فجر السادس من شهر فبراير/شباط الحالي، أفاقت مناطق واسعة من جنوب تركيا وشمال غرب سورية على مجموعة من الهزّات الزلزالية، التي ألحقت أضراراً كبيرة بالأرواح والمباني والبنى التحتية من طرقات ومطارات. وقد فاقمت من الأضرار وإرباك الإغاثة موجة البرد الشديد في عموم المنطقة.
وباستثناء مدينة غازي عنتاب التركية، تميل العمارة في المساحة الأكبر من الجغرافية الواسعة التي أصابتها الهزات إلى النمط القديم، الذي توسع بصورة كبيرة خلال العقد الأخير، ليستوعب الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين الذين تدفقوا بكثرة في المرحلة الأولى من الثورة السورية.
لم يكن الزلزال متوقعاً في هذه المناطق من قبل السلطات التركية، ولا من طرف أحد في سورية، التي يعود عهدها بالزلازل إلى أمد بعيد. ولذلك، لم تكن هناك سياسات مشدّدة خاصة بالبناء المقاوم للزلازل على الجانب التركي. وفي الحالة السورية، لم يكن هذا الأمر مطروحاً قبل عام 2000، إلا في نطاق ضيّق جداً، وبعد ذلك لا يجرى الالتزام بالمواصفات من جانب مقاولي البناء.
مدن الساحل التركي ومخاطر الزلازل
كانت التوقعات تُرشح المدن التركية الساحلية لزلزال مرتقب، وجرى الحديث عن هذا الاحتمال على نطاق واسع، بعد أن شهدت مدينة إسطنبول، في 26 سبتمبر/أيلول عام 2019، هزة بلغت 5.8 درجات على مقياس ريختر، وهي تعد متوسطة، ولكنها تركت تأثيراً كبيراً في الوسطين الرسمي والشعبي. وقد كان رد الفعل المباشر أن السكّان القاطنين قرب الشريط الساحلي لبحر مرمرة أمضوا ليلتهم خارج المنازل، وساعدهم على ذلك الطقس الدافئ.
لا يمكن البناء في إسطنبول اليوم من دون تلبية شروط مقاومة الزلازل
على المستوى الرسمي، اتخذت السلطات إجراءات صارمة، فقد جرى بصورة سريعة إحصاء المباني التي أصابها التشقق، وجرى إخلاؤها فوراً، وهدمها والبناء في مكانها. وقدمت الدولة مساعدات تشجيعية لذلك، وكانت جولة سريعة في إسطنبول، خلال الربع الأخير من ذلك العام، كافية لمعاينة حركة الهدم والبناء الواسعة في الأحياء التي تنتشر فيها الأبنية القديمة.
لا يمكن البناء في إسطنبول اليوم من دون تلبية شروط مقاومة الزلازل. وجرى تعديل تصاميم أغلبية المباني في تركيا بعد زلزال 1999، الذي ضرب مدينة إزميت بالقرب من إسطنبول، وكانت له آثار سياسية، نظراً إلى الخسائر الكبيرة التي خلفها في الأرواح والماديات.
تتضمن شروط البناء الحديثة رفع قدرة التحمل بشكل كبير. كما أن التصاميم الهندسية تنفذ بناءً على خريطة الزلازل في المنطقة، ولا تحسب قوة تحملها على درجة الزلزال، بل على قوة الطاقة المؤثرة، وهي التي يجرى توقعها بحسب ما حدث من زلازل في المائة سنة الماضية. وتقاس قوة الزلازل ليس في درجتها فقط، بل في مدتها وقربها من سطح الأرض، وطريقة الحركة الناتجة عنها، وموقع البناء من خط الحركة.
والإجراء الثاني الذي تعتمده السلطات التركية في هذا الاتجاه هو فرض رخصة خاصة من البلدية، تفيد بتلبية البناء معايير مقاومة الزلازل، وهذا شرط أساسي للبيع والشراء، وحتى تزويد البيت بالكهرباء والمياه.
