توفيت الملكة البريطانية إليزابيث الثانية، اليوم الخميس، بعد تدهور وضعها الصحي، في قصر بالمورال في اسكتلندا، منهية 70 عاماً من الحكم المستمر في البلاد، وهي أطول فترة حكم لشخص واحد في العصر الحديث، وممهّدة الطريق لوريث تنتظره مهمات عدة، ضمن نطاق صلاحياته الملكية، لكن أبرزها كسب الشعبية التي حصدتها الملكة الراحلة في حياتها.
لم تكن بريطانيا الخارجة من جحيم الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، مثل معظم أنحاء العالم عموماً وأوروبا خصوصاً، في وضع يُحسد عليه. فالداخل البريطاني كان يعاني من الإفرازات السلبية للحرب، تحديداً على الصعيد الاقتصادي، والمواطنون الذين رحّبوا بخطوات حكومة "العمال" بقيادة كليمنت أتلي، بما يتعلق بإنشاء "دولة الرفاه"، شهدوا اقتراب بريطانيا من الإفلاس، بفعل النفقات الهائلة التي كانت تتكبّدها، وديون إعادة الإعمار.
في المقابل، كانت الثقة مفقودة بين المواطنين والهيكلية الملكية في البلاد، على خلفية حكم الملك إدوارد الثامن، عمّ إليزابيث الثانية، والذي لم يدم في الحكم سوى 327 يوماً، قبل التنازل عن العرش، بسبب زواجه من سيدة مطلّقة، وهو أمر غير مسموح به في النظام الملكي، وذلك في عام 1936. وفي ظلّ هذه الأجواء، توفي الملك جورج السادس، والد إليزابيث الثانية، بسبب سرطان الرئة، في 6 فبراير/شباط 1952، لتخلفه ابنته، كثالث ملكة تصل للعرش، بعد آن (1707 ـ 1714) وفيكتوريا (1937 ـ 1901). وبينما كان والدها يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعدته إليزابيث بأن تبقى ملكة طالما هي حيّة، وهو ما وفت به بالفعل.
عام 1952، بدت ابنة الـ25 من العمر وكأنها صورة جديدة لبريطانيا المستقبلية، التي ستشهد تطورات عدة، سواء في السياسة الخارجية أو الداخلية. وكان واضحاً أن الإنفاق الكبير على مستعمرات مثل الهند، ساهم في الضغط على الاقتصاد البريطاني، سمح استقلال الهند وباكستان في عام 1947، ببروز حركة استقلالية كبيرة في عهد إليزابيث الثانية. واستقلت أنتيغوا وبربودا، والباهاماس، والبحرين، وباربادوس، وبليز، وبوتسوانا، وبروناي، وقبرص، والدومينيكا، وإيسواتيني (سوازيلاند سابقاً)، وفيجي، وغامبيا، وغانا، وغرينادا، وغويانا، وجامايكا، وكينيا، وكيريباتي، والكويت، وليسوتو، ومالاوي، وماليزيا، والمالديف، ومالطا، وجزر موريشيوس، وناورو، ونيجيريا، وعمان، وقطر، وسانت لوسيا، وسانت كيتس ونيفيس، وسانت فينسنت وغرينادين، وسيشيل، وسييراليون، وجزر سليمان، وصوماليلاند (إقليم في الصومال)، واليمن الجنوبي (قبل الاتحاد مع اليمن الشمالي)، والسودان، وتنجانيكا (قبل الاتحاد مع تنزانيا)، وتونغا، وترينيداد توباغو، وتوفالو، وأوغندا، والإمارات، وفانواتو، وزامبيا، وزيمبابوي.
ومع أن رحلة الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، كانت جزءاً من تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن استقلال دول عدة عن فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا وغيرها، إلا أن البريطانيين، حافظوا على وجود في دول أخرى ضمن منظمة "الكومنولث"، التي ترأسها الملكة.
وشهد عهد إليزابيث الثانية تطورات عدة على صعيد العلاقة مع أوروبا، تحديداً انضمام بريطانيا إلى الاتحاد في عام 1973، بعد سنوات من عرقلة فرنسية قادها الجنرال شارل ديغول بحجة أن "خصائص الاقتصاد البريطاني لا تتفق مع أوروبا". وهي نفسها شهدت الانسحاب الرسمي للندن من بروكسل في عام 2021. وفي حين تسلّمت العرش خلال حكومة ونستون تشرشل الثالثة في عام 1952، ومباركتها الحكومة الجديدة بقيادة ليز تراس، إلا أن الملكة الراحلة رافقت حكم 15 رئيساً للحكومة، وهم أنتوني إيدن (1955 – 1957)، وهارولد ماكميلان (1957 ـ 1963)، وأليك دوغلاس هوم (1963 – 1964)، وهارولد ويلسون (1964 – 1970)، وإدوارد هيث (1970 – 1974)، وهارولد ويلسون مجدداً (1974 – 1976)، وجيمس كالاهان (1976-1979)، ومارغريت تاتشر (1979-1990)، وجون ميجور (1990-1997)، وتوني بلير (1997-2007)، وغوردون براون (2007-2010)، وديفيد كاميرون (2010-2016)، وتيريزا ماي (2016-2019)، وبوريس جونسون (2019-2022) وليز تراس التي سمّتها الملكة رئيسة للحكومة يوم الثلاثاء الماضي، حين التقطت آخر صور لإليزابيث.
