بعد مرور شهر كامل على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، تكشف الوقائع الميدانية أن حسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم تتطابق مع تطورات الأحداث على الأرض، ما منعه من تحقيق أي من الأهداف المعلنة للحرب. في المقابل، تزداد عزلة روسيا الدولية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والمالية، حتى أنها طاولت الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية. وشلّت العقوبات التي فرضها الغرب قدرة السلطات المالية الروسية على التخفيف من آثار هذه العقوبات وإنقاذ الروبل الروسي من أكبر انهيار في تاريخ روسيا المعاصر.
وبعد نزوح معظم الشركات العالمية الجماعي عن روسيا، وتعليق أعمالها في المدن الروسية، تعود بعض مناحي الحياة إلى ما كان عليه الوضع قبل 30 عاماً. ولعل الأخطر أن السلطات استغلت العملية العسكرية لسنّ قوانين وتشريعات تعيد البلاد إلى مرحلة ما قبل البريسترويكا والغلاسنوست (إصلاح سياسي في عهد الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف) في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وضيّقت بموجبها الخناق على وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والحريات العامة، وصنعت ستاراً حديدياً جديداً، بعد قرار معظم وسائل الإعلام العالمية وقف تغطيتها من موسكو، وإغلاق أخرى في روسيا، وبدء هجرة جزء من النخب المعارضة الفنية والإعلامية إلى الخارج.
وربما يُسجل للكرملين أن بنيان السلطة الذي عمل عليه بوتين منذ نحو 22 عاماً، لا يزال متماسكاً، من دون توقعات بحدوث انشقاقات وخلافات نظراً لطبيعة وشكل هذا البناء.
لم تسيطر روسيا سوى على مدينة كبيرة واحدة، هي خيرسون
ولم تستطع "العملية العسكرية الخاصة لحماية دونباس"، بحسب التسمية الروسية، تحرير كامل أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك وفقاً للحدود الإدارية لهما قبل أحداث 2014. ولا تزال القنابل تنهمر على لوغانسك ودونيتسك بحسب التصريحات الروسية، كما يخوض الجيش الأوكراني عمليات كرّ وفرّ، ولا يزال قادراً على الصمود، رغم الحصار المطبق على العاصمة كييف ومدن خاركيف وماريوبول وزاباريجيا وسومي، ما يعني أن هدف نزع الأسلحة لم يتحقق.
وفي كييف، يتفوق "الممثل الكوميدي"، أو "عازف البيانو" كما يطيب لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على القيصر بوتين إعلامياً، بظهوره في مدينته معلناً أنه لن يستسلم ولن يسلّم "أم المدن الروسية" للقيصر "إلا على جثته". ولم يحصل أي تغيير في صفوف السلطات الأوكرانية، التي يسميها حكام موسكو "النازيين الجدد"، في حين تزداد مشاعر "روس فوبيا" وكراهية الروس في أوكرانيا والعالم، ويواصل المفاوضون الروس عقد جولات مع ممثلي هذه السلطة.
فشل عسكري ذريع
وبدا أن الجيش الروسي المزود بأسلحة "لا تقهر ولا نظير لها" في العالم، بحسب تصريحات بوتين، قد فشل في الاختبار، على الرغم من مئات المليارات من الدولارات التي صرفت لتلافي الأخطاء التي ظهرت في الحرب على جورجيا عام 2008، والتدريب في "حقل الرماية" السوري.
وبعد شهر من القتال المكثّف، لم يتمكن أكثر من 150 ألفاً من جنود وجنرالات روسيا، وفق أقل التوقعات، من السيطرة سوى على مدينة كبيرة واحدة، هي خيرسون المطلة على البحر الأسود، على الرغم من أنها لا تزال تشهد عمليات حرب عصابات من السكّان الذين لم يستقبلوا "رسل بوتين للخلاص" بالورود، وواصل بعضهم احتجاجات يومية تطالب بخروج "المحتلين" الروس، رغم أن غالبيتهم من الناطقين بالروسية.
