تشهد الساحة التونسية تصعيداً لافتاً للمواجهة بين الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه، ولا سيما بعد وفاة أحد متظاهري احتجاجات عيد الثورة يوم 14 يناير/كانون الثاني الحالي ويُدعى رضا بوزيان، وبداية ما يُوصف بحرب تحريك الملفات واحتدام الصراع بين رئيس الجمهورية والقضاة.
مجلس القضاء الأعلى يدين تدخلات قيس سعيّد
وبعد أن ألغى سعيّد، في مرسوم الأربعاء الماضي، المنح والامتيازات الممنوحة لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء، في خطوة جديدة للتضييق على المجلس، رد الأخير بعد جلسة عامة له، في بيان مساء أول من أمس الجمعة، على هذه الخطوة، بدعوة القضاة إلى "التمسك باستقلاليتهم".
ودان المجلس "التدخل في عمل القضاة، وحملات الضغط والتشويه الممنهج والمستمر ضدهم، والمسّ من اعتبارهم، لا سيما المتعهدين منهم بملفات قضائية جارية، بما يعرّض سلامتهم للخطر ويقوّض الثقة في أعمالهم".
ودعا "إلى الكف عن ذلك، التزاماً بالفصل 109 من الدستور (الخاص بالمجلس الأعلى للقضاء".
أكد المجلس الأعلى للقضاء مواصلة أداء مهامه دفاعاً عن استقلالية القضاء
ونبّه المجلس إلى "خطورة المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية" من خلال المرسوم الذي أصدره سعيّد يوم الأربعاء الماضي، "وما شابه من خروقات طاولت الفصل 113 من الدستور، بتعدّيه على استقلالية القضاء والتسيير الذاتي للمجلس، كتعديل ميزانيته خارج الإجراءات المستوجبة بالقانون الأساسي للميزانية، الذي يقتضي أن يكون تعديلها حصراً بواسطة قانون مالية تعديلية".
وأكد المجلس "تمسّكه بصلاحياته الترتيبية في مجال اختصاصه، المسندة له بصريح أحكام الفصل الأول من قانونه الأساسي، ورفض التمادي في الاعتداء عليها، في محاولة لإفراغ هذا الفصل من محتواه، لا سيما وأنه سبق للسلطة التنفيذية تعطيل إنفاذ كافة القرارات الترتيبية الصادرة عن المجلس سنة 2019 والمتعلقة بالمسارات المهنية للقضاة".
وأكد المجلس "مواصلة أداء مهامه دفاعاً عن استقلالية القضاء، وحسن سيره وضماناً للأمن الوظيفي للقضاة".
من جهتها، اعتبرت "اللجنة الدولية للحقوقيين"، ومقرها جنيف، في بيان الخميس الماضي، أن المرسوم الذي أصدره سعيّد "لا أساس قانونياً له، ويمثّل اعتداءً سافراً على استقلال القضاء، وينافي القانون التونسي والقانون الدولي ومبادئه، ويمعن في تهديد مبدأ الفصل بين السلطات وسيادة القانون في البلاد".
وقالت إن "على الرئيس سعيّد التراجع عن هذا المرسوم، والامتناع عن استخدام سلطاته التنفيذية للتدخل بشكل غير قانوني في عمل السلطة القضائية".
وقال مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "اللجنة الدولية للحقوقيين"، سعيد بنعربية، إنّ "مجلس القضاء الأعلى يعمل كضامن لاستقلالية القضاء والمحاسبة القضائية في تونس، ويجب إيقاف جميع الاعتداءات عليه من قبل الرئيس وحلفائه".
الحرب بين سعيّد والقضاة لن تنتهي قريباً
ولكن الحرب بين سعيّد والقضاة لن تنتهي قريباً، وربما تتجه بسرعة نحو تطورات أخطر، إذ كان سعيّد قال، في لقاء مع عدد من أساتذة القانون المقربين منه، قبل يوم واحد من مرسومه المذكور، إنه بحث "تصور لجملة من الحلول القانونية للمرحلة المقبلة، تقطع بصفة نهائية مع ما عاشه التونسيون خلال الفترات السابقة".
