يصرّ الرئيس التونسي، قيس سعيّد، على أنه يجري حواراً. يلتقط صوراً مع من يريد من أعضاء المنظمات الوطنية ويستثني منهم من يريد، ويعتبر ذلك من قبيل الحوار. في المقابل، يؤكد كثر ممن شاركوا في هذه الاجتماعات أنها لم تكن سوى لقاءات بروتوكولية، باستثناء عميد المحامين، إبراهيم بودربالة، الذي يستبسل في الدفاع عن سعيّد.
ويريد الرئيس أن يوحي للخارج قبل الداخل، بأنه يجري حواراً وطنياً، قبيل انطلاق محادثات مع "صندوق النقد الدولي" تعتبر مصيرية بالنسبة لخزينة حكومة نجلاء بودن، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولكن يبدو أن ذلك لم يقنع المراقبين في الخارج الذين يعرفون طبعاً كل صغيرة في البلاد.
ولكن الرهان الحقيقي يبقى على الداخل، على الرغم من أهمية الخارج في التوازنات الاقتصادية في هذه المرحلة. ومنذ أن أقدم سعيّد على مغامرته قبل 8 أشهر، تبيّن أنّ سنوات الحرية نجحت في نحت نواة تدافع عنها، كما صمدت الديمقراطية الوليدة في الدفاع عن نفسها، واستبسل ديمقراطيون حقيقيون في الدفاع عن بلادهم وعن ديمقراطيتهم، على الرغم من كل الخلافات الكبيرة التي كانت بينهم على امتداد سنوات.
ويكفي في هذا الإطار، متابعة ما يبذله أحمد نجيب الشابي من جهد ليجمع الفرقاء ويقنعهم بجدوى التوحد في مقاومة الانقلاب وتأجيل معاركهم إلى ما بعد استعادة مؤسسات الدولة الديمقراطية. ولكن متابعته، وهو يتنقل من مدينة إلى أخرى، من فوق سنواته السبعين، وتقدمه كمحامٍ أمام القضاء عن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، يجعلك أيضاً تشعر بالأسف على الفرص المهدورة والوقت الضائع والخيارات الخاطئة.
لقد كان نجيب الشابي، بكل أخطائه السياسية (ومن لا يخطئ؟)، رجلاً ديمقراطياً حقيقياً، مناضلاً أصيلاً حمى الجميع قبل الثورة وبعدها، وكان متاحاً على امتداد السنوات العشر الأخيرة أمام الجميع. ولكن حسابات "النهضة" وغير "النهضة" وأوهامهم، ضيّعت الشابي وغيره، وأضاعت على البلاد سنوات لا أحد يعرف إن كانت ستسترجعها أم لا.
وفي كل الأحوال، تقف الديمقراطية التونسية مُدافعة عن نفسها. وعلى الرغم من كل الخيبات، بدأ يتشكل وعي جديد لدى جزء من الطبقة السياسية بضرورة تغيير حساباتها في تحديد أولوياتها، بينما لا يزال آخرون يتوهمون أن وقتاً لا يزال متاحاً أمامهم للمناورة والحسابات السياسية الصغيرة، وهم في الحقيقة يضيّعون أنفسهم وأحزابهم وبلادهم بسبب معارك قديمة، هي تافهة أمام مصير بلاد ومصير جيل حالم بالحرية وبحق الاختلاف.
ويبدو أن الشابي، لأنه ديمقراطي في العمق، فهم هذه المعادلة قبل غيره ووقف وسما فوق كل الخلافات، حتى لا تضيع اللحظة التونسية.