وفي إشارة إلى فشل عملياتي ذريع، ذكرت وسائل إعلام غربية أن الأوكرانيين انتقلوا إلى هجوم معاكس وخصوصاً في الجنوب والجنوب الشرقي من البلاد، كما أشارت تقارير إلى فشل روسي في مجال توفير الاتصالات بين القوات على الأرض، بعدما دمرت معظم أبراج الاتصالات الأوكرانية. وفي وقت سابق، كشفت صور الدبابات والمدرعات الروسية المهجورة على أطراف شوارع مدن وقرى أوكرانيا، عن خلل خطير في تأمين الإمدادات من الوقود والأغذية، ناهيك عن مقاطع فيديو توثق تفجير وإعطاب مئات الدبابات والمدرعات باستهدافها بطائرات مسيّرة أو مضادات أرضية متقدمة.
من جهته، سعى الكرملين على لسان المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف، إلى التخفيف من التقارير عن فشل الجيش الروسي، عبر التأكيد على أن الهدف لم يكن احتلال أوكرانيا، علماً أن خريطة المعارك تثبت العكس، وتبريره طوال مدة المعارك بالقول إنها تسير وفق المخطط المرسوم سابقاً، نافياً في حوار لشبكة "سي أن أن" أن الخطة كانت تقتضي السيطرة على أوكرانيا في غضون أيام.
وفيما تواصل وزارة الدفاع الروسية إصدار بيانات عن نجاحها في استهداف عشرات أو مئات الأهداف يومياً، فقد توقفت منذ نهاية الأسبوع الأول عن نشر أي بيانات بشأن الخسائر في الأرواح والمعدات، ليتوقف العداد عند 497 قتيلاً، مع بعض الطائرات التي سقطت نتيجة "خطأ فني".
ويجهد المسؤولون الروس في محاولة تبرئة الجيش من استهداف المدنيين، وتعطيل الممرات الآمنة للخروج من المدن المحاصرة، لكن مناظر الدمار الرهيب في ماريوبول وخاركيف وغيرها، فضحت تصرفات الجيش الروسي باستخدام سياسة الأرض المحروقة وتدمير المدن كما جرى في حلب السورية وغروزني سابقاً، ووسط اتهامات من منظمات حقوقية بارتكاب الروس انتهاكات ترقى إلى جرائم جرب.
إلى ذلك، قوّض توجه الغالبية العظمى من اللاجئين إلى بولندا ورومانيا والمجر ومولدافيا الدعاية الروسية بأن "النازيين الجدد" يستخدمون المدنيين دروعاً بشرية ويمنعون توجههم نحو روسيا: فمن أصل قرابة 4 ملايين لاجئ، لم يتجاوز عدد الذين قصدوا روسيا، بحسب البيانات، أكثر من 250 ألفاً، أكثر من نصفهم نظمت عملية إجلائهم قبل انطلاق الغزو.
عزلة دولية ونتائج عكسية
وعلى الرغم من تمرس الدبلوماسيين الروس في النقاشات في ساحات مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، بدا واضحاً أن عزلة روسيا تزداد بعدما صوّتت خمس دول فقط معها ضد قرار يدين الغزو على أوكرانيا في الجمعية العمومية، مقابل تأييد 141 دولة.
وجاء الغزو بنتائج عكسية في ما يخص الضمانات الأمنية التي طرحتها روسيا في منتصف ديسمبر/ كانون الأول على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، وهي مطالب عرضتها بعد حشد نحو 190 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وتضمنت حياد أوكرانيا، وعودة الناتو إلى الحدود التي كان عليها في عام 1997 قبل توسعه شرقاً، وعدم نشر أسلحة يمكن أن تحمل أسلحة استراتيجية تهدد روسيا، إضافة إلى قضايا ثانوية أخرى. وباستثناء إعلان أوكرانيا أنها موافقة على الحياد وعدم الانضمام إلى الناتو، فقد ارتدت باقي النقاط وبالاً على روسيا.
وربما كان الخطأ الأساسي بالنسبة إلى روسيا هو الانتقال من "التلويح بالقوة" لإجبار الغرب على التفاوض، إلى استخدام قوة لم تجد نفعاً. ومن الواضح أن ردّ الفعل الغربي السريع والمنسق بشكل تصاعدي فاجأ صنّاع القرار في روسيا الذين كانوا يراهنون على ضعف الولايات المتحدة والناتو بعد الانسحاب من أفغانستان، والخلافات على ضفتي الأطلسي. وكشفت وقائع الشهر الأخير أن الناتو قوّى جبهته الشرقية بشكل واضح، وزاد انتشاره في بلدان البلطيق وبولندا ورومانيا، كما ضخّ أسلحة متطورة جديدة إلى هذه البلدان.
