مع ارتفاع وتيرة الهجمات المسلحة في باكستان، يزداد التصعيد بين إسلام أباد وكابول. ومع أن الهجوم الدموي على مسجد داخل مجمع للشرطة في مدينة بيشاور الباكستانية في 30 يناير/كانون الثاني الماضي، والذي أدى إلى مقتل 101 من عناصر وضباط الشرطة، كان حلقة جديدة في الصراع بين الجارتين، إذ بدأ تبادل الاتهامات بينهما على مستوى عالٍ، إلا أن الصراع الحقيقي بدأ بعد أن أعلنت حركة طالبان الباكستانية إنهاء وقف إطلاق النار مع الحكومة الباكستانية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وسبق ذلك اعتذار كابول عن العمل ضد طالبان الباكستانية خلال زيارة وفد لعلماء الدين الباكستاني إلى العاصمة الأفغانية في يوليو/ تموز الماضي، على رأسه عالم الدين المشهور شيخ محمد تقي عثماني الذي يصفه الباكستانيون بشيخ الإسلام.
وفود باكستانية إلى إيران وأفغانستان
وكشفت وكالة "فرانس برس"، أمس السبت، أن إسلام أباد ستطلب من زعيم حركة طالبان الأفغانية الملا هيبت الله أخوند زاده: "كبح جماح المسلحين في باكستان".
ونقلت الوكالة عن فيصل كريم كوندي، المساعد الخاص لرئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، قوله إنه "سيتم إرسال وفود إلى طهران وكابول لمطالبتهما بضمان عدم استخدام الإرهابيين أراضيهما ضد باكستان".
كذلك نقلت "فرانس برس" عن مسؤول كبير في الشرطة الباكستانية في إقليم خيبربختونخوا، حيث وقع انفجار بيشاور، تأكيده أن "وفد إسلام أباد في كابول سيجري محادثات مع كبار المسؤولين"، مشددّاً على أن "هذا يعني زعيم طالبان الأفغانية".
منذ ذلك الوقت كان صنّاع القرار في باكستان يتوقعون التصعيد بين الدولتين، أو على الأقل أدركوا أن طالبان في أفغانستان لن تقف إلى جانبهم، وبالتالي تغيرت نبرتهم في تعاملهم مع الحركة، التي كانت إسلام أباد تعتبرها قبل مغادرة الأميركيين أفغانستان في أغسطس/ آب 2021 حليفاً مهماً قد يكون بمثابة جدار واقٍ في الدفاع عن باكستان ومصالحها.
مع العلم أن السلطات الباكستانية وقفت ضد الحركة وقياداتها، بعد انضمامها إلى التحالف المعارض للإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، الذي نشأ عقب اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، التي ضربت مدناً أميركية. وبعد سقوط حكومة طالبان في كابول في أواخر عام 2001، اعتقلت إسلام أباد العشرات من قيادات الحركة وسلّمتهم إلى الولايات المتحدة أو الحكومة الأفغانية، مثل سفير طالبان في إسلام أباد الملا عبد السلام ضعيف، الذي لا يزال يصف باكستان بـ"أشد أعداء أفغانستان".
كذلك قضى بعض عناصر طالبان في السجون الباكستانية مثل الملا عبيد الله، القيادي المقرب لمؤسس الحركة الملا عمر، والشيخ محمد ياسر القيادي البارز في الحركة.
محمد جنيد: 1300 من قادة طالبان أفغانستان مفقودون في باكستان
في هذا الشأن، قال القيادي في طالبان الأفغانية المولوي محمد جنيد، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "1300 فرد من قادة الحركة من الصف الأول والثاني والثالث لا يزالون مفقودين، وهم ممن اعتقلتهم الاستخبارات الباكستانية، لكن لا علم للحركة حول مصيرهم".
وأضاف أن "نائب رئيس الوزراء الملا برادر الذي أمضى سنوات مريرة في السجون الباكستانية سلّم قائمة المفقودين من قيادة الحركة إلى رئيس الاستخبارات الباكستانية السابق الجنرال فيض حميد، خلال زيارته إلى كابول في سبتمبر 2021، وطلب منه الإفراج عنهم أو على الأقل تقديم معلومات بشأنهم".
وجاء موقف برادر رداً على مطلب الجنرال الباكستاني باتخاذ خطوات فاعلة وإجراء عمليات مسلحة ضد طالبان الباكستانية، التي وقفت مع طالبان أفغانستان بعد انهيار حكومتها، واحتضنتهم في المناطق القبلية الباكستانية، وهو ما تعتبره كابول الآن ديناً في رقبتها لطالبان باكستان.
