شبح الإبادة الجماعية يخيّم على فلسطين منذ عام 1907

27 اغسطس 2024
مستوطنون بحماية قوات الاحتلال في الخليل،17 أغسطس الحالي (وسام حشلمون/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **الاستعمار والصهيونية:** منذ بداياتها، واجهت الحركة الصهيونية جدلاً حول استرشادها بالنموذج الاستعماري، حيث دعا زئيف جابوتنسكي في مقاله "الجدار الحديدي" عام 1923 إلى استخدام العنف لترسيخ السيادة اليهودية في فلسطين.

- **الجيل الثاني من الصهاينة:** تأثر الجيل الثاني بمذابح الإمبراطورية الروسية وسعى إلى السيادة الوطنية، مما أدى إلى تأسيس منظمة "هاشومير" وشركة تطوير الأراضي الفلسطينية، وتجريد العرب الفلسطينيين من ممتلكاتهم بوسائل اقتصادية قانونية.

- **النقاش حول العنف والإبادة:** نُشرت رسائل عام 1907 تناقش إمكانية لجوء الصهيونية إلى العنف والإبادة الجماعية، ولا يزال هذا النقاش مستمراً حتى اليوم، مع تسليط الضوء على الهجوم الإسرائيلي على غزة كجزء من دينامية إبادة جماعية.

إن الجدل حول الاسترشاد بالنموذج الاستعماري لفهم تاريخ الصهيونية، وبالتالي دولة إسرائيل، ليس بجديد. فإذا كان الفلسطينيون قد أثاروا تلك القضية منذ وقت بعيد، إلا أنها أثيرت بالفعل منذ بدايات الحركة الصهيونية كما تُظهر سلسلة رسائل منشورة عام 1907 باللغة العبرية.

إن النص الذي كثيراً ما يُستشهد به في النقاش حول أهمية المنظور الاستعماري لفهم الصهيونية، هو مقال زئيف جابوتنسكي الطويل "الجدار الحديدي"، والذي كان قد نشره عام 1923 بمثابة حجر الأساس لما يسمى بالحركة الصهيونية التصحيحية. وتتمثل أطروحته الرئيسية في ضرورة لجوء الصهيونية إلى العنف ضد السكان العرب في فلسطين، ويستمد تلك الضرورة من كونها مشروعاً استعمارياً يسعى إلى ترسيخ سيادة يهودية في فلسطين على حساب أصحاب الأرض الأصليين، والذين لا يسعهم وفقاً له إلا أن يعارضوا هذا المشروع بشدة، شأنهم في ذلك شأن أي سكان أصليين. وينافي هذا النص رواية الأجهزة الرسمية للحركة الصهيونية، التي سعت إلى التنصّل من هذا البعد الاستعماري العنيف أو إخفائه.

تبنى الجيل الثاني من الحركة الصهيونية القطيعة مع الدين الذي أصبحت خطاباته وممارساته بالية في نظرهم، خصوصاً لأنها تطيل أمد حالة المنفى، بينما يسعى الصهاينة إلى إرساء السيادة الوطنية

ولم تكن تلك المرة الأولى التي تتم فيها مناقشة هذه القضية داخل الحركة. فقبل 16 عاماً من نشر هذا النص، وتحديداً عام 1907، نُشِرت رسالة في الجريدة الأسبوعية العبرية "ها أولام" ("العالم")، وهي الجريدة الرسمية للمنظمة الصهيونية العالمية، تُظهر أن النقاش حول إمكانية لجوء الصهيونية إلى العنف قد أثير بالفعل في تلك الحقبة. ويأتي ذلك بعد مرور ثلاث سنوات على وفاة تيودور هرتزل عام 1904، وبعد عشر سنوات من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل، وبعد ثلاثين عاماً تقريباً من بدء الهجرة الصهيونية إلى فلسطين ("عليا الأولى"، من عام 1881 إلى عام 1903)، وتأسيس أولى المستعمرات الزراعية اليهودية في بتاح تكفا وجاي أوني. وهي الفترة التي أعقبت رفض الحركة الصهيونية "خطة أوغندا" ومعاودة تركيز جهودها على فلسطين.

الجيل الثاني من المستعمرين

ثم يأتي الجيل الثاني من الحركة الصهيونية، الذي كان نتاجاً لمذابح الإمبراطورية الروسية، بالإضافة إلى ردود الفعل الدولية وتظاهرات دعم اليهود. وقد بُنيت صهيونية أبناء هذا الجيل على الحوار مع التيارات السياسية الأخرى، خصوصاً الاشتراكية والثورية، التي جذبت الشباب اليهود. تبنّى هؤلاء القطيعة مع الدين الذي أصبحت خطاباته وممارساته بالية في نظرهم، خصوصاً لأنها تطيل أمد حالة المنفى، بينما يسعى الصهاينة بشكل أكثر صراحة إلى إرساء السيادة الوطنية. وتعد صهيونية موجة الهجرة الثانية "عليا الثانية" (1903-1914)، أكثر نشاطاً من "عليا الأولى" وأكثر انفتاحاً على العنف، كما يشير تأسيس منظمة "هاشومير" على سبيل المثال، وتعني "الحارس" بالعبرية.

