عادت أعمال العنف التي اندلعت في ضاحية سيفران الباريسية، في الشمال الشرقي من العاصمة الفرنسية، وامتدت لثلاث ليالٍ متتالية منذ ظهر السبت الماضي، إثر مقتل رجل يبلغ من العمر 34 عاماً برصاص الشرطة، لتذكّر فرنسا بمعضلة الضواحي الفرنسية، والهشاشة التي تعكسها على الصعيد الوطني.
أزمة الضواحي في فرنسا: غياب الجدل الانتخابي
وتخفت معضلة الضواحي، في الخطاب الانتخابي للمرشحين الرئاسيين قبل أقل من أسبوعين على الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، والتي تجرى في 10 إبريل/ نيسان المقبل، لحساب "القدرات الشرائية"، وأي تداعيات أخرى يفرضها الحدث الروسي - الأوكراني في شرقي أوروبا.
وحده، المرشح الرئاسي المثير للجدل، إريك زيمور، والذي يمثل أحد وجوه اليمين المتطرف، توجّه أمس الثلاثاء إلى سيفران، ليستثمر في أحداثها، ولـ"دعم الشرطة" في وجه المحتجين، على الرغم من أن أحداث هذه الضاحية، التي تعد من الأكثر فقراً في البلاد، لم تطاول هذه المرة، أو تزجّ، المجتمع المسلم الذي يشكل نسبة كبيرة من سكاّنها.
وتواصل هذه الاحتجاجات وأعمال الشغب في الضواحي الفرنسية التعبير عن نفسها كرد فعل مزمن على ما يصفه سكّانها بالحرمان وتهميش الدولة، بغضّ النظر عن الإسقاطات السياسية التي تصبغها، فيما غاب أي طرح للمرشحين، لانتهاج مقاربة إصلاحية وتصحيحية مختلفة، سواء من اليمين أو اليسار.
اندلعت أعمال العنف إثر مقتل رجل برصاص شرطي بسبب سرقة شاحنة
وتوجه إريك زيمور، أمس، إلى قسم الشرطة في سيفران، لدعمها، في وجه شبّان من المنطقة احتجوا بعنف على مدى ليلتين متتاليتين، بعد مقتل المواطن جان بول، من أصول هايتية، برصاص شرطي أطلق النار عليه أثناء قيادته شاحنة صغيرة أبلغ ربّ عمله الشرطة أن الضحية كان قد سرقها.
أحداث سيفران: قتيل برصاص الشرطة
وبحسب رواية سكّان حي بودوت، في هذه الضاحية التابعة لمنطقة سين سان دوني، فإن "بروفايل" القتيل كان أبعد ما يكون عن أصحاب الجنح، أو منتهكي القانون، الذين يشتهر بملاحقة الشرطة لهم في سيفران، إذ كان يطالب ربّ عمله بأموال له، وقام باحتجاز شاحنة الأخير اعتراضاً.
وبعد إبلاغ ربّ العمل عن سرقة الشاحنة، طاردت الشرطة الضحية، وقام شرطي بإطلاق النار على رأس جان بول الذي كان خلف مقود الشاحنة المسروقة، ما أدى إلى وفاته على الفور بعدما تحرك بالشاحنة أمتاراً قليلة إلى الأمام.
وتعبيراً عن غضبهم، خرج عدد كبير من شبّان سيفران، بالإضافة إلى شبّان من منطقة أولنيه سو بوا المجاورة، لثلاث ليال متتالية منذ يوم السبت الماضي، إلى الشوارع، احتجاجاً على ما وصفوه بـ"الظلم" و"جريمة القتل" على يد الشرطة. وأكد المحتجون، الذين أحرقوا مكبّات القمامة، وباصاً في أولنيه سو بوا، بالإضافة إلى مهاجمة رجال الشرطة، الذين اشتبكوا معهم في عمليات كرّ وفرّ، أن الشرطي مطلق النار كان بإمكانه تعطيل حركة الشاحنة ومنع هروب الضحية من دون تصويب النار على رأسه.
ورداً على ذلك، أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، أمس الثلاثاء، أن تحقيقاً بدأ في اضطرابات سيفران. وكتب على "تويتر": "يجرى تحقيق بشأن تدخل الشرطة بعد ظهر السبت الماضي في سيفران. جرى اعتقال 16 شخصاً في مطلع الأسبوع، بعد أعمال عنف وتخريب، كما اعتقلت الشرطة 13 مساء أمس".
