مع انطلاق التصويت في جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة التركية بين الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ومرشح المعارضة التركية كمال كلجدار أوغلو، اليوم الأحد، تتابع روسيا عن كثب تطورات المشهد السياسي في بلد عضو في حلف شمال الأطلسي، لم ينضم إلى أي عقوبات ضد موسكو منذ بدء حربها على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، بل ساعدها في الالتفاف على القيود الغربية في مجالات الطاقة والتجارة والطيران.
وما يعزز الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة إلى روسيا خصائص السياسة الخارجية التركية المتمثلة بالسعي للحفاظ على مستوى رفيع للعلاقات مع موسكو، في الوقت الذي تحتفظ فيه بعضوية في حلف شمال الأطلسي "ناتو".
وأكد مدير القسم الأوروبي في وزارة الخارجية الروسية يوري بيليبسون، عشية الانتخابات التركية، في تصريح لوكالة "سبوتنيك" الروسية، إن موسكو تعول على مواصلة تعزيز العلاقات متبادلة المنفعة مع أنقرة.
فوز أردوغان يصب في مصلحة روسيا
واتفق خبراء روس استطلعت "العربي الجديد" آراءهم على أن فوز أردوغان يصب في مصلحة روسيا كونه يعني استمراراً للنهج السياسي التركي الحالي، على عكس كلجدار أوغلو الذي أدلى خلال الحملة الانتخابية بتصريحات تجعله أقرب للمواقف الغربية.
وعلى الرغم من إقراره بأن أردوغان مفاوض صعب، إلا أن أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، يعتبره "أنسب لروسيا كونه ينطلق من المصالح الوطنية لبلاده، بينما أظهر كلجدار أوغلو نفسه سياسياً يعلي ولاءه للولايات المتحدة".
ويقرّ كوكتيش، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، بأن العلاقات الروسية التركية في عهد أردوغان لم تخل من خلافات، بما في ذلك بسبب الأزمة السورية، مضيفاً: "أردوغان مفاوض صعب ولكنه قابل للتنبؤ، وسيكون التوصل إلى اتفاقات معه أسهل، كونه يجري المفاوضات على أرض وطنه وليس في واشنطن".
كيريل سيميونوف: السلطات التركية الجديدة قد تسلم كييف صواريخ إس 400 الروسية
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد واقعة إسقاط قاذفة "سو-24" الروسية من قبل سلاح الجو التركي على الحدود السورية التركية في نهاية عام 2015، مرت العلاقات الروسية التركية بأزمة عميقة، وصلت إلى حد وقف حركة السياحة الروسية إلى المنتجعات التركية وفرض قيود على الصادرات الزراعية التركية إلى روسيا وتعليق عدد من المشاريع المشتركة.
لكن اعتذار أردوغان عن الواقعة والانحياز الروسي له أثناء المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف عام 2016، مهّدا الطريق أمام استعادة الشراكة الاقتصادية المتكاملة وإنمائها.
من جهته، يقول رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة "بليخانوف" الاقتصادية الروسية في موسكو، أندريه كوشكين، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "روسيا مستعدة للعمل مع أي رئيس ينتخبه الشعب التركي، ولكنها تثمّن عالياً تلك الدرجة من التفاهم التي تكونت بين البلدين خلال الأعوام الـ20 من حكم أردوغان، وتعلم روسيا أسلوبه لإدارة الأمور".
ومع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، جمعت تركيا بين عدم الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا والامتناع عن دعمها في المحافل الدولية، وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية.
وعلاوة على ذلك، استثمرت أنقرة الملف الروسي الأوكراني لفرض شروطها للموافقة على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الأطلسي، الذي تحول من باب المفارقة هذه المرة إلى أداة قوية للنفوذ التركي في الغرب.
منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، ساهم الحجم الهام للتبادل التجاري بين روسيا وتركيا في الحفاظ على العلاقات المتبادلة، وسجل حجم التبادل التجاري لعام 2022 زيادة نسبتها 84 في المائة، وفق أرقام هيئة الجمارك الفيدرالية الروسية، متجاوزاً عتبة 50 مليار دولار، لتصبح تركيا واحداً من بين أكبر الشركاء التجاريين لروسيا.
وتجرى حالياً مناقشة مسألة إقامة مجمع كبير للغاز على أراضي تركيا، ما سيتيح إعادة توجيه الغاز الروسي من خطي أنابيب "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2" المعطلين إلى أوروبا من دون المرور بأوكرانيا، وإنشاء منصة دولية هامة لتجارة الغاز. وتجرى عملية بناء محطة "أك كويو" النووية، وسط رهانات تركية على أن تشكل الطاقة النووية قاعدة لمواصلة التنمية.
عامل الاقتصاد في علاقة البلدين
ومع ذلك، يعتبر الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، المستشرق كيريل سيميونوف، أن مثل هذه العلاقات الاقتصادية المتشعبة قد تتأثر في حال هزيمة أردوغان، حتى ولو لم تنضم السلطات التركية الجديدة إلى العقوبات الغربية ضد روسيا.
