تكثف السلطة والأحزاب والمنظمات المدنية الموالية، والمؤيدة للدستور في الجزائر، الخطى والتجمعات واللقاءات الحوارية، لإقناع الناخبين على مستويين؛ الأول الذهاب إلى صناديق الاقتراع، والثاني الحصول على أكبر تأييد لصالح الدستور، وذلك في غضون الأيام المتبقية من الحملة الدعائية التي تنتهي في 27 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وسط تكهنات بنسبة مشاركة مرتفعة مقارنة مع الاستحقاقات السابقة.
ودخلت الحملة الانتخابية للاستفتاء على تعديل الدستور المقرر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أسبوعها الأخير، وتصاعدت معها وتيرة الحملة الدعائية. وفي محاولة لإنقاذ الحملة بعد فتور لافت لناحية التفاعل الشعبي، بدأت السلطات تحفّز المنظمات والقوى المدنية على تنظيم استعراضات انتخابية في الشارع، ولقاءات حوارية في القرى والبلدات، لإقناع الناخبين بضرورة الذهاب إلى صناديق الاقتراع من جهة، والتصويت لصالح الدستور من جهة ثانية. وانتظمت استعراضات في مدن عدة كالطارف وجيجل شرقي الجزائر، وتيبازة والبليدة وسط البلاد، وتمنراست واليزي جنوبي الجزائر. كما انتقلت قوافل انتخابية إلى بلدات في ولاية تيسمسيلت وعين تموشنت غربي البلاد. وقبل أيام، أعلنت الحكومة عن مشروع لتوزيع آلاف الشقق السكنية عشية الاستفتاء الشعبي، وفي الغالب تستخدم السلطة السكن أيضاً ضمن الإغراءات الاجتماعية لإجبار السكان على الانتخاب، إذ كانت بعض البلديات في وقت سابق تطلب من طالبي السكن إظهار بطاقة الناخب ضمن ملف طلب السكن للتأكد من تصويتهم على الرغم من عدم قانونية ذلك.
بدأت السلطات تحفّز المنظمات والقوى المدنية على تنظيم استعراضات انتخابية في الشارع
هذه المعطيات تعطي مؤشراً على رهان السلطة السياسية في الجزائر على ربح معركة الاستفتاء، لكنها تقع في حيرة بين ما الذي يتوجب كسبه أكثر؛ نسبة المشاركة والحصول على مشاهد طوابير الناخبين في مراكز الاقتراع لملء الصناديق، ما يعني هزم ظاهرة العزوف الانتخابي التي تشهدها الاستحقاقات الانتخابية في الجزائر، أم الحصول على أكبر نسبة من المصوتين بـ"الورقة البيضاء" التي تعني (نعم) لصالح الدستور، مقارنة بالمصوتين بـ"الورقة الزرقاء" التي تعني (لا). ويبدو كلا الأمرين على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للرئيس عبد المجيد تبون، لاعتبارات سياسية وحسابات عديدة، لها علاقة بمحطة الانتخابات الرئاسية السابقة. إذ يُعتبر الاستفتاء على الدستور فرصة مناسبة لترميم شرعية الرئيس التي ترى فيها بعض القوى أنها معطوبة ومتأثرة نسبياً بالظروف والملابسات التي أحاطت بالانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بما يشبه تماماً الخطوة التي لجأ إليها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في استفتاء الوئام المدني الذي نظمه في شهر سبتمبر/أيلول 1999، بعد خمسة أشهر فقط من انتخابه رئيساً في استحقاق انسحب منه منافسوه الستة حينها، بسبب شبهات تزوير يوم الاقتراع لصالح بوتفليقة. ولكن للاستفتاء الحالي علاقة أكبر بمحطات سياسية لاحقة، إذ لا ترى السلطة السياسية في استفتاء نوفمبر مجرد تصويت على دستور، وإنما سيفتح لها الباب واسعاً لإطلاق مشروع إصلاحات سياسية عميقة تشمل القوانين المنظمة للعمل السياسي والأحزاب والجمعيات والانتخابات، وقوانين القضاء والبلديات والولاية وغيرها. ويتخذ هذا المشروع من نسبة التصويت على الدستور مرجعيته وشرعيته الشعبية.
وتعتبر السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات أنّ رهانها الأكبر هو على حصد أكبر نسبة مشاركة في الاستفتاء. ويدخل في هذا السياق تصريح المتحدث باسم الهيئة المشرفة على الانتخابات، علي ذراع، الذي أكد أنّ المهمة الأساسية للسلطة هي رفع نسبة المشاركة وإقناع الناخبين بالذهاب إلى صندوق الاقتراع والسهر على نزاهة الانتخابات. وقال في تصريح للصحافيين أخيراً: "السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات تروج للعملية الانتخابية وليس للدستور، نحن نحاول إقناع المواطنين بالذهاب إلى صناديق الاستفتاء، وأكبر تحد لنا هو نسبة المشاركة التي يجب أن تكون محترمة، خصوصاً أنّ موعد الاستفتاء سيصادف يوماً تاريخياً يتعلق بمرجعية الجزائر (اليوم الوطني الجزائري وهو ذكرى اندلاع ثورة التحرير ضد الاحتلال الفرنسي". وأضاف: "من الضروري أن نتجنّد لهذا التاريخ لإنجاح العملية الانتخابية حتى تعود السلطة الحقيقية والسيادة الحقة للمواطنين والشعب".