توقفت وزارة الدفاع عن نشر بيانات عن جنودها القتلى
وبعد سنوات من محاولات روسيا إضعاف الاتحاد الأوروبي و"دقّ إسفين" بينه وبين الولايات المتحدة، انقلبت الأوضاع، وتعززت الشراكة في داخل الاتحاد الأوروبي، وتعززت علاقاتها مع الولايات المتحدة. وبدا واضحاً أن الحرب دفعت الأوروبيين أكثر نحو إنشاء منظومة أمنية ودفاعية خاصة بهم، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ولا تكون بديلاً عن الناتو، ولكنها بالتأكيد ستنظر إلى روسيا كمصدر لتهديدات خطيرة على الأمن الأوروبي. كما خسرت روسيا جميع الجهود التي وظّفتها في السنوات الأخيرة لجذب قوى اليمين المتطرف الأوروبي، وبعض أطراف اليسار في أوروبا، إذ اختار معظم ممثلي هذه الأطراف النأي أو حتى شجب الغزو الروسي.
عودة الستار الحديدي
وعلى الرغم من تأكيد الكرملين أن نحو 68 في المائة من الروس يؤيدون قرار إطلاق العملية العسكرية في أوكرانيا، بحسب استطلاعات رأي لمؤسسات حكومية، لم تنظم أي استطلاعات عن تأثير هذه الحرب على الداخل الروسي.
وانطلاقاً من شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، قرّرت السلطات إغلاق عشرات المواقع، ومنها إذاعات ومحطات تلفزة عريقة، وأغلقت موقعي "فيسبوك" و"إنستغرام"، وأقرّت قوانين تجرّم التظاهر تصل مدتها إلى 3 سنوات.
كما تبنت السلطات قانوناً يحظر على وسائل الإعلام الروسية نشر أي معلومات عن خسائر الجيش الروسي إلا من المصادر الرسمية، كما وافق المشرعون على قانون يمنع ازدراء وإهانة الجيش الروسي في وسائل التواصل الاجتماعي تصل عقوبة خرقه إلى 15 عاماً.
واستغلت السلطات الروسية أوضاع الحرب، وخروج وسائل الإعلام الأجنبية المحايدة، من أجل بناء "ستار حديدي" جديد أشبه ما يكون بقيود الزمن الستاليني، ما دفع مئات الفنانين والإعلاميين ومقدمي البرامج إلى مغادرة البلاد أو التوقف عن العمل مؤقتاً مع التزام الصمت، بينما قرّر بعضهم الجهر برفضه الحرب وبقائه خارج البلاد.
بعد شهر من الغزو الروسي، تبدو الآفاق ضبابية حول ما ستؤول إليه الحرب في أوكرانيا التي لم تحسمها حتى الآن صواريخ كاليبر وكينجال فرط الصوتية. واحتمال التصعيد وارد، خصوصاً في مناطق دونيتسك ولوغانسك من أجل تحقيق السيناريو الأدنى لحرب بوتين في حال قرّر الاحتفال بعيد النصر في 9 مايو/ أيار المقبل بتحقيق أقل ما يمكن. لكن المؤكد أن الرئيس الروسي لن يستطيع السيطرة على كامل أوكرانيا، كما مظاهر الاحتفال بالعيد "الأقدس" الذي سعى بوتين إلى تكريسه في السنوات الأخيرة لن يستطيع محو تأثير العقوبات على شوارع موسكو وحياة الروس.
ومن الواضح أن العقوبات لم تؤثر كثيراً على تماسك النخبة المحيطة ببوتين، ويرى المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أنه كلّما طال أمد الحرب، من المرجح أن تزداد التوترات سوءاً وصولاً إلى "انهيار نظام السلطة في الكرملين". فبعض الأطراف الفاعلة في النظام قد يميلون إلى أن يطلبوا من بوتين أن يتوقف، أو حتى أن يطيحوا به. لكن تاتيانا ستانوفايا، الباحثة في مركز كارنيغي في موسكو، لا ترى في الوقت الحالي، كما قالت لـ"فرانس برس"، أي مؤشر إلى ذلك.