ربط زيمور أحداث سيفران بنظرية الاستبدال الكبير وأزمة المهاجرين
وتعدّ سيفران أحد النماذج الأكثر سطوعاً للتهميش الذي تعاني منه الضواحي الفرنسية، إذ على الرغم من خطط التحديث الحضري التي طاولتها، إلا أنها تبقى موصومة بالفقر والبطالة والعنف، وترتفع فيها نسبة السرقات، بالإضافة إلى صعود "الطائفية المجتمعية" في هذه المنطقة التي بات المهاجرون يشكلون أغلبية سكّانها. ووفقاً لإحصاء أجراه معهد "إينسي" (المعهد الوطني للدراسات والإحصاءات الاقتصادية)، في عام 2014، فإن 31.4 في المائة من سكّان سيفران، يعيشون تحت خط الفقر.
ولهذه الضاحية الباريسية، الموصومة أيضاً بتجارة المخدرات، تاريخ من العنف مع الشرطة، فيما كان رئيس بلديتها (السابق) ستيفان غاتينيون قد قدّم استقالته في عام 2018، رفضاً لـ"مواصلة الدولة جعل الضواحي عالماً مرادفاً، وهيكلته على أساس أنه عالم بدائي".
وفي عام 2017، اكتسبت سيفران لقباً جديداً، لتصبح "مولنبيك فرنسا"، نسبة إلى حي مولنبيك البلجيكي، والذي اشتهر صيته واتهم أوروبياً خلال الأعوام الماضية باحتضانه نسبة كبيرة من الشباب المسلم المتطرف، بعد انطلاق بعض منفذي هجمات باريس الإرهابية في عام 2015 منه. ولقبت سيفران بـ"مولنبيك فرنسا"، بسبب توجه حوالي 15 شاباً منها خلال تلك الفترة إلى سورية والعراق للانضمام إلى تنظيم "داعش".
ومنذ أحداث الضواحي في فرنسا في عام 2005، لا تزال أزمة الضواحي الفرنسية عالقة بين سياسات الدولة المتخبطة، والتي تقاربها إما من بوابة محاربة "النزعات الإسلامية"، أو من خلال سياسات اقتصادية ترقيعية، لا تتلاءم مع حاجات البنية التحتية اللازمة لنهوض هذه الضواحي إنمائياً وتعليمياً، لتبقى مصبوغة بعمليات الإفقار من جهة، والصعوبات السكنية والتعليمية والصحية وتزايد الانحراف المجتمعي من جهة أخرى.
وفي ظلّ حملة انتخابية رئاسية طغى عليها الحدث الأوكراني، لم يعد الحديث عن الضواحي بنداً أساسياً على جدول حملات المرشحين الرئاسيين الفرنسيين في هذه الدورة، على الرغم من جنوح أبرزهم نحو اليمين واليمين المتطرف، بمن فيهم الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي كانت له مقاربات عدة لـ"المصالحة المجتمعية" خلال ولايته الرئاسية الأولى التي تنتهي في مايو/ أيار المقبل. ولم يقدم ماكرون، الذي يصفه البعض بـ"رئيس الأغنياء"، حتى الآن، برنامجاً إصلاحياً واضحاً ومختلفاً لمعالجة أزمة الضواحي، بل جنح نحو تعديل مقاربة الأزمة، ومنها خطط لمعالجة كل أزمة على حدة، كأزمة تجارة المخدرات، أو الانخراط الهوياتي، أو غيرها.
ويتكرس التطرق إلى هذه الأزمة، من بوابة الهجرة والمهاجرين، والتي تزداد حدة، مع الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي فتحت باباً جديداً لتدفق المهاجرين إلى غرب أوروبا.
هكذا، مرّت أحداث سيفران، مرور الكرام، حيث ترك لإريك زيمور وحده، مهمة استغلال شغب هذه الضاحية، لإدانته وفق نظرية "الاستبدال الكبير"، والذي قال أمس، إن أحداث سيفران هي مجدداً أحد تداعياته.
(العربي الجديد)