ويعني ذلك أن الصراع مقبل على مرحلة تأزيم جديدة، خصوصاً أن الرئيس يعتبر أن هذه المعركة هي "أم المعارك"، وأنها الخطوة الأخيرة لاستكمال مشروعه السياسي، بعد حصر السلطتين التشريعية والتنفيذية في يده.
حرب تحريك الملفات
وبدا لافتاً ما تناقلته تقارير إعلامية، أول من أمس الجمعة، مع بداية ما يسمى بـ"حرب تحريك الملفات". وقالت إذاعة "موزاييك" الخاصة، إن "وزيرة العدل ليلى جفّال، أذنت للوكيل العام لمحكمة الاستئناف بتونس، لتعهيد وكالة الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس، بفتح تحقيق والقيام بما يلزم من تتبعات بخصوص ما يعرف بالجهاز السري لحركة النهضة".
وذكرت أيضاً أن قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية بتونس، باشر أبحاثه بخصوص ظروف وملابسات تسليم المسؤول الليبي السابق، البغدادي المحمودي، إلى ليبيا (في عهد الرئيس الأسبق منصف المرزوقي).
وعلى الرغم من أن هذه الملفات ليست جديدة، وفُتحت فيها تحقيقات كثيرة سابقة، إلا أنها تعكس حدة المواجهة بين الرئيس وأبرز معارضيه، حركة النهضة، التي لا تزال تحتفظ بقدرة حقيقية على تحريك الشارع.
كما نجحت الحركة في إدارة هذه المرحلة إلى حد الآن، خصوصاً بتجميع المعارضين تحت سقف مقاومة الانقلاب والاقتراب من شخصيات كثيرة كانت على خلاف كبير معها، وهو ما أزعج بوضوح سعيّد الذي عبر عن ذلك مراراً.
وكان اجتماع رئيس حركة النهضة، رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، بالقيادي في حزب "الأمل" و"اللقاء الوطني للإنقاذ" أحمد الشابي، وقيادات "مواطنون ضد الانقلاب" في جنازة المتظاهر رضا بوزيان، أول من أمس الجمعة، إشارة قوية إلى إمكانية تشكّل جبهة معارضة أوسع لسعيّد.
يأتي ذلك، بينما تتواصل الاستعدادات لمسيرة احتجاجية جديدة يوم 27 يناير المقبل، ليس في تونس العاصمة، وإنما جنوباً في مدينة قابس.
استدعاء العميد السابق للمحامين، عبد الرزاق الكيلاني، من قبل القضاء العسكري، أثار استغراب الحقوقيين
محاصرة المعارضين لسعيّد وانتهاك الحريات
في الأثناء، تتواصل محاصرة المعارضين بكل الوسائل. وأثار استدعاء العميد السابق للمحامين، عبد الرزاق الكيلاني، من قبل القضاء العسكري أخيراً بعد تصريحات له حث فيها الأمنيين على تطبيق القانون، استغراب الحقوقيين في تونس وإدانتهم.
ويعتبر الكيلاني واحداً من أبرز معارضي سعيّد، وهو عضو هيئة الدفاع عن القيادي في حركة النهضة، نور الدين البحيري، وعضو في أغلب هيئات الدفاع عن المعارضين بمختلف انتماءاتهم، وقد تم إيقافه يوم عيد الثورة خلال الاحتجاجات، وهو أيضاً من أبرز داعمي "مواطنون ضد الانقلاب".
واعتبرت مجموعة "محامون لحماية الحقوق والحريات"، استدعاء الكيلاني "حلقة جديدة في مسلسل استهداف المحامين الفاضحين لانتهاكات الانقلاب والمدافعين عن الحقوق والحريات". واستغربت "اعتبار النيابة العسكرية تمسّك العميد السابق للمحامين بتطبيق القانون والدستور، من قبيل العصيان المدني".