من جهته، توقع رئيس حركة "البناء الوطني" (إسلامية) عبد القادر بن قرينة، المؤيد للدستور، في حديث إذاعي الإثنين الماضي، "أن يتجه إلى صناديق الاقتراع حوالي 11 إلى 12 مليون مواطن (من مجموع الكتلة الناخبة المقدرة بـ23 مليون ناخب) ليصوتوا بنعم، لأنّ هويتهم محمية ومكرسة في هذا الدستور"، وفق قوله.
ومقارنة بالانتخابات الرئاسية في ديسمبر الماضي، التي كانت فيها كتلة سياسية وشعبية هامة تدعو إلى المقاطعة، وانتهت إلى نسبة مشاركة ضئيلة بـ38 في المائة فقط (نفس نسبة التصويت في آخر انتخابات نيابية جرت قبل الحراك الشعبي، في مايو/أيار 2017)، إذ صوّت أقل من عشرة ملايين (ناقص 1.6 مليون صوت ملغى) من مجموع 24 مليون ناخب، فإنّ حظوظ المقاطعة والعزوف الانتخابي تبدو أقل هذه المرة. والسبب في ذلك هو انضمام كتلة من مقاطعي الانتخابات الرئاسية إلى الداعين للمشاركة في التصويت المقبل، حتى وإن كانت دعوتها تتضمن التصويت بصيغة رفض الدستور، كحركة "مجتمع السلم" كبرى الأحزاب الإسلامية في الجزائر، و"جبهة العدالة والتنمية" وحركة "النهضة" وحزب "جيل جديد" وقوى سياسية ومدنية أخرى.
وبحكم القرب السياسي لحركة "البناء الوطني" وقياداتها من السلطة والرئيس عبد المجيد تبون، فإنه يمكن اتخاذ الأرقام التي أعلنها بن قرينة كمؤشر على أنّ نسبة التصويت ستكون أكثر من 55 في المائة، وهي نسبة مُرضية للسلطة، حتى وإن كانت قليلة مقارنة مع طبيعة الاستحقاق الانتخابي وموضوعه المتعلق بالدستور.
حظوظ المقاطعة والعزوف الانتخابي تبدو أقل هذه المرة
وعلى الرغم من هذا التفاؤل الذي يبديه مقربون من السلطة، وتغيّر معطيات وظروف سياسية عديدة في الجزائر بعد الحراك الشعبي، لا سيما وجود هيئة مستقلة تشرف على الانتخابات بعيداً عن الإدارة، فإنّ ظروفاً أخرى عديدة تعمل ضدّ الاستفتاء. ولا يقتصر الأمر على وجود قوى تدعو إلى المقاطعة، فالأخيرة تحت حصار إداري ضربته عليها السلطة التي لم تتح أي فرصة لرافضي الدستور لعقد لقاءات أو تجمعات لحث الناخبين على مقاطعة الاستفتاء، ولكن لعودة رموز ووجوه من العهد السابق إلى المشهد وتسويقهم للاستفتاء، على غرار قادة حزبي "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي" ومسؤولي منظمات مدنية كانت لصيقة ببوتفليقة. هذا الأمر يُشعر نسبة من الناخبين بعدم وجود تغيير حقيقي، ويشكل إحباطاً كبيراً بالنسبة لها.
وفي السياق، رأى الباحث والكاتب السياسي، عمار سيغة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك فشلاً ذريعاً في التسويق السياسي للدستور، بالاعتماد على وجوه سياسية مستهلكة، ولها سوابق سياسية في ظلّ المنظومة السابقة"، مضيفاً أنّ "هناك ما يدعو إلى الاستغراب من دواعي لجوء السلطة إلى هذه الوجوه لتسويق الدستور، مع أنها وجوه منفّرة ومنبوذة شعبياً". وتابع: "هناك من يعتقد أنّ السلطة لم تجد شركاء أقوياء لديهم القدرة على القيام بذلك. أما القوى التي كانت اختارتها لتكون شريكتها، رفض جزء منها الدستور، فيما الجزء الثاني ضعيف على المستوى اللوجستي، وهذا ربما دفع السلطة إلى العودة إلى الخزانة، واستخدام وجوه المرحلة السابقة لربح معركة الاستفتاء".