رافقت الملكة الأزمات العسكرية التي تورّطت بها بريطانيا، وأبرزها العدوان على قناة السويس المصرية، بمشاركة فرنسا وإسرائيل، في عام 1956
وعرفت الملكة مآزق دستورية في بدايات حكمها، خصوصاً لجهة تعيين رئيس للوزراء، إذا كان من حزب "المحافظين"، في ظلّ غياب أي آلية حزبية لذلك. ووقعت الملكة في الحرج مرتين: مرة باختيارها ماكميلان ومرة باختيارها دوغلاس هوم. وتعرضت لانتقادات عدة بسبب ذلك، غير أن المحافظين شكّلوا آلية خاصة بهم كي لا تتكرر تلك المواقف.
رافقت الملكة الأزمات العسكرية التي تورّطت بها بريطانيا، وأبرزها العدوان على قناة السويس المصرية، بمشاركة فرنسا وإسرائيل، في عام 1956، وحروب الاستقلال العربية وغيرها. وتابعت الملكة الراحلة حرب جزر الفوكلاندز (جزر المالفيناس بحسب التسمية الأرجنتينية) في عام 1982. كما قاتلت القوات البريطانية في عهدها إلى جانب الحلفاء في الحرب الكورية (1950 ـ 1953)، وحرب الخليج (1990 ـ 1991) والحروب البلقانية في التسعينيات وأفغانستان (2001 ـ 2021) والعراق (2003 ـ 2009).
ومع أن عهدها شهد صعود "الجيش الجمهوري الأيرلندي" ووقوع صدامات دموية مع لندن، لنحو 30 عاماً، إلا أنه انتهى بتوقيع اتفاقية "الجمعة العظيمة" في عام 1998، التي أرست السلام في بلفاست وفي لندن وبينهما. لكن إليزابيث الثانية شهدت انتفاضة استقلالية لاسكتلندا، انتهت بفشل الانفصال بعد تصويت المستفتين الاسكتلنديين في سبتمبر/أيلول 2014 على خيار البقاء ضمن المملكة البريطانية.
ظهرت ملامح النظام الملكي الجديد المفتوح على التدقيق الإعلامي. وتحظى الملكة بشعبية كبيرة في بريطانيا وخارجها، وهو ما كان بحسب مراقبين عاملاً أساسياً في استمرار النظام الملكي في بريطانيا. وحصدت الملكة شعبيتها من حضورها المناسبات العامة ومن رسائلها المتلفزة في مناسبات كعيد الميلاد والأهم من ابتعادها عن السياسة وعدم التدخّل فيها.
ولعل من أبرز الملفات التي طاولتها في الشق العائلي، كانت علاقتها بأميرة ويلز ديانا، الزوجة السابقة للأمير تشارلز. وقد وصفت الملكة إليزابيث سنة وفاة الأميرة ديانا، في عام 1997، بأنها أسوأ سنة مرت عليها منذ توليها الحكم؛ ففي تلك الفترة وُجهت اتهامات كثيرة للملكة بأنها لم تحسن التصرف مع ديانا التي خطفت الأضواء، وصُنفت على أنها المرأة الأكثر شعبية في العالم، وفي سنة وفاتها وصلت شعبية الملكة إلى أسوأ مستوياتها.
وقدم كتاب "المزرعة" لمؤلفته بيني جينور صورة عن العلاقة المتوترة التي جمعت بين السيدتين: "الملكة اعتادت منذ صغرها على الفصل بين حياتها الخاصة والحياة العامة، أما الأميرة ديانا فهذه حياة جديدة عليها وتتعامل ببساطة مع الناس". وذكر الكتاب أن مشكلة الأميرة ديانا مع المحيط الملكي أنها كانت مختلفة، وفي أسرة عريقة لها قواعدها الصارمة، فالاختلاف يعني خروجاً عن الأعراف وعن المألوف. وتقول تفسيرات كثيرة إن الصد الذي قوبلت به ديانا في القصر كان من أسباب تعاستها، ويضاف إليه طلاقها من الأمير تشارلز سنة 1996، إلى أن لقيت مصرعها بطريقة مأساوية في العاصمة الفرنسية باريس.
