سورية... تطبيق عكسي لمصطلح وحدة الساحات

27 أكتوبر 2024
من التظاهرات المناصرة لفلسطين في محافظة إدلب، شمال غربي سورية (عمر الحاج قدور/فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة أخرج بشار الأسد نفسه، ونظامه، من دائرة مصطلح وحدة الساحات، وبالتالي ترك حركة حماس وقطاع غزةّ وحيدين أمام آلة القتل والإبادة الإسرائيلية، كما استمر هذا الأمر حتّى بعدما بات حليفه الأقرب، الذي ساهم في إبقاء النظام بالسلطة لسنوات قبل التدخل الروسي، أي حزب الله، تحت النار الفعلية في لبنان وسورية نفسها. ليس ذلك فحسب، بل بدت المفارقة، أو السوريالية بالأحرى، بأنّ إسرائيل نفسها هي التي بادرت إلى التطبيق الفعلي والحقيقي لمفهوم وحدة الساحات، وليس الأسد، كما روج ويروج منظروه وحلفاؤه في ضاحية بيروت الجنوبية، وفي طهران.

بدايةّ، لا بدّ من التذكير بالسياق التاريخي والفكري، مجازاً، لمصطلح وحدة الساحات، إثر مغادرة حزب الله، في العام 2000، لمربع المقاومة التقليدي، بعدما حصرها في إطار طائفي، وانتقاله إلى بناء جيش، بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتزوده بأسلحة ثقيلة واستراتيجية، وهيمنته على الدولة اللبنانية. في السياق ذاته، عمل الحزب ذراعاً إقليمياً مركزياً في خدمة السياسات الإيرانية التوسعية في المنطقة العربية، التي تباهت بتأسيس إمبراطورية فارسية، عاصمتها بغداد، من ذلك كلّه أضحى الحزب بمثابة الجيش، والذراع العسكرية، للإمبراطورية المزعومة في المنطقة/ الدول العربية.

تدخل حزب الله في سورية من أجل إنقاذ نظام الأسد من السقوط الحتمي، حتّى قبل ظهور داعش ذريعةً، وقبل عجزه عن إنجاز المهمة، التي تبعها الاستنجاد بروسيا لفعل ذلك، مثّل تمدداً لحزب الله وفق مقولة "نكون حيث يجب أن نكون"، بعيداً عن الشرعية اللبنانية ومؤسساتها الدستورية، وتحت الراية الإيرانية، والتغطية الأجنبية الأميركية في العراق، والروسية في سورية. حينها أرسل الحزب مقاتليه وقادته إلى سورية والعراق واليمن، ما جعله مخترقاً ومكشوفاً أمام الاستخبارات الإسرائيلية، وبالتبعية إحكام قبضته أكثر على الدولة اللبنانية الفاشلة ومؤسساتها، وقمع الانتفاضة الشبابية الشعبية، فارضاً هيمنةً تامةً على البلد والسلطات كلّها فيها، عبر ترغيبه للقوى السياسية والحزبية هناك وترهيبها.

رغم ذلك كلّه لم يحرك الأسد ساكناً، ولم يطلق رصاصةً، ولا حتّى كلمةً واحدةً، بل سحب قواته المنتشرة في المنطقة المحررة من الجولان إلى الوراء

ثمّ ومن أجل التغطية على ممارسات إيران وأذرعها في لبنان وسورية والعراق واليمن كلّها، ابتدع مقولة "محور المقاومة" الساعي إلى مواجهة السياسات الإسرائيلية والأميركية، والدفاع عن القضية الفلسطينية. في هذا السياق جرى تبرير الدفاع عن الأسد ونظامه ومنع سقوطه، على اعتباره ركناً أساسياً في محور المقاومة، وفي مشروع تحرير فلسطين.

غير أن القطيعة مع حماس خلال تلك الفترة، من 2011 إلى 2017، جعلت من الصعوبة بمكان الادعاء أن المحور غير طائفي، وأنه مقاوم في غياب حركة المقاومة الأكبر في فلسطين، أي حركة حماس، التي عادت مهرولةً إلى المحور بعد ذلك، بمزيج من الخفة والسذاجة، بما في ذلك قبولها بالعودة المهينة إلى نظام الأسد في سورية، وتبييض صفحته، وصفحة المحور كلّه بأثر رجعي، وبالتالي نزع الطابع الطائفي عنه، وإضفاء الطابع المقاوم عليه.

