حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت دول البلطيق الصغيرة، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، تستشعر خطر "الجار الأكبر" الروسي.
فهي، مقارنة بدول أخرى في المعسكر الغربي كبولندا ومجموعة دول الشمال الاسكندنافية، أقل قدرة على مواجهة القدرات الهائلة لروسيا التي تعرف تفاصيل ما يدور في مجتمعاتها الصغيرة، حيث إن تلك الدول عاشت لعقود في كنف الاتحاد السوفييتي السابق.
ومن حيث عدد السكان: تضم أستونيا 1.3 مليون نسمة، ربعهم من الناطقين بالروسية، ولاتفيا نحو 1.9 مليون، ربعهم أيضاً أقلية روسية، فيما تضم ليتوانيا نحو 3 ملايين نسمة منهم 6 بالمائة من الروس.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أعلنت الدول تباعاً استقلالها، وسرعان ما أخذت نهجاً متقارباً مع الغرب وانضمت لاحقاً إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو) في 2004.
الامتعاض الروسي من تفلت دول البلطيق الصغيرة من حيزه الاستراتيجي تكرر مرات عدة، وبعد نحو 10 سنوات على عضوية "الأطلسي" ومع احتلال روسيا شبه جزيرة القرم والتدخل في إقليم دونباس بأوكرانيا في 2014، عاد شبح التاريخ مجدداً ليقض مضاجع مجتمعات دول البلطيق، المنقسم بعضها على نفسه دينياً ولغوياً وولاءات، وزادت خشيتها من نفوذ الكرملين من خلال الأقليات الناطقة بالروسية.
وتسبب استخدام موسكو سردية الأقليات والناطقين بالروسية تبريراً لتدخلها في دول الجوار في توجه دول البلطيق أكثر نحو الغرب، فزادت خلال السنوات التسع الماضية عمليات انتشار مئات الجنود من "الأطلسي" على حدود تلك الدول مع الفضاء الروسي، بما في ذلك ليتوانيا المتاخمة لجيب كالينينغراد الروسي على البلطيق، على بعد نحو 40 كم عن عاصمتها فيلنيوس التي تحتضن قمة "الأطلسي" يومي الثلاثاء والأربعاء.
وحتى قبل الحرب الأوكرانية، ظلت دول البلطيق أشبه بالخاصرة الرخوة للجزء الأوروبي من "الأطلسي".
منذ عام 2017، سعى الحلف لتعزيز دفاعاته في المنطقة، التي دفع إليها بقوات قتالية متعددة الجنسيات الغربية، مع تواصل عمليات تشييد ثكنات وبنى تحتية عسكرية كان من المفترض أن تنتهي في 2025. وجاءت الحرب في أوكرانيا لتسرع، منذ 2022، خطى الحلف تحت مسمى "تعزيز الجناح الشرقي" للأطلسي، ممتداً من البلطيق إلى رومانيا وبلغاريا ومروراً بالتشيك وسلوفاكيا.
وجرى تبني توسيع القوة القتالية في ذلك الجناح في القمة "الأطلسية" الماضية في مدريد، العام الماضي، حيث نشر الناتو المزيد من السفن الحربية والطائرات والقوات، ووعد بزيادة عدد القوات في حالة تأهب قصوى من 40 ألفاً إلى 300 ألف، كما هو مطروح اليوم.
في الواقع، يريد "الأطلسي"، ويشمل ذلك البلطيق، أن يكون قادراً على الزج بنحو 100 ألف جندي في غضون ما لا يزيد عن 10 أيام في حال اندلاع نزاع مسلح، ونحو 200 ألف في غضون 10 أيام إلى 30 يوماً، ونحو نصف مليون مقاتل حتى 6 أشهر.
على ذلك، استدعت دول البلطيق اهتماماً عسكرياً أميركياً مؤخراً، حيث يشرف الجنرال الأميركي والقائد الأعلى لحلف الناتو في أوروبا كريستوفر كافولي، بحسب صحيفة "نيو زورخر زايتونغ" السويسرية، على "وضع خطط دفاعية مفصلة وسرية للعمليات في أوروبا"، ومنطقة البلطيق في قلبها، لكن ذلك على ما يبدو غير مرض لساسة دول البلطيق.
وإذا كانت الخطط الأطلسية، بحسب معلومات سربت إلى وسائل إعلام بينها الإيكونوميست، قبل مدة، تمتد من الساحل الشرقي لأميركا الشمالية إلى المملكة المتحدة والنرويج وتقاد من مركز القيادة في نورفولك في ولاية فيرجينيا، ومن قاعدة برونسوم في هولندا ومن إزمير التركية، فإن توسع الحدود بين الأطلسي وروسيا يزيد أعباء هذا الحلف في شمال شرق القارة الأوروبية.
سابقاً، وحتى سقوط جدار برلين في عام 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي في 1991، لم تكن حدود المواجهة بين الناتو وروسيا أكثر من 1400 كم تقريباً، بين ما كان يُعرف آنذاك بألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية. أما الآن، فإن فنلندا وحدها لديها حدود مع روسيا بطول نحو 1300 كم، وامتداداً إلى مولدوفا (مولدوفيا) جنوباً.
وإلى جانب التحدي الذي يواجه "الأطلسي" في القدرة على نقل القوات والعتاد بسرعة إلى مراكز الأزمات التي تهدد على طول خط المواجهة، ثمة معضلة أخرى في دول البلطيق الصغيرة.
فعلى رغم الزيادة الملحوظة في وجود الحلف ضمن عموم منطقة بحر البلطيق، تبقى احتمالية لعب الكرملين على وتر الأقلية الروسية في دوله، إلى جانب أن ساسة هذه الدول ينتقدون تردد "الأطلسي" في الزج بالمزيد من قدراته العسكرية في بلادهم.
وأطلق بعض المسؤولين البلطيقيين مؤخراً جرس الإنذار بعد توارد الأخبار القائلة إن قوات المرتزقة الروس من فاغنر باتوا في بيلاروسيا، وكرر وزير الخارجية الليتواني جابريليوس لاندسبيرغيس أن "ذلك يمكن أن يخلق مزيداً من عدم الاستقرار وعدم اليقين في المنطقة".
وبرغم تأكيد أمين عام حلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ، على هامش مناورات "بابراد" في ليتوانيا، استعداد الحلفلـ"الدفاع عن كل شبر من أراضيه"، فإن دول البلطيق تبدي عدم رضاها على وتيرة نشر قوات الأطلسي فيها، وأحياناً عدم الإيفاء بالوعود.
وعلى ضوء الانتقادات تلك، أعلن وزير الدفاع الليتواني بوريس بيستوريوس، في 28 يونيو/حزيران الماضي، أن الجيش الألماني يوسع وجوده في ليتوانيا إلى لواء من 4000 جندي سيتمركز بشكل دائم في ليتوانيا. أكد بيستوريوس أن دول البلطيق وبولندا على طول الجناح الشرقي للناتو هي المهددة اليوم بشكل خاص، "وهناك حاجة للمزيد من أجل حماية أراضي الحلف".
في المحصلة، فإن نظرة سريعة إلى عديد قوات دول البلطيق توضح أسباب المخاوف من هزات ولو صغيرة تصيبها، فلاتفيا لديها فقط 7500 عسكري، بينما تحتضن 4500 جندي من الناتو، ولدى استونيا 10 آلاف عسكري و2200 من الناتو، في حين أن ليتوانيا لديها أكثر من 17 ألف جندي بقليل ونحو 4 آلاف من الناتو، وبولندا لديها أكثر من 122 ألفاً في الخدمة ونحو 11 ألفاً و500 من قوات الناتو.