وفي العام الماضي (2021) توفي زوج الملكة فيليب، الذي رافقها من الصفوف الخلفية في العقود الطويلة. وبعدها بدأت معاناتها من مشاكل صحية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ملغية نشاطات وزيارات عدة. وتغيبت الملكة عن احتفالات اليوبيل البلاتيني، بمناسبة مرور 70 عاماً على حكمها، التي أقيمت في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، إلا أنها حضرت في ختام الاحتفالات لدقائق قليلة على شرفة قصر باكنغهام برفقة أربعة أجيال من ورثتها.
وكان استقبالها قبل يومين لرئيس الحكومة البريطانية السابق بوريس جونسون، ورئيسة الحكومة الجديدة ليز تراس للإشراف على انتقال السلطة هو آخر نشاط رسمي تقوى على القيام به، بعد أشهر من التراجع العام في صحتها. واحتفلت الملكة إليزابيث الثانية بالذكرى الـ70 لتولّيها الحكم في يونيو/حزيران الماضي.
لعل من أبرز الملفات التي طاولتها في الشق العائلي، كانت علاقتها بأميرة ويلز ديانا، الزوجة السابقة للأمير تشارلز
ولدت إليزابيث الثانية، الابنة الكبرى لوالدها الملك جورج السادس ووالدتها الملكة إليزابيث، في 21 إبريل/نيسان 1926، ولها شقيقة واحدة وهي مارغريت المولودة في عام 1930. ووفقاً للتقاليد الملكية، قُرعت مع ولادتها فجراً أجراس كنيسة القديس بولس وأُطلقت النيران في الحديقة الشهيرة هايد بارك ومن برج لندن، مما منح الناس بعض البهجة وسط الأزمة الاقتصادية في حينه.
ورحلت أمس الخميس، في خضمّ أزمة اقتصادية موجعة أيضاً. وعلى مدى العقود السبعة أثبتت قدرة هائلة على الثبات وتحمّل المسؤولية حتى عند رحيل زوجها الأمير فيليب في 9 إبريل 2021 وكان في سن الـ99، وأيضاً بعد إصابتها بفيروس كورونا قبل أشهر ما جعلها "مرهقة ومتعبة للغاية" على حدّ تعبيرها.
وكان تتويجها في الثاني من يونيو عام 1953 من أبرز محطّات حياتها، وتحمّلت مسؤولية كبيرة في سنّ مبكرة وتم تتويجها في "ويستمينستر آبي" وكان الحفل الأول الذي يبث على الهواء مباشرة. وشاهده نحو 27 مليون بريطاني من إجمالي عدد السكان الذي بلغ حينها 50 مليوناً، واستمع عبر الراديو إلى مجريات التتويج 11 مليونا آخرين.
وبين 18 مايو/أيار 1965 و28 منه، زارت الملكة الراحلة ألمانيا الغربية، بمناسبة الذكرى السنوية العشرين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، مما ساعد على ترميز المصالحة بين البلدين والاعتراف بعودة ألمانيا إلى الظهور كقوة في أوروبا وعلى المسرح العالمي. وخلال جولة ملكية في أستراليا ونيوزيلندا مع زوجها الأمير فيليب في ربيع عام 1970، خالفت الملكة قروناً من التقاليد الملكية عندما قامت بنزهة غير رسمية لتحية الحشود المتجمهرين، بدلاً من التلويح لهم من مسافة محمية.
وكما خالفت الملكة قبل يومين الأعراف والتقاليد عبر استقبالها رئيس الحكومة الجديد في اسكتلندا وليس لندن أو ويندسور، قرّرت الملكة بعد وفاة ديانا البقاء في قصر بالمورال رافضة رفع الأعلام لترفرف فوق قصر باكنغهام، كما امتنعت عن مخاطبة البريطانيين الذين أصابهم رحيل "أميرة الشعب" بحزن شديد. إلا أنها رضخت للضغوط وسمحت برفع الأعلام وعادت إلى لندن لتحية حشود المعزّين وألقت خطاباً متلفزاً.
وإن كان زواج عمّها من سيدة أميركية مطلّقة مخالفاً التقاليد، قد حمل إليزابيث إلى عرش البلاد كأول حدث جلل في حياتها، فإن زواج حفيدها الأمير هاري من ميغان ماركل الممثلة الأميركية المطلقة أيضاً كان الحدث الجلل الأخير قبل وفاة زوجها الأمير فيليب. وظهر الزوجان على وسائل الإعلام مرات كثيرة وخرقا السرية المحيطة بالعرش ووجّها انتقادات لاذعة للصورة المقدّسة المحيطة بالعائلة الحاكمة مما أدى إلى تدهور العلاقة بينهما وبين القصر.