بعد ذلك، وخلال السنوات السبع اللاحقة، من 2017 إلى 2024، جرى الترويج لمصطلح محور الساحات، عبر الناطق الرسمي، والذراع الإقليمي للمحور، أمين عام حزب الله السابق حسن نصر الله، وكان معنى المصطلح واضحاً، ودائم التكرار، وتضمن الاستعداد للاشتباك المباشر مع الاحتلال، والزعم أنّ أيّ حرب قادمة بين إسرائيل وأي عضو من أعضاء محور المقاومة، بمن فيهم حماس، سينخرط بها أعضاء المحور كافّة، بغرض الوصول إلى تحرير فلسطين، وهزيمة إسرائيل، بعدما باتت ضعيفةً ومستنزفةً ومعزولةً، خصوصاً مع الخلاف والاستقطاب الداخلي الحاد فيها حول خطة الإصلاح/ الانقلاب القضائي، وتزايد دعوات رفض خدمة الاحتياط، تحديداً في قدس أقداس المؤسسة العسكرية، أي في سلاح الجو، وجهاز الاستخبارات بوحداته المختلفة.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

لم يتوقف هذا التنظير من قبل نصر الله والحشد الشعبي الإعلامي التابع له لسنوات طويلة، حتّى صدقته حركة حماس، ثمّ عندما عرضت فكرة "طوفان الأقصى" على الحزب وإيران لم يرفضاها مع إبداء الاستعداد المبدئي لدعمها، وعليه فهمت حماس أن المحور سيدعمها، ولن يتركها وحيدةً في الميدان، وهو ما اتضح جلياً من كلمة رئيس أركان الحركة محمد الضيف عند الإعلان عن الطوفان، صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي.

في صباح اليوم نفسه، وقبل تنفيذ العملية، أرسل قائد حركة حماس في قطاع غزّة يحيى السنوار نائبه صالح العاروري إلى حسن نصر الله لإبلاغه بساعة الصفر، التي كان بأجوائها نظرياً، طالباً منه تفعيل وحدة الساحات كما جرى التنظير له، خصوصاً مع التباهي بوجود خطة "احتلال" تحرير الجليل من قبل وحدة الرضوان التابعة للحزب. ثمّ بعد أسبوع من العملية، عاد إليه العاروري حاملاً رسالة عتب من السنوار، وتساؤل عن أسباب عدم تنفيذ المصطلح كما جرى التنظير له من كل الساحات، تحديداً من دول الطوق الأقرب لفلسطين لبنان وسورية.

اعتقدت حماس أنّ اشتعال الجبهات كلّها سيمنع إسرائيل من التنكيل بقطاع غزّة والاستفراد به، كما سيجعل التوصل إلى صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ممكناً وسريعاً، مع صُوَر نصر لحماس بالطوفان، كما بخروج آلاف الأسرى، وتنظيف السجون، وفق قاعدة الكلّ مقابل الكلّ، خاصّةً كبار القادة منهم، وتكريس قدرة المحور على تحرير فلسطين وهزيمة إسرائيل وإزالتها من الوجود.

إسرائيل نفسها هي التي بادرت إلى التطبيق الفعلي والحقيقي لمفهوم وحدة الساحات، وليس الأسد، كما روج ويروج منظروه وحلفاؤه

بعد إعلان الحزب عن الاكتفاء بجبهة المساندة والمشاغلة، طوال أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أعلن قادة حماس عن ترحيبهم بذلك واعتباره غير كاف، قبل أن يطلب المرشد الإيراني علي خامنئي من إسماعيل هنية إسكات الأصوات المطالبة بتدخل فعلي لإيران وأذرعها في المعركة، وذلك في لقاء بطهران في نهاية الشهر نفسه.

الشاهد إننا بتنا أمام جبهة مساندة، ذات طابع استعراضي من لبنان، لا تسمن ولا تغني من جوع، خصوصاً مع تحييد سورية والعراق وإيران عن محور وحدة الساحات نفسه، بحجة أن ظروفها لا تسمح بالانخراط الفعلي، كما قال حسن نصر الله في خطابه إثر اغتيال المسؤول العسكري للحزب فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، نهاية يوليو/ تموز الماضي.

وبالعودة إلى الجبهة السورية، حيث وجهت إسرائيل تحذيراً صارماً للأسد، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعدم الانخراط بالحرب أو فتح جبهة الجولان أمام حزب الله والأذرع الإيرانية، على افتراض أنّهم يريدون ذلك فعلاً، وإلّا ستوجه له ضربات قاصمةً قد تؤدي إلى إسقاطه من السلطة. علماً أنّ التحذير نفسه قد وصل بطرق مختلفة إلى إيران والحزب، باعتبار الأسد ذخراً وعموداً فقرياً في الإمبراطورية الفارسية التي تحتل أربع دول عربية.