من جهته، اعتبر الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي"، غازي الشواشي، في تصريح مع "العربي الجديد"، أن "سعيّد كان يرفع شعار حماية الحقوق والحريات، ويذكر بأنه لن يمس الأبواب المتعلقة بذلك في الدستور، ولكن تبيّن أن هذا الكلام غير صحيح، وكل وسائل الإعلام الوطنية والدولية عاينت ذلك صوتاً وصورةً، عندما خرجنا للاحتفال بذكرى الثورة في 17 ديسمبر/كانون الأول وفي 14 يناير".
وأضاف "ما حصل يوم 14 يناير، وثّقته كل الجمعيات المدنية والحقوقية، وبيّن الحجم الرهيب لعمليات القمع والاعتداء بالعنف الشديد والترهيب والإيقافات العشوائية، وما رافقها من انتهاكات باستعمال الدراجات النارية والمياه العادمة والضرب وغيرها".
وتابع الشواشي "لذلك، قررت الأحزاب الديمقراطية الثلاثة، التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، إيماناً منها بدولة القانون والمؤسسات، التقدم بشكوى للقضاء ضد وزير الداخلية توفيق شرف الدين، وكل من سيكشف عنه البحث متورطاً في الجرائم والانتهاكات بحق المواطنين التونسيين".
وأكد أن هؤلاء "ليسوا فوق القانون، ويجب التحقيق معهم ومحاكمتهم بعد ذلك، حتى نقطع مع مبدأ عدم المحاسبة".
الشواشي: لا يوجد الكثير من التفاؤل بخصوص اللقاء بين سعيّد والطبوبي
لقاء قيس سعيّد ونور الدين الطبوبي
وعلى الرغم من أن كثيرين استبشروا بلقاء الأمين العام لـ"الاتحاد العام التونسي للشغل"، نور الدين الطبوبي، بالرئيس سعيّد، السبت الماضي، فإن الشواشي لم يخف حذره بشأن مخرجات هذا اللقاء ونتائجه.
وقال لـ"العربي الجديد"، إن تفاصيل اللقاء بين سعيّد والطبوبي لم يكشف عنها بعد، ولكن يمكن معرفة أجواء الاتحاد على الأقل من خلال ما صرح به الطبوبي بعد اللقاء.
وأضاف "فقد ذكّر الطبوبي بضرورة ضمان الحقوق والحريات، وبأنه لا مجال للتفويت في المؤسسات العمومية، أو لرفع الدعم عن السلع الأساسية أو تجميد الأجور".
وتابع الشواشي "كما ذكّر الطبوبي بأن الحل يكمن في مسار تشاركي يساهم فيه كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين، ونحن نشارك الاتحاد هذا الموقف".
ولفت إلى أنه "خلافاً لتصريح الطبوبي، ليس هناك تصريح يبيّن موقف رئيس الجمهورية، ويوضح تصوره للمرحلة المقبلة، وهل هو متقبل لمواقف الاتحاد أو رافض لها؟".
وأشار إلى أنهم "لا يعتقدون أن هذا اللقاء قادر على حلحلة الأزمة، أو أن هناك على الأقل بوادر إيجابية بعده، بل على العكس من ذلك، رأينا تدخلات جديدة من رئيس الجمهورية".
ولفت إلى تصريحات سعيّد "بعد اجتماعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزير الداخلية، الأربعاء الماضي، فللأسف الشعارات والتصريحات والاتهامات هي نفسها، وأولوياته هي ذاتها؛ الاستشارة الوطنية الإلكترونية (بشأن الإصلاحات)، وضرب المجلس الأعلى للقضاء والتشكيك في مصداقية القضاة والشركات الأهلية والصلح الجزائي".
وتابع "عاد سعيّد لرفع شعار الحقوق والحريات المضمونة، بينما كان عليه أن يعتذر للشعب التونسي، أو إقالة وزير الداخلية الذي تسبب في الانتهاكات التي طاولت تونسيين خرجوا لإحياء ذكرى الثورة".
