صراع الصلاحيات في تونس: علّة دستورية أم رغبة بالسلطة؟

02 أكتوبر 2020
لا يقبل سعيّد الوضع الدستوري الحالي (فرانس برس)
+ الخط -

يدور حوار غريب بين الرئيس التونسي قيس سعيّد، ورئيس الحكومة الذي عيّنه بنفسه، هشام المشيشي، عبر وسائل الإعلام، في خطوة تدلّ على تشابك الصلاحيات في البلاد. وقد بدأ الحوار بفيديو يطلب فيه سعيّد بلهجة حادة من المشيشي عدم تعيين مستشارين لدى الحكومة لارتباطهم بالنظام القديم، قبل أن يردّ رئيس الحكومة، في اجتماع عُقد مساء أول من أمس الأربعاء، بدعوة وزرائه إلى "التفاعل مع رئاسة الجمهورية وفق ما يليق بها بالإيجابية والسرعة المطلوبة". واشترط أن يتم "التنسيق والاستشارة المسبقة لرئاسة الحكومة"، ومشدّداً على أن "مخاطبة رئاسة الجمهورية عبر المكاتيب تتم حصراً عبر رئاسة الحكومة".

هذا الحوار بين الرجلين يحمل خفايا كثيرة، من بينها أن المشيشي يخاطب فيه من يُسمّون في الحكومة بوزراء سعيّد، ويوجه رسالة إلى الرئاسة بأن الأسس تقتضي المرور عبره أولاً. ويأتي رد المشيشي أيضاً على اجتماعات كثيرة يعقدها سعيّد مباشرة مع الوزراء ويوجّه تعليمات وكأنه هو رئيس الحكومة. ولكن الرئيس لا يتحدث مع الوزراء فقط، بل يأمر ببناء جسر لتلاميذ في الأرياف ويعقد اجتماعات حول كورونا ويشكّل لجاناً للصحة والأمن واسترداد الأموال المنهوبة وغيرها. وكأن الرئيس يضيق بصلاحياته المحدودة، فيما ينتظر منه الشعب إنجازات على الأرض تغير من حياتهم الصعبة.


بدأ الخلاف على الصلاحيات منذ أيام الرئيس الراحل السبسي

في السياق، اعتبر المحلل السياسي قاسم الغربي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن الإشكال في الصلاحيات ليس جديداً بل مبدئي في ذهن شخصية سعيّد، إذ يبدو أنه لا يقبل الوضع الدستوري الذي يمنحه وزارتي الخارجية والدفاع والإشراف على مجلس الوزراء، مشيراً إلى أن المقصود في الدستور بترؤس سعيّد مجلس الوزراء هو إمكانية التدخل في مسائل تنفيذية تهم الحكومة وليس التدخل المباشر. وأضاف أنه من الواضح أن سعيّد رافض لهذه الصلاحيات، بل يكاد لا يهتم بالخارجية التي هي من ضمن صلاحياته، ولا تعنيه بقدر ما تعنيه صلاحيات رئاسة الحكومة. وبدا وكأن سعيّد يرى أن دوره تنفيذي مرتبط بالشأن الداخلي وليس في العلاقات الخارجية، وغيابه أثّر على الدبلوماسية التي تعيش نوعاً من التعطيل والخوف من التعبير عن استيائها خشية رد الفعل. وفي المقابل، يهتم الرئيس بوزارة الدفاع لأنها مرتبطة بمسائل داخلية.

ولفت الغربي إلى أن هناك مشكلة في الصلاحيات، فالصراع في الصلاحيات كان في البداية مع رئيس مجلس النواب، والآن بالإضافة إلى ذلك أصبح مع رئاسة الحكومة. وحول تعدد اللجان التي أعلنها سعيّد، أكد الغربي أن التجربة السياسية أثبتت أن اللجان لا دور لها، وهي تمثل نوعاً من الشعبوية لإثبات الوجود وربما تعجب الأنصار المدافعين عن الرئيس، ولكن عملياً قد لا تفيد تونس. ورأى أنه كان مؤملاً لو أن لها دورا فعلاً في استرداد الأموال المنهوبة وكشف الحقيقة، غير أن الأمر مستبعد.