وبتفصيل أكثر، قالت تل أبيب للأسد إنّها ستكون في حِلّ من التفاهم الذي توصلوا إليه مع روسيا، بعد تدخلها لحماية الأسد، ومنع سقوطه أمام ضربات المعارضة، في سبتمبر/ أيلول 2015، ومفاده ضمان تحييد الأسد، ومظاهر سلطته وسيادته عن أيّ ضربات وهجمات إسرائيلية ضدّ التموضع الإيراني، لا الوجود بحدّ ذاته في سورية. التزمت إسرائيل خلال هذه السنوات بالتفاهم مع روسيا، خصوصاً مع وجود خط ساخن بين رئاسة أركان الاحتلال "الكرياه" في تل أبيب، والقاعدة الروسية "حميميم" في اللاذقية.

خلال الأعوام التسعة الماضية، واصلت إسرائيل توجيه الضربات ضدّ إيران وأذرعها في سورية والعراق واليمن، بل وحتّى في طهران نفسها، كما اشتدت أكثر ضدّ لبنان خلال العام الأخير، إذ لم يفهم الحزب أو يقرأ نصر الله الواقع جيداً، المتمثّل في قيام إسرائيل بفعل ما لم يفعله هو وحلفاؤه، أي التطبيق الفعلي لمبدأ وحدة الساحات.

حتّى بعد انطلاق الحرب البرية، أو للدقة الانتقال إلى مرحلة أخرى من الحرب الإسرائيلية ضدّ حزب الله في لبنان، واستغلال الوقائع المستجدة لتوجيه ضربة قاصمة له، ولأسلحته الاستراتيجية، وتركيبته القيادية والسياسية والعسكرية، لم يتم تفعيل وحدة الساحات جدياً من الحزب وحلفائه، لا في سورية، ولا في المنطقة، وبدا مشهد غزّة، والانفلات الإسرائيلي، وجرائم الإبادة الموصوفة وكأنّه يتكرر بحذافيره في لبنان أيضاً.

أرسل الحزب مقاتليه وقادته إلى سورية والعراق واليمن، ما جعله مخترقاً ومكشوفاً أمام الاستخبارات الإسرائيلية

حدث تطور مهم جداً، في النصف الأخير من شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، على الجبهة السورية، تمثّل بتوغل الاحتلال الإسرائيلي في الجزء المحرر من هضبة الجولان، ذات الموقع الاستراتيجي المهم، ما أدى إلى توسيع المنطقة العازلة، وإقامة ما يشبه الشريط الأمني فيها، بغرض مراقبة حزب الله في سورية، وقطع خطوط الإمداد عنه وإليه، ومن جهة أخرى إكمال محاصرته في لبنان، من الجنوب فلسطين، والغرب البحر الأبيض المتوسط، والشرق هضبة الجولان، رغم ذلك كلّه لم يحرك الأسد ساكناً، ولم يطلق رصاصةً، ولا حتّى كلمةً واحدةً، بل سحب قواته المنتشرة في المنطقة المحررة من الجولان إلى الوراء، كما ضيق على مقرات حزب الله ومعسكراته في سورية، خصوصاً في دمشق ومحيطها، وحذره من مجرد التفكير في الرد على الجرائم الإسرائيلية في لبنان عبر الأراضي السورية. هنا لا بدّ من التذكير باتهامات إيران والحزب لبشار الأسد وأجهزته الأمنية بتقديم المعلومات والتفاصيل عن أماكن انتشارهم وتحركاتهم لتسهيل استهدافهم من قبل إسرائيل خلال الشهور والسنوات الماضية.

في الأخير باختصار وتركيز، وفي ضوء التخلي عن قطاع غزّة وتركه وحيداً أمام جرائم الإبادة الإسرائيلية، بدت تل أبيب، في ما يشبه المأساة، وكأنّها تطبق فعلياً مصطلح وحدة الساحات على طول المنطقة وعرضها، بما في ذلك في سورية نفسها، كما نظّر لها حسن نصر الله لسنوات، لكنه عجز هو وحلفاؤه في المحور عن فعل ذلك جدياً، في فلسطين، وحتّى في لبنان أيضاً، حيث ترك الحزب نفسه وحيداً أمام آلة الدمار والقتل الإسرائيلية المنفلتة.

المساهمون