وبغض النظر عن تعامل إسلام أباد بعد انهيار حكومة طالبان في 2001، تعاملت باكستان بشكل جيد مع الحركة في السنوات الأخيرة من الوجود الأميركي في أفغانستان، إذ كانت منازل معظم قادة الحركة في باكستان، وكانت المستشفيات الباكستانية تقدم العلاجات لجرحاهم، وغير ذلك من المساعدات.
وكانت إسلام أباد تظنّ أنه مع خروج القوات الأميركية، إما تصل طالبان إلى الحكم وبالتالي ستكون أفغانستان بمثابة الجدار الواقي لهم، أو ستسير أفغانستان نحو الحرب الأهلية، وفي كلتا الحالتين العلاقات الجيدة مع طالبان الأفغانية في صالح إسلام أباد.
وعندما سيطرت طالبان على كابول، اعتبر رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان أن "الحركة قطعت أواصر العبودية وأثبتت للعالم أنها حرة أبية". كذلك هنأت الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام الباكستانية طالبان، مروّجة لأن من يحكم كابول هم حلفاء إسلام أباد.
بيد أن تعامل طالبان، والتطورات على الحدود، بالإضافة إلى فشل المفاوضات بين إسلام أباد وطالبان الباكستانية، كلها أثبتت أن طالبان الأفغانية ليست حليفة لإسلام أباد، بل إن من يحكم في كابول بعد مغادرة الأميركيين لم ينسَ ما حل بطالبان إثر انهيار حكومتها في عام 2001.
وفي ظل هذا الواقع، بدأت الحكومة الباكستانية تغير نبرتها وتصريحاتها حيال كابول. وفي تعليقه على مذبحة بيشاور، اعتبر وزير الدفاع الباكستاني خواجه أصف، في تصريح أمام البرلمان الباكستاني في 31 يناير الماضي، أن طالبان أفغانستان تساعد طالبان باكستان "في هجماتها داخل بلادنا، وهي تعتبر ذلك ديناً في رقبتها"، مضيفاً: "عملنا كل الخير مع الشعب الأفغاني لكن في المقابل نحصد ما حدث في بيشاور، هذه نتيجة ما عملنا بأنفسنا".
زعيم طالبان يخيب آمال الباكستانيين
في خضم كل ما يجري بين كابول وإسلام أباد، جاءت كلمة زعيم الحركة الملا هيبت الله أخوند زاده، التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الأفغانية في 25 يناير الماضي، التي أشار فيها إلى أن دستور باكستان غير إسلامي، وأن كل القوانين في المحاكم الباكستانية قوانين غير شرعية وغير إسلامية.
وأضاف أن الولايات المتحدة وحلفاءها يريدون منا أن نطبق مثل ذلك القانون غير الإسلامي، لكننا نقول لهم إن بلادنا إسلامية ولن نقبل فيها أي دستور سوى الدستور الإسلامي.
سيد أحمد إقبال رضوي: على الشعب الباكستاني والحكومة محاربة طالبان الباكستانية
اللافت أن الملا هيبت الله أخوند زاده أكد أن عالم الدين الباكستاني الشهير الشيخ تقي عثماني (الذي يفتخر بأن عدداً كبيراً من قادة طالبان أفغانستان من تلاميذه)، قد ذكر في كتاب له أن دستور باكستان دستور غير إسلامي، وأن قوانين ومحاكم باكستان غير إسلامية.
ونُشرت كلمة الملا هيبت الله (التي لم يُعرف حتى الآن توقيتها وبأي مناسبة ألقيت) بعد أيام من خطاب للشيخ تقي عثماني، الذي أرسل إلى وسائل الإعلام، وأكد فيه أن دستور باكستان إسلامي، وأن الحرب في هذه البلاد من أي جهة كانت هي حرب لا مبرر لها ولا صبغة شرعية لها، واصفاً من يقاتل ضد الجيش الباكستاني بالبغاة.
كذلك ذكر تفاصيل زيارته إلى كابول في يوليو الماضي وما دار هناك مع وفد طالبان الباكستانية، موضحاً أنه قال لوفد طالبان الباكستانية إن باكستان دولة إسلامية ودستورها إسلامي، وهناك مشكلة في تطبيق القوانين الإسلامية غير أن ذلك لا يبرر القتال ضد باكستان.