وكان مركز زلزال 2019 في بحر مرمرة قبالة منطقة سيليفري في الجانب الأوروبي من إسطنبول، ووقع في الساعة الثانية بالتوقيت المحلي، بعمق نحو سبعة كيلومترات، وشعر به سكّان إسطنبول والولايات التركية القريبة منها، ولذا أثار حالة من الهلع والذعر أصابت سكان المدينة.
وبحسب الصحافة التركية، فإن الزلزال أثّر على هبوط الطائرات في المدينة، وأدى إلى انقطاع خطوط الاتصالات، وانهيار مئذنة جامع الحاج أحمد في منطقة أفجيلار على ساحل مرمرة. وأعلنت ولاية إسطنبول تعليق الدوام في عدد من المدارس ليوم واحد، وأخضعتها لفحص تقني مفصّل، للتأكد من سلامة مبانيها عقب الزلزال.
حالة الذعر تحولت إلى هاجس يلازم السكان في إسطنبول، الذين بدأ بعضهم يتحدث عن زلزال مُدّمر مرتقب، والسبب المباشر لذلك هو أن الهزّات الارتدادية استمرت قرابة أسبوعين، وتجاوز عددها ألفي هزة خفيفة أقل من أربع درجات. وفي نفس الفترة، جرى ترويج توقعات منسوبة إلى مراصد خاصة بالزلازل، تفيد بوقوع زلزال شديد سيضرب إسطنبول بقوة تزيد على ثماني درجات، أي أشد من زلزال السادس من فبراير الحالي الذي بلغت قوته 7.8 درجات، ولكن لم يستطع أحد تخمين موعده بدقة.
غازي عنتاب وحلب تقعان على خط زلزالي واحد، لم يتحرك بقوة منذ أكثر من ألف عام
وبينما تراجع، مع الوقت، الخوف من وقوع زلزال مدمر في إسطنبول، جاءت المفاجأة من "كهرمان مرعش" القريبة من غازي عنتاب، والبعيدة نسبياً عن البحر الأبيض المتوسط من اتجاه انطاكية 180 كيلومتراً، ومن الجهات الأخرى نحو حلب 200 كيلومتر وإدلب 220، وأورفة وديار بكر 382 كيلومتراً، وملاطيه 260 كيلومتراً.
ويتضح من سعة دائرة الزلزال التي تجاوز مداها 380 كيلومتراً، كما هو الحال في ديار بكر وطرطوس، أنه من العيار الثقيل، ولذلك ألحق ضرراً بكل المباني التي وقعت في طريقه. ولكن التدمير الأكبر لحق بالمباني الواقعة على نصف قطر الدائرة حتى مسافة 200 كيلومتر، كما هو حال أنطاكيا، أورفة، جنديرس، وأضنة.
زلازل سورية بين الماضي والحاضر
في سورية، لم يشهد التاريخ وقوع زلازل ذات أثر كبير، ويعود آخر زلزال إلى عام 1138 ميلادي، حيث ضرب مدينة حلب، ويعد أحد أكبر ثلاثة زلازل تاريخية، وقد امتدت آثاره لتصيب شمال غرب سورية وجنوب تركيا، وخصوصاً مدينة حارم التي أصابها ضرر كبير خلال الزلزال الحالي، ومدينة أنطاكية التي كانت في ذلك الوقت قلعة صليبية، وقد لحق بها دمار كبير كما هو الوضع في الزلزال الحالي.
تبعد حلب عن غازي عنتاب حوالي 95 كيلومتراً، وهذا ما يشكل أحد أسباب تضررها بشكل كبير. ولكن إذا أسقطنا التاريخ على الحاضر، يمكن الاستنتاج أن هاتين المدينتين تبادلتا التأثير الزلزالي بعد أكثر من ألف عام، وهذا يعني أنهما تقعان على خط زلزالي واحد، لم يتحرك بقوة منذ تلك الفترة.