ثم تطور المشروع الاستعماري وأصبح أكثر وضوحاً. في عام 1908، تأسست شركة تطوير الأراضي الفلسطينية (PLDC)، في لندن، ويعني اسمها العبري "هخشارات ها-يشوف" إعداد المستوطنة، برئاسة آرثر روبين، وهو عالم اجتماع تلقى تعليمه في ألمانيا، والذي أدخل إليها مبادئ تنظيم العمل الحديث والأسلوب الإحصائي. بحسب الباحث الإسرائيلي إيتان بلوم، دمج روبين الهاجس الديموغرافي، أي حاجة الحركة الصهيونية إلى جعل اليهود أغلبية في فلسطين، في نظام عنصري مستوحى من نظام تحسين النسل الألماني المتّبع في تلك الحقبة [1]. ولم يستهدف ذلك العرب الفلسطينيين فحسب، بل أيضاً اليهود المهاجرين من اليمن في عشرينيات القرن الماضي، والذين تم استقدامهم كعمالة رخيصة. كان الهدف المعلن للشركة التي يقودها روبين هو مساعدة المهاجرين اليهود الجدد، خصوصاً من أوروبا الشرقية، على الاستقرار في فلسطين كمزارعين، حيث قامت الشركة بشراء أراضٍ وأقامت عليها مزارع. وفي الفترة نفسها وُضِعت تصورات لأشكال أخرى من الاستيطان غير الاستعمار الريفي بتخطيط "أحوزات بيت"، الذي أنشئ رسمياً في عام 1909 وأصبح أول حي في تل أبيب.

خلال تلك الفترة تم تجريد العرب الفلسطينيين من ممتلكاتهم بوسائل اقتصادية تعتبر قانونية. حيث كان يتم شراء الأراضي من ملاكها الغائبين، وهم كبار الملاك المقيمين في لبنان أو سورية، ويُجبَر الفلاحون العرب على المغادرة، أحياناً مقابل تعويضات مالية.

كانت تلك الحقبة أيضاً حقبة المُثُل الصهيونية المتمثلة في "الحرس العبري" و"العمل العبري". وهنا نتحدث عن غزو سوق العمل، حيث كان الشباب اليهود القادمون من أوروبا الشرقية يدخلون في منافسة مع العمال الفلسطينيين العاملين في المستعمرات الزراعية. وهي أيضاً الحقبة التي تمّ فيها استحداث اللغة العبرية المعاصرة ووضعها في خدمة الحركة الوطنية، وبالتالي أصبحت لغتها الرسمية. وتعد تلك النهضة اللغوية، التي تهدف إلى تجديد لغة الكتاب المقدس والأدب الحاخامي وفقاً للمعايير والنحوية الأوروبية في ذلك الوقت، جزءاً من النهضة الوطنية.

إلى صديقٍ ماركسي

يوافق عام 1907 أيضاً الإصدار الأول لصحيفة "ها-أولام"، وكان رئيس تحريرها ناحوم سوكولوف، وريث هرتزل في الأمانة العامة للمنظمة الصهيونية العالمية. في ربيع عام 1907، نُشرت في القسم الأدبي سلسلة من 26 رسالة في أربعة أعداد متتالية، وكان عنوانها "مجموعة رسائل من عامل شاب ذي نفسٍ مضطربة". وتحت العنوان نجد ما يلي بين قوسين: "دوّنها عامل في أرض إسرائيل". يتحدث المؤلف، الذي ظل مجهولاً، إلى صديق طفولة يدعى ديفيد، وهو مثقف ماركسي حضري لم يغادر أوروبا.