علماء الدين في موقف صعب
في ظل هذه التطورات، يجد علماء الدين والمدرسة الدينية الباكستانية الذين دافعوا بكل قوة عن طالبان أفغانستان خلال العقدين الماضيين أنفسهم في وضع صعب. لا يستطيعون معارضة طالبان الأفغانية بشكل علني، ولا معارضة الحكومة الباكستانية، في ظل فشل جهودهم كوسيط بين الأطراف المعنية، باكستان وأفغانستان وطالبان الباكستانية.
في هذا السياق، اعتبر عالم الدين الباكستاني مولانا عبد الماجد، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن علماء الدين في باكستان في موقف حرج جداً، كاشفاً أنه "يمكننا أن نقوم بدور الوسيط بين كابول وإسلام أباد، لكن المشكلة أن لا أحد يعتمد علينا، وهو ما كان السبب الأساسي وراء فشل الحوار مع طالبان الباكستانية".
وأكد أن "الكثير من قادة طالبان تخرجوا من المدارس الدينية الباكستانية وهم تلامذة لنا، ولكن العقبة الأساسية هي أن طالبان الأفغانية لديها شكوك حول تعامل صنّاع القرار في باكستان، إذ تصفهم بالازدواجية في التعامل، وأن سياسات بلادنا تتبدل بتبدل الأوقات والأزمان".
وتابع: "من هنا طالبان تشك في نوايا صنّاع القرار في بلادنا، وهو ما يؤدي إلى تغير نظرتهم حيال باكستان، وإلا فهم يحترمون علماء الدين ويصغون لكلامهم".
مولانا عبد الماجد: طالبان الأفغانية لديها شكوك حول تعامل صنّاع القرار في باكستان
وعن كلام زعيم "طالبان" الملا هيبت الله حول الدستور الباكستاني، قال مولانا عبد الماجد إن "ما تراه طالبان أفغانستان حول الدستور الباكستاني وراءه أسباب كثيرة، أبرزها أن لطالبان تفسيراً خاصاً للإسلام، منها تنفيذ الحدود ومنع النساء من الخروج وغيرها، وهذا ما لا يحدث في باكستان، لكني أقول إن دستور بلادنا دستور إسلامي، ولا شك في ذلك".
ويعارض علماء الدين الباكستانيون طالبان باكستان علناً، ويصدرون الفتاوى ضدها، كما حدث في مطلع يناير الماضي، إذ أصدر مجموعة من العلماء فتوى ضدها، إثر اجتماع في مدينة بيشاور، مشدّدين على أن "حرب طالبان الباكستانية في باكستان حرب محرمة لا مبرر لها". في المقابل، يتعاملون علناً مع طالبان الأفغانية.
وفي هذا الخصوص، قال نائب الأمين العام لمجلس وحدة المسلمين، عالم الدين سيد أحمد إقبال رضوي، لـ"العربي الجديد"، إن "بلادنا دولة إسلامية، والحرب عليها جريمة، وما تقوم به طالبان الباكستانية أمر يعارض الإسلام ويعارض الشريعة الإسلامية، وهي مظلة لفصائل وجماعات إرهابية وفصائل إجرامية".
وأضاف: "حتى الحديث والتفاوض معها ليس إلا منحها فرصة لإعادة قوتها، وعلى الشعب الباكستاني والحكومة محاربة طالبان الباكستانية بشكل منسق وموحد"، مطالباً طالبان الأفغانية بالتعامل بروية مع جارتها باكستان لأن دستورها إسلامي وشعبها مسلم.
يشار إلى أنه في 7 يناير الماضي، بث زعيم طالبان الباكستانية المفتي نور ولي، كلمة مصورة خاطب فيها علماء الدين الباكستانيين، وطلب منهم تأييد الحركة وأبنائها الذين يقاتلون من أجل تطبيق الشريعة، على حد قوله.
وقال إن "دستور باكستان دستور غير إسلامي، ونحن نقاتل من أجل محو ذلك الدستور وتطبيق الشريعة"، معتبراً أن "لعلماء الدين في باكستان ظروفهم الخاصة، من هنا إذا لم يستطيعوا إعلان تأييدهم لنا، عليهم أن يلتزموا الصمت، وهذا ما سنعتبره تأييداً لنا، لكن الوقوف إلى جانب حكومة غير إسلامية هذا أمر مخالف لتعاليم الإسلام، وهو ما تعلمناه من هؤلاء العلماء".