ويقول سيميونوف في حديث لـ"العربي الجديد": "بالطبع، تتمنى روسيا الإبقاء على العلاقات مع تركيا في حالتها الراهنة، وهو ما لن يضمنه سوى أردوغان، بينما قد يسفر فوز كلجدار أوغلو عن تدهور مستوى العلاقات بين أنقرة وموسكو، رغم أن هناك من يعتقدون أن الشق الاقتصادي من العلاقات لن يتأثر نظراً لأهميته بالنسبة إلى تركيا. لكنني أعتقد أن الملف الاقتصادي قد يتضرر على أثر مبادرات قد يتبناها كلجدار أوغلو تحت ضغوط غربية أو مراعاة للمصالح الغربية".
ويضرب سيميونوف أمثلة على أعمال قد تؤثر سلباً على العلاقات الروسية في حال إقدام كلجدار أوغلو عليها، مشيراً إلى أن "السلطات التركية الجديدة قد تزيد من المساعدات لأوكرانيا أو تسلم كييف صواريخ إس 400 الروسية مثلاً، أو تغلق مضيق البوسفور أمام السفن المدنية الروسية التي تنقل شحنات عسكرية إلى سورية. كما قد يضغط الغرب على تركيا لثنيها عن استخدام أراضيها ساحةً للالتفاف على العقوبات الغربية على روسيا".
إلا أن سيميونوف يجزم في الوقت نفسه أن مثل هذا التدهور لحالة العلاقات الروسية التركية لن يحدث فوراً، معتبراً أنها "مثل هذه التحولات تستغرق بعض الوقت، لأنه من الصعب تغيير النهج الحالي لتركيا الذي أسسه أردوغان بشكل كامل، ما يعني أنه لن تحدث قطيعة بين روسيا وتركيا. من المؤكد أن تركيا نفسها لن تنضم إلى العقوبات ضد روسيا، ولكنها قد تبدي حساسية أكبر للإشارات الغربية، وهو ما لن يحدث في حالة إعادة انتخاب أردوغان".
ويشدد الخبير الآخر في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كامران غسانوف، على أن انعدام التغيير في السياسة الخارجية سيكون أكبر مكسب لروسيا في حال فوز أردوغان، الذي يملك، وفق اعتقاده، الإرادة اللازمة لاستكمال المشاريع المشتركة.
ويقول غسانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "على الأرجح، سيفوز أردوغان بالانتخابات، لأنه تفوق على منافسه بنسبة 5 في المائة في الجولة الأولى (أُجريت في 14 مايو/أيار الحالي)، بينما حصل حزبه العدالة والتنمية الحاكم على الأغلبية في البرلمان".
كيريل كوكتيش: أردوغان مفاوض صعب ولكنه قابل للتنبؤ
وحول المكاسب الروسية من فوز أردوغان، يرى غسانوف أن "المكسب الرئيسي سيكون انعدام التغيير نحو الأسوأ، نظراً لعزم أردوغان على استكمال المشاريع المشتركة وقدرته على الدفاع عنها في وجه الهجمات الأميركية، وذلك على عكس كلجدار أوغلو الذي أدلى بتصريحات معادية لروسيا".
إعلام روسي منحاز لأردوغان
على مدى الأشهر الأخيرة، بدا الإعلام الروسي، بشقيه المرئي والمكتوب، منحازاً لأردوغان، ومن بين الأمثلة على ذلك، تقرير مصور بثته القناة الأولى الحكومية الروسية عشية الجولة الثانية من الانتخابات، تناولت فيه تراجع سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار وألمحت إلى أن "الغرب الداعم لكلجدار أوغلو يعمل على خفض سعر صرف العملة الوطنية بصورة مصطنعة".
أما صحيفة "فزغلياد" الإلكترونية الموالية للكرملين، فنشرت مقالاً بعنوان: "أردوغان يقود تركيا إلى مستقبل غامض"، للمدير في نادي "فالداي" الدولي للنقاشات، تيموفي بورداشيف، الذي وصف الرئيس التركي الحالي بأنه "رجل دولة متميز"، لافتاً إلى أن "وريثة الإمبراطورية العثمانية (تركيا) تشغل مكانة فريدة في رؤيتنا للعالم الخارجي".
وذكّر بورداشيف بأن تركيا هي بلد خاضت روسيا معه 12 حرباً، أي أكثر من أي بلد آخر على مر التاريخ، استمرت في مجملها 69 عاماً في الأعوام الـ350 (1568 - 1918).
وشهدت فترة حل "المشكلة التركية" العهد الأكثر بطولية في التاريخ العسكري الروسي، حين لم تتعرض روسيا لأي هزيمة في ساحة المعركة في القرن الـ18.
ومع ذلك، خلص كاتب المقال إلى أن "تركيا لا تزال هي الخصم التاريخي الوحيد لروسيا، الذي لم يتسن القضاء عليه في العهد الإمبراطوري من التاريخ الوطني"، على عكس هزيمة بولندا والسويد وتهميش حضورهما في الشؤون الدولية.