في بدايات القرن الماضي، ذُكِر العنف الاستعماري الألماني في سياق النقاش حول علاقة الحركة الصهيونية بعرب فلسطين

مؤلف مجهول، "حزمة رسائل من عامل شاب ذي نفسٍ مضطربة"، ها-أولام، يونيو/ حزيران 1907. يمكن قراءة هذه السلسلة وكأنها مسودة رواية تشكيل أو قصة بلوغ صهيونية. تتبع الرسائل التطور الروحي والجسدي لكاتبها، شاب ينتمي إلى موجة الهجرة (عليا) الثانية، منذ لحظة وصوله وشعوره الكبير بالفراغ، حتى اكتشاف "ذاته الجديدة": الفلاح المحارب الذي يحوّل "المحراث إلى سيف، والمجرفة إلى رمح"[2]. وهكذا يصف التحوّل الذي طرأ على شخصيته في الرسالة التي تختتم السلسلة: قد تجدني عند السندان، أدق وأحوّل المحراث إلى سيف، والمجرفة إلى رمح... في تلك اللحظة قد تنظر إليّ من بعيد، من أعالي الجبال، [سأكون] واقفاً، متكئاً على مؤخرة بندقيتي، أنتظر، أراقب... تذكّر - أنا فلاح!... وأنت، كن حارثاً في ظاهرك، ولتجرِ الحمية والنخوة في عروقك!

تصف الرسائل السابقة حياة المؤلف في فلسطين، وأسفاره إلى المستعمرات، وأحلامه بالسيادة اليهودية. في لحظة ما، نجده يسير مع أصدقائه إلى قمة جبل طابور في الجليل، حيث يتأمل وادي يزرعيل الخصب، والذي لم يكن بعد في هذه المرحلة تابعاً للمنظمات الصهيونية. يرى العامل الشاب بوضوح أن الوادي مأهول ومزروع، ويشعر بالأسف لأنه ليس في أيدي الصهاينة (الذين حاولوا الاستيلاء عليه منذ نهاية القرن التاسع عشر). يقول: كان الوادي يمتد أمامنا كسجادة حريرية متعددة الألوان، وبه الكثير من الحقول الخلابة. وكل حقل صغير تزرعه أيادٍ رشيقة يلمع من بعيد مثل باقة من الزهور... بينما أتأمل هذا المشهد الرائع على قمة الجبل، استيقظ داخلي ألم... حنين رهيب. وددت لو أبتلع الوادي كله وأحتضنه وأقدمه هدية رائعة لشعبنا الذي لا يقل عنه روعة... وادي يزرعيل! هل ترى إلى أي مدى هو قريب منّا... لماذا ليس في أيدينا؟ لماذا أرى هذه الصور القاتمة من بعيد، المتمثلة في قطعان البدو؟ ليس لأحدٍ غيرنا الحق فيه!

حرب الإبادة ضد الهيريرو والناما

في الرسالة التالية المنشورة في يونيو/ حزيران 1907، نجد مقطعاً مثيراً بشدة للاهتمام، يتحدث عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الألمانية ضد شعبَي الهيريرو والناما في المنطقة التي تُعرف حالياً بناميبيا بين عامي 1904 و1908. لم تُذكَر كلمة إبادة جماعية، ولكن ذُكِر العنف الاستعماري الألماني في سياق النقاش حول علاقة الحركة الصهيونية بعرب فلسطين. وهكذا أثيرت منذ ذلك الوقت، أي قبل المجازر والتهجير القسري أثناء النكبة (1948) بسنوات، إمكانية لجوء الحركة الصهيونية إلى الإبادة الجماعية علناً في صحيفتها الرسمية "ها أولام"، ولكن سرعان ما أشير إليها كموضوع من الأفضل تجنبه.

سلّط مثقفون غربيون الضوء خلال الحرب الحالية على أن الهجوم الإسرائيلي على غزة يمكن أن يكون جزءاً من دينامية إبادة جماعية، تتجاوز حجّة إسرائيل بحقها في الدفاع عن نفسها

تروي الرسالة سجالاً دار بين العامل الشاب والمستوطن السيد ج.، "رجل مثير للاهتمام للغاية، ذو شعر طويل، [الذي] يدعي الإنسانية ويحب كثيراً الحديث عن الإنسانية التي تذلل الصعاب". كان السجال يتعلق بالعرب؛ فبحسب العامل الشاب، يهتم ج. كثيراً برفاههم، أما هو فكان يُقيّم معاناتهم من خلال أهمية المشروع الصهيوني، والمتمثل في بناء وطن لإيواء ملايين اليهود المضطهدين. وجّه له ج. الملاحظة التالية: نعم، أعرف هذا العذر، وتلك الجمل الجذّابة. لكن القتل سيبقى قتلاً حتى لو كان مثالياً. وما الفرق إذاً بيننا وبين الألمان الذين يقتلون الآن السود في أفريقيا؟ هناك أيضاً يمكنك سماعهم وهم يتفاخرون بأن [السود] يُقتلون على مذبح الهسكلة (حركة التنوير اليهودية).

