كان لافتاً أن الحديث عن زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لموسكو، التي تبدأ اليوم الإثنين، مهمش في مداولات أمس الأحد المهمة عموماً في واشنطن، والتي يشارك فيها مسؤولون كبار وخبراء ومحللون في قضايا الساعة المحلية والخارجية.
عادة، يكون الموضوع الصيني في الواجهة، خصوصاً إذا كان من هذا العيار. لكن هذه المرة، وكأن هناك رغبة في التقليل من أهمية الزيارة وغرضها الدبلوماسي المعلن، والذي رسمت الإدارة الأميركية حوله علامات استفهام مبكرة، ولوحظ أنه سرعان ما تراجع الحديث عنها، مع الاكتفاء بالقول إنّ الولايات المتحدة وحلفاءها "يراقبون" الزيارة، مع التشكيك بنواياها السلمية.
وكان هذا التشكيك قد بدأ إثر زيارة وزير الخارجية الصيني تشين غانغ في 21 فبراير/ شباط لموسكو، ولقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وما تبعها من كشف بكين لمشروعها المؤلف من 12 نقطة للتوسط في حرب أوكرانيا، مع تلميح إلى أن الرئيس شي سيقوم بزيارة قريبة لروسيا.
كان تعليق الإدارة في حينه أنّ لديها ما يحملها على "التأكيد" أنّ الصين "تفكر" جدياً في تزويد موسكو بمعدات "قاتلة"، لكنها "لم تتخذ القرار بعد"، حسب مدير وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه" وليام بيرنز. وبالتالي، فإن الحديث عن وساطة ليس إلا قنبلة دخانية لتغطية تسليح موسكو. وجاء ذلك على خلفية توقعات بأن القوات الروسية تُعدّ "لهجوم واسع" مع مطلع الربيع، ممّا عزز نظرية المساعدات الصينية "القاتلة" لموسكو، التي تحدثت التقارير عن نقص في معداتها وإمداداتها العسكرية.
وزير الخارجية أنتوني بلينكن أفاد بدعم هذا الاعتقاد، رافضاً أي طرح حول وقف النار، يكون على شكل "هدنة تستفيد منها القوات الروسية لإعادة ترتيب صفوفها وتسليحها لاستئناف قتالها".
مقابل قطع الطريق على محاولة من هذا النوع، استوقف في الأمر كلام أوروبي، بالإضافة إلى تصريح أدلى به بيرنز نفسه في تعقيبه على الموقف الصيني. الأول كان ما ذُكر عن أن الألمان والفرنسيين "تحدثوا عن توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا لحملها على الانخراط بالحوار". تزامن هذا الكلام مع الحديث عن الوساطة الصينية، حمل على ربطهما معاً من زاوية أن الثنائي الأوروبي الأقوى، يلمّح إلى ضرورة ملاقاة المقترح الصيني المقبل.
وصبّ في هذا التفسير ما قاله وليام بيرنز أخيراً، والذي بدا، وإن بصورة مبطّنة، أقل تشكيكاً بالوساطة الصينية. فهو إذ لا يستبعد أن تعتمد بكين سياسة ترك النزاع يطول، لأن في ذلك "إشغال لأميركا والغرب عنها، وبما يعود عليها بالنفع"، إلا أنه في الوقت نفسه، لفت إلى أن "الرئيس الصيني واقعي، وغير مرتاح بعدما رأى فقر الأداء العسكري الروسي". وكأن بيرنز يقول إن الرئيس شي ذاهب إلى موسكو لوضع أساسات التفاوض حول مخرج ما؛ طبعاً تكون الأولوية فيه لحفظ ماء الوجه لحليفه الروسي، لكنه على الأقل يفتح باب الحوار المغلق.
التسليح لم يكن ليستدعي مثل هذه الزيارة. حسابات الصين الأوروبية والأميركية لا تتلاءم مع تسعير الحرب. وبالتالي، مهمته دبلوماسية ومدروسة بتوقيتها، فهي تأتي في لحظة تعب ونزف على الجانبين. الروسي منهك في الميدان، و"الأطلسي" في الدعم، والأوكراني يستغيث لمده بالأسلحة.
تأييد الرأي العام الأميركي لتمويل الحرب سجّل أخيراً بعض التراجع، وحتى الرئيس الأميركي جو بايدن يفرمل التسليح، ناهيك باعتراضات اليمين في الكونغرس - مجلس النوب. عدم موافقته على تزويد أوكرانيا بمقاتلات "إف-16" في الوقت الحالي، مؤشر إلى رغبة بالفرملة. ثم إن مهمة شي تأتي في أعقاب إنجاز دبلوماسي خارق، ما كان من المتوقع التوصل إليه إلا من البوابة الصينية (الاتفاق السعودي الإيراني). وفي ذلك رصيد من شأنه أن يعطي وساطته بعض الزخم، لاسيما وأنه الجهة الأقدر، ويمكن أنها الوحيدة السالكة طريقها إلى مركز القرار في الكرملين.
إدارة بايدن شبه صامتة بحجة التريث، فهي في موقف غير مريح. لا يسعها رفض الدور الصيني في حرب أوكرانيا من الأساس، حتى ولو بذريعة أنه منحاز لموسكو. ومن جهة ثانية، ليست راغبة في تسهيله، على اعتبار أنه حلقة أخرى في مراكمة حضور دبلوماسي دولي لتوظيفه في بناء التحالفات الدولية.
وفي القراءات الأميركية، أنّ هذا التوجه يندرج في سياق السعي لاكتساب منزلة الدولة العظمى في آخر المطاف. وهذه مرتبة قال الرئيس بايدن مرة إنه "لن يسمح بها"، لكن الصعود الصيني كانت طريقه سالكة حتى الآن. هل يحقق نقلة دبلوماسية فارقة في أوكرانيا بعد الشرق الأوسط، أم أن مثل هذا المسار من شأنه أن يعجّل في حرب غير بعيدة مع الصين تحدثت عنها توقعات أميركية، خاصة عسكرية؟