ما أن تدخل أطراف مدينة جرابلس المتاخمة لنهر الفرات على الحدود السورية التركية في ريف حلب الشمالي، حتى تبدأ بالتعرف على ملامح تلك المدينة ببيوتها القديمة وشوارعها الضيقة المليئة بالحفر وسكّانها الذين يبدو البؤس واضحاً على وجوهم وهم يمارسون أعمالهم في الزراعة وبعض المهن، مستخدمين وسائل بدائية.
ولا يختلف الأمر كثيراً عند التوغل إلى وسط المدينة، حيث السوق الشعبي الذي يكتظ خلال الأيام العادية بسكّان، ملامح الفقر بادية على وجوههم.
ولكن السوق كان يوم السبت الماضي، شبه خالٍ إلا من حواجز فصائل "الجيش الوطني" السوري التي تنتشر في معظم شوارع المدينة إثر اشتباكات وقعت خلال الأيام الماضية بين عشيرتي "الزركات" و"الجيس"، على خلفية تجدد ثأر قديم بين الطرفين، ما أدى إلى مقتل 3 أشخاص، من بينهم عنصر من الشرطة العسكرية التابعة لـ"الجيش الوطني" الذي يضم أغلب فصائل المعارضة، بحسب مصادر محلية من أبناء المدينة.
وعلى أطراف حيّ السوق الشعبي حيث "كراج" (مرآب) انطلاق سيارات الأجرة التي تنقل الركاب بين جرابلس والمناطق الأخرى، رصدت "العربي الجديد" أول مشاهد الفلتان الأمني في المدينة، إذ تعرّض أحد الركاب للضرب المبرح على يد سائق سيارة أجرة بسبب رفضه الصعود معه بعد مساومة على أجرة نقل بعض الأغراض التي في حوزة الراكب. فيما تجمهر عدد من عناصر "الجيش الوطني" المكلفين بحفظ الأمن كمتفرجين من دون أي تدخّل منهم لحل المشكلة، ليتبين لـ"العربي الجديد" أن السائق المعتدي محسوب على أحد الفصائل في المنطقة، ولتنتهي المشاجرة بكدمات على وجه الراكب الذي غادر "الكراج" يبحث عن وسيلة نقل إلى خارج المدينة.
ريف حلب الشمالي... فلتان أمني مستمر
ولا يزال الفلتان الأمني السمة الأبرز في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة السورية، لا سيما في ريف حلب الشمالي، الذي شهد في الآونة الأخيرة العديد من الحوادث الدامية ذات البعد العشائري أو العائلي، في ظل عجز هذه الفصائل عن ضبط الأوضاع مع غياب مرجعية أمنية وعسكرية واحدة.
شهدت مدينة جرابلس اشتباكات بين عشيرتي "الزركات" و"الجيس"
وشهدت مدينة جرابلس إثر الاشتباكات بين عشيرتي "الزركات" و"الجيس"، حرقاً للمتاجر واشتباكات بالأسلحة المتوسطة بين الطرفين، على الرغم من جهود "الجيش الوطني" في تهدئة التوتر ومحاولات الوساطة، وتدخّل القوات التركية من خلال تسيير دوريات لوقف التصعيد ونشر قوات فضّ النزاع.
وبيّن الناشط الإعلامي المقيم في الشمال السوري حامد أبو الليث، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الأوضاع في جرابلس ما تزال "متوترة"، مضيفاً: "أغلب المحال التجارية مغلقة. هناك خوف وتوجس من عودة الاشتباكات بين الطرفين المتنازعين رغم انتشار عناصر الجيش الوطني في المدينة". وتابع: "تعطلت الحياة العامة في جرابلس، بسبب الفوضى الأمنية نتيجة ضعف المؤسسات الموجودة وغياب القضاء وانتشار السلاح بشكل كبير، في المناطق التي تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة".
وتضم مدينة جرابلس وريفها العديد من العشائر العربية. وأشار أبو الليث في حديثه إلى أن "المشاكل العشائرية والفصائلية ليست جديدة على هذه المنطقة"، مضيفاً أن "المدنيين يدفعون للأسف ثمن هذه الخلافات، حيث جرت الاشتباكات ضمن المناطق السكنية، ما أدى إلى مقتل وإصابة أكثر من شخص لا علاقة له بما يجري".