أثار هذا غضب العامل الشاب، الذي ألقى خطبة لاذعة انتهت ببصقه في وجه مضيفه ومغادرة منزله: قلت له وأنا أرتعد: "أيها اليهودي! هل تسمع ما يخرج من فمك؟ الحرب في أفريقيا والعودة إلى صهيون! الشعب الألماني! هل تعلم لماذا يشنّون هذه الحرب؟ يفعلون ذلك بدافع من الشبع حتى القيء، بدافع من الامتلاء والجشع والرغبة في السيطرة والحكم وإبادة الشعوب. أما نحن، حتى لو افترضنا أن بعض الظلم قد وقع على بعض الأفراد، فهل تعرف أصل هذا الظلم؟ هل رأيت الأقبية المظلمة... والرطبة والمتعفنة التي تعيش فيها آلاف العائلات؟! هؤلاء من تسمّيهم الجلّادين والظالمين!... وماذا تريد منّا؟ أنه إذا واجهنا عقبات في طريقنا نتوقف دون أن نزيلها؟... أنا شخصياً لا أشعر بأي خلل في إنسانيتي بمشاركتي في هذه الحرب. هكذا يسحق الأسد الشجيرات الشائكة عند هروبه من معذّبيه! ولماذا يا سيدي هذا الإفراط في الإنسانية وهذا الكسل؟ هل تريد تأسيس رابطة محبي العرب؟ هذا مثالي للغاية!".

جدل حول الألفاظ وليس حول الواقع

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، نشر ديدييه فاسين مقالاً بعنوان "شبح الإبادة الجماعية في غزة" على منصّة AOC الإعلامية، يستحضر فيه الإبادة الجماعية لشعبَي الهيريرو والناما [3]، والتي سلّط عليها أيضاً الضوء مثقفون آخرون مثل المفكرة والناشطة الكندية نعومي كلاين، بهدف دق ناقوس الخطر. فأوجه التشابه البنيوية بين الحالتين تشير إلى أن الهجوم الإسرائيلي على غزة يمكن أن يكون جزءاً من دينامية إبادة جماعية، تتجاوز حجّة إسرائيل بحقها في الدفاع عن نفسها. في فرنسا، تعرّضت تلك المقارنة لانتقاداتٍ شديدة واعتبرها العديد من المثقفين غير ذات صلة [4]. نذكر منها نقد إيفا إيلوز على وجه الخصوص، والمنشور في مجلة "K" في 15 نوفمبر 2023 [5]، الذي يفيد بأن النقاش بالنسبة للبعض لا يتعلق بالحقائق بقدر ما يتعلق بطريقة التعامل معها. تقول: "في هذه الفترة الصعبة التي نعيشها، يعدّ اختيار الألفاظ المناسبة واجباً أخلاقياً وفكرياً".

يبدو أن هذا الشاغل تم التعبير عنه أيضاً في مقابلة نشرتها صحيفة لوموند في 19 إبريل/ نيسان 2024 بعنوان "اليسار لم يعد يعرف كيف يتحدث عما يحدث في الشرق الأوسط". وكأن الجدل حول الكلمات أكثر إلحاحاً من الجدل حول الواقع الذي نعيشه. وكأن على التحليل النقدي أن يلائم الامتثالية الأخلاقية المحيطة، بما أننا نعيش في "فترة مضطربة". ولكن التفكير النقدي تحديداً يجب أن يعبر عن نفسه في أي سياق وأن يزعزع مناطق الراحة.

[1] إيتان بلوم، آرثر روبين وإنتاج الثقافة ما قبل الإسرائيلية، إبريل، 2011.

[2] بعد مرور ما يقرب من 40 عاماً، في عام 1945، قام أجنون بتفكيك نموذج التشكيل أو البلوغ هذا في روايته الرائعة "تمول شيلسوم" (التي ترجمتها إلى الفرنسية روث م. لوبلان وأندريه سي زاوي ونشرها ألبين ميشيل عام 1971 تحت عنوان "كلب بالاك").

[3] ديدييه فاسان، "شبح الإبادة الجماعية في غزة"، AOC، 1 نوفمبر 2023.

[4] برونو كارسنتي، جاك إهرنفروند، جوليا كريست، جان فيليب هيورتين، لوك بولتانسكي وداني تروم، "إبادة جماعية في غزة؟ رد على ديدييه فاسين"، AOC، 13 نوفمبر 2023. انظر أيضاً رد ديدييه فاسين: "لا تتخلى عن التفكير – الرد على برونو كارسنتي وآخرين"، AOC، 14 نوفمبر 2023.

[5] إيفا إيلوز، "الإبادة الجماعية في غزة؟ إيفا إيلوز ترد على ديدييه فاسين"، k.la revue، 15 نوفمبر 2023

يُنشر بالتزامن مع "أوريان 21"
https://orientxxi.info/ar

ملحق فلسطين
التحديثات الحية