وأكمل "وبالتالي لا يوجد الكثير من التفاؤل بخصوص اللقاء بين سعيّد والطبوبي، وأعتقد أنها مجرّد مناورة من الرئيس، لإبراز أن هناك طرفاً قوياً اسمه اتحاد الشغل، على علاقة طيبة به، وقد يدعمه في المسار الذي اختاره، في مقابل معارضيه الذين خرجوا يوم 14 يناير".
وتابع "لكن ما عبّر عنه الطبوبي لا يبدو أنه يصب في إطار الموقف نفسه أو المسار الذي يصرّ عليه سعيّد".
وجدد سعيّد، أمس، في اتصال مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التأكيد على أن الإصلاحات التي أعلن عن مراحلها ومواعيدها في وقت سابق "هدفها الحفاظ على الحرية وتحقيق العدالة والتصدي لكل من نهب أموال الشعب التونسي ومقدراته".
وشدّد على أن "السيادة هي للشعب مصدر كل السلطات، ولا أحد باسم شرعية مزعومة يمكن أن يُنصّب نفسه مشرعاً في ظل قوانين وُضعت على المقاس لتفجير مؤسسات الدولة من الداخل ولا علاقة لها إطلاقاً بإرادة الشعب التونسي".
وبحسب بيان للرئاسة التونسية، تناول الاتصال بين سعيّد وماكرون قضايا تخصّ العلاقات التونسية الفرنسية في المجال الاقتصادي، وكذلك التعاون بين البلدين في كافة الميادين.
من جهته، دعا ماكرون، سعيّد إلى تنفيذ مرحلة انتقالية "جامعة"، وفق ما نقل بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية.
الغربي: الرئيس قيس سعيّد سيصطدم بالحقيقة الاقتصادية
من جهته، رأى المحلل السياسي التونسي، قاسم الغربي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هناك تطورات جديدة ستشهدها الساحة السياسية التونسية قريباً".
وأوضح أن "الرئيس قيس سعيّد سيصطدم بالحقيقة الاقتصادية، وكذلك داعميه ومؤيديه الذين يوفرون له المشروعية الشعبية اليوم، وهذا الدعم الذي يقوّيه إلى حد الآن".
واعتبر أن "سياسة إدارة الأزمة الاقتصادية يوماً بيوم، ستصل قريباً إلى نفق مسدود، والرئيس على الرغم من أنه يراهِن أو يُراهَن عليه في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي والدول المانحة، والتي فشلت في تطبيقها الحكومات السابقة، إلا أن سعيّد أيضاً سيعجز عن ذلك".
وأشار إلى أن الرئيس "سيصطدم في هذا الإطار، برفض المنظمات الاجتماعية، وأولها اتحاد الشغل، وسيفقد أيضاً الدعم الشعبي، ولا أعتقد أن اللقاء الذي جمعه بالطبوبي، سيغيّر في هذا الأمر شيئاً".
ولفت إلى أن "صندوق النقد اشترط وجود توافق وطني واسع حول هذه الإصلاحات، وعودة الحياة الديمقراطية، ولكن هذا غير متاح بالنسبة لسعيّد حالياً".
وأضاف الغربي "في المقابل، تتوحد المعارضة حالياً، وهناك معلومات عن اتصالات أولية قد تفضي إلى الإعلان عن جبهة جديدة، وبوادر هذه الاتصالات إيجابية بحسب ما وصلني من معلومات، وقد تشمل هذه الجبهة منتسبين إلى عائلات فكرية مختلفة من شخصيات وأحزاب".
وقال الغربي "أعتقد أن الرهان على سعيّد لن ينجح، ولكني أعتقد كذلك أن المستفيدين من هذا الفشل لن يكونوا معارضيه البارزين الآن، فقد تستفيد مثلاً (رئيسة الحزب الدستوري الحر) عبير موسي من إخفاقات سعيّد، لأنها تمثل بديلاً له وللمنظومة في الوقت نفسه، وقد تتجه إليها الأنظار إذا ما سقط مشروع سعيّد، وهو ما تبيّنه أغلب استطلاعات الرأي".