قالت مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية إنّ إثيوبيا تحاول في الوقت الحالي تجديد الرهان على إبداء حسن النوايا تجاه السودان لوقف التنسيق المصري السوداني القائم على المطالبة باستئناف مفاوضات سد النهضة بآلية وساطة الرباعية الدولية (الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة)، وإنهاك الطرفين في البحث عن شكل متفق عليه للتفاوض حتى موعد الملء الثاني للسد، نهاية يوليو/ تموز المقبل. وكشفت المصادر لـ"العربي الجديد"، عن معلومات بلغتها من الخرطوم تفيد بأنّ أديس أبابا أرسلت إلى وزارة الري السودانية بيانات جديدة هذا الأسبوع خاصة بعملية الملء الثاني والتشغيل وفترة ما بعد الملء حتى نهاية وقت الفيضان المقبل، وذلك في إطار اصطناع إبداء حسن النوايا تجاه السودان، والمساعدة في منع حدوث أي مشاكل في سد الروصيرص والسدود الصغيرة الأخرى بالسودان نتيجة الفيضان أو بسبب الملء.
وذكرت المصادر أن إعطاء إثيوبيا هذه البيانات للسودان يلبي نظرياً بند الإخطار، المنصوص عليه في المبدأ الخامس من اتفاق المبادئ المبرم في مارس/ آذار 2015، في ما يخص الجانب السوداني فقط. لكن في المقابل، لم تعط إثيوبيا مصر أي بيانات تتعلق بفترة الملء أو بكيفية التشغيل، بما يخالف هذا المبدأ، وهو ما يعبّر عن وعي إثيوبيا التام بالشواغل السودانية ومحاولة ضرب الجهود المصرية للحفاظ على التنسيق مع الخرطوم.
أديس أبابا أرسلت إلى وزارة الري السودانية بيانات جديدة هذا الأسبوع خاصة بعملية الملء الثاني
وبحسب المصادر، فإنّ هذا التطور حدث بعد ساعات من زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للخرطوم، والتي شهدت إعلانه التوافق مع قيادات مجلس السيادة الانتقالي، وعلى رأسهم رئيس المجلس عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك، على ضرورة التوصل إلى اتفاق عادل وشامل قبل الملء الثاني للسد، ورفض أي خطوات فردية تصعيدية، واللجوء لآلية وساطة الرباعية الدولية المقترحة بمشاركة الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة.
وأشارت المصادر إلى نقطة أخرى تعبّر عن نوايا إثيوبيا في وقف آثار التوافق المصري السوداني مبكراً، وتتمثل في استهداف إرسال البيانات لوزارة الري السودانية التي تُصنف في القاهرة كحجر عثرة أمام التنسيق الكامل مع الخرطوم، بسبب رؤى قياداتها وخبرائها غير المتماشية مع المصالح المصرية، والأقرب إلى التساهل مع إثيوبيا. حتى وإن سبق وأعلن وزير الري السوداني ياسر عباس منذ أسبوعين أن الملء الثاني غير المخطط للسد يهدد حياة ملايين السودانيين، إذ إن "أجندته للحل لا تشترط تلافي المخاوف المصرية"، بحسب تقدير مصادر وزارة الري المصرية. فضلاً عن أنه كان صاحب اقتراح استئناف المفاوضات بالاستعانة فقط بالخبراء الفنيين للاتحاد الأفريقي.
وعن وجود خريطة واضحة لاستئناف المفاوضات حالياً بعد اتصالات وفد خبراء الكونغو الديمقراطية، وهي الدولة التي تترأس الاتحاد الأفريقي حالياً، مع الدول الثلاث بالزيارة أو باللقاءات عن بعد، قالت المصادر المصرية إنّ الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكسدي، يجب أن يدعو لاجتماع سياسي فني خلال هذا الشهر إذا ما أردنا حراكاً حقيقياً قبل فترة الفيضان، لكن الدعوة متأخرة بسبب الخلاف حول أجندة العمل وما إذا كان الاجتماع سيسفر عن الاحتكام للآلية الرباعية من عدمه.
وأول من أمس، الثلاثاء، أعلنت إثيوبيا رسمياً أنها ضد آلية الرباعية الدولية، وزعمت التزامها بمسار مفاوضات الاتحاد الأفريقي، وذلك تأكيداً لما نشرته "العربي الجديد" في الخامس من شهر مارس/ آذار، عن مماطلة أديس أبابا في الرد على مفوضية الاتحاد الأفريقي بالرفض، والزعم بتمسكها بالاتحاد كوسيط وحيد للتفاوض، وعدم رغبتها في إقحام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة في الأزمة، وأنها تفضل تقديم شكوى من مصر والسودان ضدها لمجلس الأمن على الانخراط في المفاوضات بهذه الصورة.
أعلنت إثيوبيا رسمياً أنها ضد آلية الرباعية الدولية
وذكرت مصادر دبلوماسية في حينه أنّ إثيوبيا التي تتعمد تعطيل مساعي تشيسيكيدي، تدعي في المناقشات مع مسؤولي مفوضية الاتحاد أنّ تغيير دفة التفاوض إلى مسار تشكيل رباعية دولية يتطلب أولاً الاتفاق على حدود الوساطة وعدم تخطيها البنود السابق التوافق عليها في اتفاق المبادئ، زاعمةً أنّ الشكل الجديد المقترح للتفاوض، بتطوير دور الأطراف الأربعة من مراقبين إلى وسطاء، يخالف ذلك الاتفاق.