ولكن أزمة الصلاحيات ليست جديدة، وليست خاصة بسعيّد، إذ ظهرت منذ الانتهاء من كتابة الدستور وانتخاب أول رئيس مباشر من الشعب، الباجي قائد السبسي، الذي لطالما اشتكى من صلاحياته المحدودة، ودخل في خلاف مع أول حكومة شكّلها الحبيب الصيد، وتمت إقالتها، ثم في خلاف مع يوسف الشاهد وصل إلى حد تعطيل الدولة. ونتيجة ذلك الخلاف، دعا السبسي صراحة إلى إجراء تعديلات دستورية لمنح الرئيس مزيداً من الصلاحيات على حساب رئيس الحكومة، وقال في خطاب بمناسبة عيد الاستقلال في 20 مارس/آذار 2019: "رئيس الجمهورية لم تعد له سلطة كبيرة، ولدي تحوير للدستور جاهز". وأضاف "سيكون من الأحسن التفكير في تعديل بعض فصول الدستور"، مشيراً إلى أن السلطة التنفيذية هي برأس واحد يسيطر عليها رئيس الحكومة، ورئيس الدولة مسؤول عن سياستها الدفاعية والخارجية.

وعن هذا الموضوع، قالت أستاذة القانون الدستوري الخبيرة في الشأن البرلماني، منى كريم، لـ"العربي الجديد"، إن الدستور التونسي يتحمّل جزءاً من المسؤولية، والنظام الانتخابي يتحمّل جزءاً آخر، والشخصية التي تتولى الرئاسة أيضاً تتحمّل جزءاً ثالثاً من المسؤولية إما بإنجاح النظام السياسي أو تعطيله. ورأت كريم أن العلاقة بين الطرفين اللذين يقودان السلطة التنفيذية محددة أيضاً، فإذا كان هناك توافق وانسجام بين رئيسي الجمهورية والحكومة ينعكس ذلك على نظام الحكم، وإن كانت العلاقة بينهما مضطربة فإن ذلك سيكشف كل عيوب الدستور. وشدّدت على أن طريقة تطبيق النص الدستوري ومن يطبقه يعطي اختلافاً في النص نفسه، والعوامل هي التي تحدد نجاح أو فشل النظام السياسي.


من غير المفهوم تجاوز رئيس الدولة لصلاحياته واختصاصاته

ووصفت كريم الوضع الحالي بالتخبّط باعتبار أن الدستور منح الصلاحيات للرئيس الذي هو في الوقت نفسه مكبّل من دون وسائل التنفيذ والتحرك، مشيرة إلى أن ذلك غير كافٍ لتوضيح دور كل طرف، فإما أن يكتفي الرئيس بدور الحكَم بمنحه سلطات لحل الأزمات فحسب، وإما بمنحه صلاحيات تنفيذية واضحة تقطع مع حالة التنافس والتمركز بينه وبين رئيس الحكومة، مشددة على أن طريقة تقسيم السلطات بينهما خاطئة.

ورأت كريم أن من غير المفهوم تجاوز رئيس الدولة لصلاحياته واختصاصاته بالتدخل في تعيينات رئيس الحكومة ومستشاريه وكذلك بالتدخل في عمل الوزراء، وهو ما يخلق أزمة بين رئيسي الحكومة والجمهورية. ولفتت إلى أن اللجان التنفيذية التي يشكّلها رئيس الدولة هي لجان موازية وبديلة لم ينص عليها القانون، مشيرة إلى أن للرئيس حرية تشكيل اللجان على ألا تعطّل عمل الحكومة وأن يلتزم بحدود ما أعطاه الدستور. واعتبرت أن الرئيس بصدد البحث عبرها عن وسائل التموضع والتمركز.

ويبدو أن الأزمات مرشحة للاستمرار في تونس لهذه الأسباب وغيرها. هذا الصراع الجديد بين المشيشي وسعيّد ستتبعه بالتأكيد تطورات مقبلة، فقد وجّه الأول تحذيراً واضحاً للوزراء الذين اقترحهم القصر قبل أن تفسد العلاقة بين الطرفين، وخيّرهم بوضوح بين ولائهم للحكومة ولملفاتهم أو لمن عيّنهم، بما يعني أن أيامهم في الحكومة قد تكون معدودة.