بات العالم اليوم أمام اتحاد أوراسي جديد، تهيمن عليه موسكو اقتصادياً، وتطمح إلى توظيفه سياسياً. فهل يشكل اتحاد الضعفاء قوة؟ وهل يمكن لبلد يقوم اقتصاده على بيع المواد الخام أن يواجه الولايات المتحدة، حتى لو اتّحد مع بلدان أخرى تشببه، أو أقلّ نمواً وإنتاجاً للقيمة المضافة منه؟ أم هل تفيد مواجهة المستقبل الذي يقوم على التكنولوجيات المتطورة والتحكّم عن بُعد بعقلية الكتلة البشرية والأحجام الكبيرة؟ أم أن موسكو تبحث في كل اتحاد جديد تسعى إليه، عن الزمن السوفييتي المفقود، زمن القرار السياسي الموحّد والدولة القوية التي يحسب لها العالم ألف حساب؟ ما يبدو واضحاً هو أنّ شركاء موسكو يبحثون عن شيء آخر، وأن كلاً منهم ينطوي على مصالحه.
في العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، عُقدت في مدينة مينسك، عاصمة روسيا البيضاء، قمتان. الأولى، لمجلس "زعماء بلدان رابطة الدول المستقلة"، والثانية، لمجلس "المجموعة الاقتصادية الأوراسية". وقد وُجدت "رابطة الدول المستقلة"، في حينه، كما هو معلوم، كمحاولة لإعادة ما يُمكن إعادته من أسباب القوة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
لم ترقَ الرابطة إلى مستوى الحلف، وبقيت شكلية وبروتوكولية، أكثر ممّا هي فاعلة. وعلى الرغم من أن أوكرانيا كانت، سنة 1991، إحدى ثلاث دول شكلت الرابطة، إلا أن رئيسها غاب عن قمة مينسك وأناب عنه سفير كييف لدى روسيا البيضاء. في مينسك، جرى اتخاذ قرار بحل "المجموعة الاقتصادية الأوراسية"، وقرار آخر بتشكيل اتحاد أوراسي بدلاً منها.
ووقّع كل من رؤساء روسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان، وثيقة تنهي وجود "المجموعة الاقتصادية الأوراسية"، والانتقال إلى ما يسمى بـ"الاتحاد الاقتصادي الأوراسي"، الذي ينتظر أن يبصر النور في الأول من يناير/ كانون الثاني 2015.
واعتبر الإعلام الروسي أنّ "الاتحاد الجديد سيكون الأكبر من حيث المساحة التي يشملها في العالم (أكثر من عشرين مليون كيلومتر مربع)، وأنّ عدد السكان التابعين له 170 مليون نسمة"، ملمحاً إلى أنّهم مقاتلون عند اللزوم وليس فقط مجرد مستهلكين.
كما يتحدث الإعلام عن أن الاتحاد الجديد سيشغل المرتبة السادسة في العالم، في مؤشر حصة الفرد من ناتج الدخل القومي. ويشار هنا إلى أن الاتحاد، الذي تشكَّلَ بدايةً من روسيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، انضمت إليه أرمينيا، وسوف تلتحق به قرغيزيا في وقت قريب.
لكن لشركاء روسيا حسابات أخرى، خارج الحلم الأوراسي الأيديولوجي. ولذلك تراهم شديدي الحذر في ما يتجاوز التنسيق التجاري، تحديداً في المسائل ذات الأبعاد السياسية. وتجلّى ذلك بوضوح على خلفية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، فهم لم يوافقوا على إجراءات جمركية كانت روسيا اقترحتها ضد كييف، ما قلّل من أهمية إجراءات الحظر الجوابية التي اتخذتها موسكو ضد الغرب، وترك الباب مفتوحاً لوصول السلع الغربية إلى روسيا عبر حدودها مع شركائها الأوراسيين، خصوصاً روسيا البيضاء.