من جهته، قال النازح من مدينة منبج المقيم في جرابلس، أبو علاوي، والذي فضّل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لـ"العربي الجديد": "لم تعد الحياة تطاق هنا، فلا فرص للعمل والخدمات شبه معدومة، هذا عدا عن العصبيات العائلية والعشائرية والمحسوبية على الفصائل التي تجعل الغرباء عن المدينة معرضين لانتهاك حقوقهم في أي لحظة".
الخدمات شبه معدومة في جرابلس، فيما تطغى العصبيات العائلية والعشائرية والمحسوبية على الفصائل
وليس بعيداً عن جرابلس كانت بلدة أخترين في ريف حلب الشمالي الواقعة هي الأخرى تحت سيطرة فصائل المعارضة قد شهدت أواخر العام الماضي اقتتالاً بين عائلتين بسبب عدم الاتفاق على كيفية إدارة المؤسسات الخدمية في البلدة، ما أدى إلى مقتل وإصابة عدد من الأشخاص من الجانبين وتعطل الحياة العامة.
ولطالما شهدت المناطق الخاضعة لـ"الجيش الوطني" المعارض، خلافات فصائلية أو عشائرية أو عائلية بسبب غباب سلطة تمثل سكان هذه المناطق التي تضم أعداداً كبيرة من النازحين من مختلف المناطق السورية.
"لا يمكن القبول بهذه الأوضاع المتأزمة بشكل دائم"، بحسب أبو إبراهيم، وهو أحد سكان منطقة أخترين، في حديث مع "العربي الجديد"، مضيفاً أن "هناك حالة من الاستياء لدى الناس نتيجة ما يجري".
ولفت إلى أن "عدم الاستقرار نتيجة غياب المرجعيات العسكرية والأمنية والإدارية ينعكس سلباً على حياتنا، فالسلاح في كل مكان".
من جهته، رأى الناشط السياسي والمدوّن المقيم في الشمال السوري، معتز ناصر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هناك أسباباً اجتماعية واقتصادية وقيمية وراء تكرار ظاهرة الاقتتالات العشائرية والعائلية".
وبرأيه، فإن "السبب الرئيسي لذلك، والذي إن تمّ علاجه، فيحلّ قسماً كبيراً من المشكلة، هو فوضى السلطة، التي كان تشتتها، وغياب دورها، هو العامل الأساسي لهذه الجرائم".
وأعرب ناصر عن اعتقاده بأن "غياب السلطة المركزية المُمَكّنة في ريف حلب كان العنوان العام الذي اندرجت تحته كل المشاكل الأخرى، ووجودها سيفرض حالة من السلم الأهلي، والركون للقانون، وهذا أبرز ما تحتاجه المنطقة للاستقرار والتنمية".
كما رأى ناصر أن "الجيش الوطني بمجمله ساهم في دعم حالة الفلتان الأمني والفوضى، لأن الفساد وعدم الانضباط بات القاعدة فيه، نتيجة تصدّر غير الأكفاء لقيادته، وعدم وجود إرادة تركية لإصلاحه".
وأضاف: "المدنيون في ريف حلب يعانون حالة عامة من فقد الثقة في جميع مؤسسات ما يسمى المعارضة، وينظرون إليها على أنها سبب رئيسي للمشاكل، وليست جزءاً من حلّها، وبعضهم لم يجد مهرباً من الوضع إلا التخندق أكثر خلف العصبيات العشائرية والعائلية، لحماية أنفسهم في ظل الغياب التام لسلطة الدولة".
اللوم على "الجيش الوطني"
ودائماً ما يُوجه اللوم إلى "الجيش الوطني" الذي يضم عدة فيالق في عدم ضبط الأوضاع الأمنية في المنطقة ويُحمّل مسؤولية ما يجري، ولاسيما أنه هو نفسه لم يستطع تجاوز الحالة الفصائلية التي تتحكم في كل فصائله.
