُم غير البيولوجية لـ"نوعار هغفعوت" (شبيبة/ فتية التلال)، وهي الذراع الشبابية للتوسّع الاستيطاني في الضفة.

على مدار السنوات، كانت فايس شريكة في تأسيس "القناة السابعة"، والمدرسة التوراتية "يشيفات كدوميم"، ومعهد "كِتار" المجاور للأخيرة، وفي إقامة المستوطنة الزراعية "سدوت راحيل"، إضافة لمستوطنات "شفوت راحيل"، و"غفعات هرئيل". نشاطها الاستيطاني لأكثر من خمسة عقود، مكّنها في العام 2023 من نيل جائزة "مفعال حاييم للحفاظ على أرض الوطن" من حركة "رغيفيم" الاستيطانية التي يُعد وزير المالية، والوزير في وزارة الأمن، المتطرف بتسلئيل سموتريتش، من مؤسسيها. من جهة ثانية، دورها ذاته تسبب في فرض وزارة الخارجية الكندية، في حزيران/يونيو الماضي، عقوبات بحقها. 

فايس وإعادة الاستيطان في غزة

ردّاً على فكّ الارتباط عام 2005، أسست فايس مع الراف لفينغير حركة "نحالا" والتي تترأسها في هذه الأيام. تنشط حركتها بشكل رئيس في إقامة البؤر الاستيطانية وتنظيم الأنشطة المختلفة لتعزيز السيطرة اليهودية على الضفة ثم على غزّة، خصوصاً عقب الحرب، وذلك بموازاة تفعيل حركة "أمناه"، وهي الذراع الموطّن للمستوطنين، التي فُرضت عليها أيضاً عقوبات غربية. ومع أن لـ"نحالا" الكثير من القنوات المادية من داخل إسرائيل وخارجها، غير أن فايس وزوجها أمنون، اللذين يحوزان الكثير من العقارات المسجلة باسميهما، ساهما بشكل شخصي في دعم الاستيطان مادياً. 

وفيما يختلط دم الفلسطينيين بالطحين الذي يشتهونه في ظل إبادتهم وهم ينتظرون دورهم في طوابير الجوع، ويُعجن لحم أجسادهم بإسمنت بيوتهم التي سحقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية، تواصل فايس عبر حركة "نحالا" مخططها للاستيطان على أنقاضهم. وهو المخطط الذي لم ينتظر وقتاً طويلاً إثر اندلاع الحرب حتّى يصبح التداول فيه علنياً. ففي نوفمبر/تشرين الثاني من العام المنصرم، أُطلقت حملة "العودة إلى الوطن"، هدفت إلى ما يشبه إعداد "عصف ذهني" حول آليات العودة للاستيطان في غزة. وفي الفترة ذاتها، انعقد أوّل مؤتمر في أشدود ضم مجموعة منظمات استيطانية، بمشاركة أعضاء كنيست متطرفين من كتلة الصهيونية الدينية ليحدد المؤتمر أن الهدف ليس الاستيطان في "غوش قطيف" فحسب، وإنما على نطاق أوسع.

في غضون ذلك، زادت مروحة العمل من طاقتها لتضم 11 منظمة استيطانية بارزة في إطار ائتلاف "المنظمات للعودة إلى قطاع غزة وجميع مستوطنات شمال السامرة (الضفة)". ناقشت هذه المنظمات في اجتماعات سرية مخطط إعادة الاستيطان، عبر جذب الإسرائيليين إلى نوى استيطانية لإعادة بناء المجتمعات اليهودية السابقة في مستوطنات غزة ما قبل العام 2005، مع التركيز على الشروع بمناطق شمال القطاع. وفي مطلع العام الحالي، انعقدت الدورة الأولى من مؤتمر "الاستيطان في غزة" بمشاركة أعضاء كنيست ووزراء على نطاق واسع، جزءاً من الحملة المنظّمة التي تقودها "نحالا" بشكل أساسي، وفيه أعلن عن بدء تنفيذ المخطط القاضي بشراء 40 بيتاً متنقلاً ستوضع في غزة متى سنحت الظروف.

ولكون "نحالا" أبرز الفاعلين لإعادة الاستيطان في القطاع، نالت قسطاً مهمّاً من تقرير أعدته قناة "كان 11"، عُرض على شاشتها في 25  نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وبحسبه، نجحت فايس ومنظّمتها في جمع ملايين الشواكل من داخل إسرائيل وخارجها خدمة لخطة استيطانية خمسية تُدعى "خطة الارتباط"، الهادفة إلى استعادة السيطرة اليهودية على قطاع غزة بحلول عام 2025، وذلك من خلال إقامة مستوطنات مؤقتة على حدود غزة، وتعزيز البنية التحتية السياسية، والتغلغل في الائتلاف السياسي لتسهيل تنفيذ المشروع. وقد نجحت فايس ومنظمتها أساساً في ضمان تأييد أعضاء "الليكود" الحاكم ووزرائه لمخططها، فضلاً عن وزراء من الكتلة "الحريدية" التي كانت قد نأت بنفسها سابقاً عن مسألة الاستيطان في غزة.

ولأن فايس ترى بالاستيطان "فريضة إلهية" عدم تطبيقها يجلب "العقاب على شعب إسرائيل"، فقد بدأت أساساً بتثبيت مخططها على الأرض، حيث نجحت في جلب مئات العائلات اليهودية بالفعل إلى بؤر استيطانية أنشئت بالقرب من القطاع، تضم خياماً وبيوتاً متنقلة ومساحات للعب الأطفال، حيث تنتظر اللحظة المناسبة لنقلها إلى داخل غزة. ولدى مواجهة فايس خلال التقرير المذكور، بما قاله رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حول "عدم واقعية" الاستيطان في غزة، ردّت بأنّ ذلك "مجرد رسائل طمأنة للأميركيين". واليوم، بينما المنطقة والعالم يشدّان الأحزمة ترقباً لعودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للبيت الأبيض، وهو الذي كان على بُعد خُطوة من الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة، تقترب فايس من عقدها الثامن وهي تحلم بقضاء شيخوختها هناك... على بحر غزّة.