لكن ذلك كله لم يمنع الزعماء من إعلاء شأن الاتحاد الجديد. إذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، أن "المجموعة الاقتصادية الأوراسية حقّقت مهمتها، فضمنت تطوير التكامل الأوراسي إلى الأمام، ووضعت الأسس لإنشاء الاتحاد الجمركي والفضاء الاقتصادي الموحّد لروسيا وروسيا البيضاء وكازاخستان".
ويضيف: "نتحوّل إلى مستوى جديد، أعلى من التكامل، ما يُتيح لنا التصدّي بفاعلية أكبر، لمشاكل تحديث اقتصادات بلداننا، وتحسين قدراتها التنافسية". ووافق رئيس روسيا البيضاء، ألكسندر لوكاشينكو، على كلام بوتين، معقّباً: "يعكس قرار تغيير صيغة التفاعل الأوراسي، الاتجاهات الحديثة للتكامل في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي". وأكد أن "الاتحاد الاقتصادي الأوراسي شكّل مركزاً اقتصادياً جديداً وقوياً على خريطة العالم".
ولكن، على الرغم من أنّ التكامل يشكل ركيزة الاتحاد الجديد المعلنة، إلا أنّ مشاريعاً إنتاجية تكاملية لا تلاحظ في فضائه. فبصرف النظر عن رغبة مشتركة تسود فضاءه في التحرّر من الهيمنة الأميركية، إلا أن العملة الموحدة في مواجهة هيمنة الدولار، تبقى مطلباً أقرب إلى الشعار.
مع العلم بأن تاريخ منطقة عملة الروبل الموحّدة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهد تجربة دامت ثلاث سنوات بين عامي 1991 و1994، حين استمر في البداية استخدام الروبل السوفييتي في دول "رابطة الدول المستقلة"، تم الانتقال إلى الروبل الروسي. وانفردت كل دولة بصكّ عملتها الخاصة بعد عام 1994، تأكيداً على استقلاليتها السياسية.
ونوقشت مشاريع العودة إلى منطقة الروبل المشتركة، مراراً، بداية في إطار "رابطة الدول المستقلة"، ثم بين روسيا وروسيا البيضاء، إلا أن أيّاً منها لم يتكلّل بالنجاح، واليوم يعود الحديث عن الموضوع نفسه في إطار الاتحاد الأوراسي الجديد. وتُناقش المشاريع في ظلّ استخدام جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية للروبل الروسي فقط في خارج روسيا.
وفي السياق، فقد نشرت صحيفة الكرملين، "روسيسكايا غازيتا"، في أغسطس/ آب الماضي، تقريراً تشير فيه إلى أن "دول المجموعة الأوراسية ستوسّع استخدام عملاتها الوطنية في الحسابات في ما بينها، مع محاولة إيجاد نظام تسديد مشترك، على أمل أن يشكل ذلك قاعدة للوصول إلى عملة موحّدة". ورأت الصحيفة أن "العقوبات الغربية على روسيا يمكن أن تسرّع من هذه العملية".
وأما سياسياً، فالاتحاد الأوراسي الجديد، من زاوية المعايير التكنولوجية والاقتصادية والتنموية، لا يرقى إلى قطب عالمي أو مركز قوة عالمي في مواجهة الولايات المتحدة. وبالتالي، فإن فاعليته تنحصر في الإطار الإقليمي.
وممّا يعرقل تحوّله إلى قوة عالمية، تباين السياسات الخارجية لدوله وخشيتها من هيمنة روسيا على الاتحاد الجديد ومن سياسات الكرملين الخارجية المغامرة. وبالتالي، لا يُمكن الحديث عن قوة الاتحاد الجديد ما لم تحلّ مسألة "السياسات الخارجية"، علماً بأن انضمام أرمينيا وقرغيزيا لا يغيّر من وزنه في شيء.
ويمكن الاستدلال هنا على الفصل المعتلّ بين الاقتصاد والسياسة في التشكيلة الجديدة من تاريخها، فقد كانت القناة الروسية التلفزيونية الأولى قد تحدثت، في 27 سبتمبر/ أيلول الماضي، عن أن "تركيا والهند وإسرائيل وفييتنام وسورية، تنوي الانضمام إلى الاتحاد الجمركي".