في الماضي، كان مركز الزلزال هو حلب، وهذه المرة "كهرمان مرعش". وفي الحالتين لحق الضرر بكل المناطق المأهولة على دائرة الترددات، مثل حارم وأنطاكية وجنديرس، ويبدو أن هذه المدن كانت في عين الزلزال الحالي، وتلقت طاقته الانفجارية الأولى التي كانت عالية، ولكن زلزال "كهرمان مرعش" الحالي أخف بالمقارنة مع زلزال حلب عام 1138.
استطاع الشمال السوري أن يتعامل مع الزلزال، ويواجه الأضرار ذاتياً، لا سيما بفضل التضامن الأهلي
في تركيا، هناك ما يشبه الاستعداد لوقوع الزلازل، لأن الخرائط الجيولوجية تؤكد احتمال حصولها على مجموعة من خطوط الزلازل النشطة. ولأنها معتادة على ذلك وعانت خلال السنوات القليلة الماضية من زلازل مدمرة مثل أزمير، فإن رد فعل المجتمع والدولة هوّن من وقع الصدمة، ولم يكن بنفس القدر على الجانب السوري، حيث جاء الزلزال ليخلق أزمة داخل أزمة.
وفي شمال شرق سورية حيث وقع ضرر كبير، لولا وجود فرق الدفاع المدني - الخوذ البيضاء، لكان الوضع كارثياً بكل المقاييس. فهم من جهة أصحاب تجربة في التعامل مع الكوارث، ومن ناحية ثانية، استطاعوا إدارة الأزمة بجدارة، ونجحوا في الحدّ من الأضرار بشكل كبير، وساعد وجودهم على رفع معنويات السوريين، الذين وجدوا أنفسهم من دون أي دعم أو مساعدة دولية أو عربية في الأيام الخمسة الأولى، ولذلك، كان الاعتماد على الذات هو الخيار الوحيد في هذه الفترة الصعبة.
التضامن الأهلي لعب دوراً أساسياً في بناء وضع معنوي للذين تدمرت بيوتهم وصار بعض ذويهم تحت الأنقاض، وساعد المشردين على إيجاد حدّ أدنى من الطعام والماء والمأوى. وتبين أن هذه المنطقة، التي تعيش وضعاً استثنائياً منذ عشر سنوات، استطاعت أن تتعامل مع الزلزال، وتواجه الأضرار ذاتياً.
كان وضع المنطقة منهكاً بشكل كبير قبل الكارثة، فالقسم الأكبر من الأبنية تعرض للقصف الروسي في الأعوام الأخيرة الماضية، كما أنها استقبلت حوالي أربعة ملايين لاجئ سوري، وبالتالي، كانت تعيش حالتي ضعف واكتظاظ كبيرين.
وتعمد الروس في حرب عامي 2019 و2020 تدمير كل البنى التحتية، وخصوصاً المرافق الصحية، وتحكموا بدخول المساعدات الأممية من خلال مجلس الأمن الدولي، الذي أبقي على معبر واحد، هو معبر باب الهوى، من أصل أربعة معابر، وصار القسم الأكبر منها يدخل عن طريق النظام، الذي حصر توزيعها بالدائرة الخاصة به، ومنعها عن المناطق الخارجة عن سيطرته.
أبرز الملاحظات التي تشكلت لدى الصحافيين، الذين تجولوا في المدن الأكثر تضرراً في تركيا وسورية، هي أن الدمار الكلّي لحق بأكثر من ثلاثة أرباع الأبنية، والربع الأخير أصابه التشقق وغير صالح للسكن. وهذا ينطبق على أنطاكيا، كهرمان مرعش، جنديرس، وحارم.
تحتاج هذه المناطق إلى هدم بالكامل ورفع للأنقاض وإزالة للركام من أجل بناء مدن جديدة في مكانها. وهذا يحتاج إلى جهود وإمكانات مالية كبيرة. أما في حال المناطق التي تأتي في الدرجتين الثانية والثالثة من الضرر، فإن الصورة تبدو أقل كارثية، حيث سيجرى التركيز على الترميم.
وفي كل الأحوال، سيتعين على نحو سريع إسكان عدة ملايين من المتضررين، ريثما تنطلق عملية معالجة آثار الزلزال، وهذه مهمة لا تقل ثقلاً عن إعادة البناء.