ونشرت وكالة الأنباء الرسمية المصرية (الشرق الأوسط)، فجر أمس الأربعاء، تصريحات أدلى بها السيسي عن قضية سد النهضة خلال لقاء مع قيادات وضباط الجيش المصري بعد احتفالية يوم الشهيد التي حضرها، صباح أول من أمس الثلاثاء. وقال السيسي في هذه التصريحات إنّ "التفاوض حول سد النهضة لا يمكن أن يستمر للأبد"، لكنه وصف السد بأنه "يحقق فائدة كبيرة لأشقائنا في إثيوبيا ونحن لا نرفض ذلك، وموقفنا بهذا الشأن بلا أي انفعال أو ادعاء أو استعداء"، مؤكداً أنّ "نهر النيل هو حياتنا وحياة أشقائنا في السودان، وما يجمعنا على نهر النيل أكبر من أي شكل من أشكال أو أسباب الخلاف، لذلك نحن مصرون على الاستمرار في التفاوض، ولكن مع ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم".
وفي ما يبدو أنه رد فعل سوداني على البيانات الإثيوبية التي تحدثت عنها المصادر لـ"العربي الجديد"، أعلن وكيل وزارة الري السودانية ضوالبيت عبد الرحمن، أول من أمس الثلاثاء، في بيان، أنّ مهندسي الوزارة بإدارتي الخزانات ومياه النيل يعملون للتحسب لكل السيناريوهات المحتملة جراء الملء الأحادي لسد النهضة، وذلك للحد من الآثار السلبية المتوقعة، ويشمل ذلك تعديلات في نظم تفريغ وملء خزاني الروصيرص وجبل الأولياء. وحذر المزارعين والرعاة ومحطات مياه الشرب ومشروعات الري، وكل مستخدمي المياه والمواطنين عامة في النيل الأزرق، من الدمازين (في جنوب شرق السودان على الضفة الغربية لنهر النيل)، إلى الخرطوم، بأنه من المرجح أن تنخفض كميات المياه الواردة من النيل الأزرق خلال الفترة من إبريل/ نيسان حتى نهاية سبتمبر/ أيلول المقبل.
السيسي: مصرون على الاستمرار في التفاوض، ولكن مع ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم
وتابع عبد الرحمن في بيانه، أنه "بالنسبة للنيل الأبيض من الجبلين (في الناحية الجنوبية لولاية النيل الأبيض)، إلى جبل أولياء (في ولاية الخرطوم)، هذا القطاع سيتأثر أيضاً بملء سد النهضة، نسبة لتعديل نظم تشغيل خزان جبل الأولياء (جنوب العاصمة الخرطوم)، وسيؤدي ذلك لتقليص مساحات الجروف والمراعي نسبة لعدم التفريغ الكامل للبحيرة. وستزيد فترة المناسيب العالية للبحيرة بالنسبة لمحطات مياه الشرب ومضخات الري، وبالنسبة للنيل الرئيسي. ومن الخرطوم إلى عطبرة، سيتعرض هذا القطاع للتأثيرات نفسها، وستقل كميات المياه وتنخفض المناسيب وستتقلص مساحة الجروف المزروعة والمراعي".
وسبق أن ادعى وزير الطاقة والمياه الإثيوبي سيليشي بيكيلي أنّ بلاده تنفذ المبدأ الخامس من اتفاق المبادئ "بالحرف الواحد"، وأنها أطلعت دولتي المصب على جميع الاحتمالات خلال مفاوضات واشنطن في فبراير/ شباط 2020، وأنّ حالة الجفاف تحديداً يقدر احتمال حصولها بأقل من أربعة في المائة خلال أول عامين، وفقاً لأكثر التحليلات تشاؤماً. كما ادعى أنّ أديس أبابا تلتزم بعدم الإضرار بالدولتين في تلك الحالة، وأن الإخطار المسبق الوحيد الذي تكلف به إثيوبيا ضمن الاتفاق، هو إخطار دولتي المصب بأي ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.
ويتضمن هذا المبدأ (الخامس) بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر". وعليه ترى أديس أبابا أنّ مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند، بالسيادة المطلقة لإثيوبيا على السد، وهي ترفض مشاركة مصر والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من "عدم الإضرار"، باعتباره مبدأً منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته.
وبالتالي، فإنّ القراءة الإثيوبية لهذه العبارات المطاطة وحمالة الأوجه التي وقعت عليها مصر والسودان قبل 6 سنوات، تسمح بتملص أديس أبابا من واجباتها الطبيعية، وفقاً لقواعد مشاركة الأنهار والقوانين والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. كما أنها تقلل من شأن البند الذي ينصّ على أنه "لضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، سوف تنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة في ما بينها"، باعتبار أنّ الآلية التنسيقية لا يمكن أن تكون ملزمة أو ترتب أضراراً على عدم الالتزام، عكس ما تطلب مصر من البداية، وانضمت إليها السودان أخيراً في ذلك.