معتز ناصر: المدنيون في ريف حلب يعانون من فقد الثقة في جميع مؤسسات ما يسمى المعارضة
ورأى القيادي في هذا الجيش هشام اسكيف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هذه المشكلة في جرابلس وسواها من المناطق في ريف حلب الشمالي تتطلب مسارين؛ المسار الأول يقع على عاتق الوجهاء وعلماء الدين للقيام بدورهم في التصدي لمسألة الثأر واستخدام السلاح بشكل مستمر في هذه المنطقة، وحان الوقت للوعي المتنامي وتقليل هذه الظاهرة".
أما المسار الثاني المتعلق بـ"الجيش الوطني"، فقال إنهم "يعملون جاهدين على ضبط هذه الأفعال باستخدام كل الوسائل المتاحة. حيث نشرت قوات الفيلق الثاني لتطويق الأزمة واستعادة الأمان والهدوء"، ولكنه أشار إلى أن "الأمور تتطلب تضافر الجهود وتعاون جميع الأطراف، وليس فقط الجيش الوطني".
ويزدحم الشمال السوري بملايين السكان، في ظل ندرة فرص العمل في بيئة محدودة الموارد يعاني سكانها من مختلف الأزمات، مع انسداد الآفاق أمام حلول ناجعة للقضية السورية.
وتعليقا على ما يجري في مدينة جرابلس وغيرها من مناطق الشمال من اقتتال عشائري، رأى الباحث في مركز "جسور" للدراسات بسام أبو عدنان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "حوادث القتل تشير إلى ضعف السلطات وعدم قدرتها على تشكيل قوةٍ رادعة في مواجهة هذه الحوادث، ممّا أدى إلى انتشار عمليات القتل خارج القانون".
وأرجع أبو عدنان أسباب هذا الضعف إلى جملةٍ من الأسباب "أبرزها: الأسباب الاجتماعية والأمنية المتمثلة بانتشار العصبيات المناطقية والعشائرية وما يسودها من عادات الثأر والانتصار لأبناء المنطقة والعشيرة"، مضيفاً أن "الأجهزة الأمنية والعسكرية تتخوف من الدخول مع هذه العصبيات في مواجهات واسعة تهدد تماسك هذه الأجهزة نتيجة تجذّر هذه العصبيات، كما أنّ عدداً من قادة الأجهزة يترددون في الدخول في مثل هكذا مواجهات خوفاً من ردود فعل انتقامية تجاههم أو تجاه عمقهم الاجتماعي".
ورأى أن "هناك أسباباً قانونية تقف وراء هذا الضعف تتمثل في أن الدستور السوري المطبق في محاكم شمال حلب ينص على ضرورة مصادقة رئيس الجمهورية على أي حكم إعدام صادر من قبل المحاكم، وهذا يعطل تنفيذ عقوبة الإعدام، وهي عقوبة رادعة للقتلة".
وتابع "هناك أسباب أخرى تتمثل في انتشار الفساد وإمكانية تهريب القتلة خارج السجن والبلد مقابل دفع مبالغ مالية لمسؤولين في الأجهزة الأمنية، إضافةً إلى انتشار الفقر الذي يجعل قسماً من أهالي المقتولين يقبلون الدية التي يعتبر دفعها أمراً ليس صعباً على أبناء العشائر والعائلات الكبيرة، أو حتى على قادة بعض كتائب الجيش الوطني ممن يمارسون أنشطة غير مشروعة مثل التهريب، مما جعل الجريمة أمراً يمكن التهرب من عواقبه، وهذا أدى إلى زيادة معدلاتها.
وأشار الباحث في مركز "جسور" إلى أن "هذه الأسباب دفعت السكان في شمال غرب سورية إلى الالتفاف حول تكتلات مناطقية وقبلية بهدف حماية أنفسهم في ظل الحالة الأمنية المتردية، وضعف الوعي الاجتماعي لدى نسبة كبيرة من السكان"، لافتاً إلى أن هذه الحالة "عزّزت بمجملها تقوقع الكثير من فئات المجتمع شمال حلب ضمن ما يمكن اعتباره بمجتمعات موازية ذات أبعاد مناطقية وقبلية، وهو ما يهدد النسيج السكاني العام والاستقرار الاجتماعي والسياسي للمنطقة".