إعادة أميركيين محتجزين أو رهائن في الخارج طموح سعت مختلف الإدارات الأميركية إلى تحقيقه كإنجاز وطني، وطمعاً بمردوداته السياسية - الانتخابية. الرئيس جو بايدن دأب على التذكير من البداية بأنّ مثل هذه المهمة تتصدر أولوياته الخارجية. يدرك أن ذلك يحظى بترحيب وتأييد، وتحت هذا العنوان تحرك لاستعادة 5 أميركيين من أصل إيراني، موقوفين في إيران منذ سنوات.
إعلان الأخيرة قبل أيام عن نقل المحتجزين الخمسة من السجن إلى الإقامة الجبرية أوحى بصفقة تمّ عقدها بصورة ما، وقد اقتربت من خواتيمها. سبقت ذلك تسريبات بأنّ الإفراج جرى مقابل فك الحجز عن 6 مليارات دولار مجمّدة بفعل العقوبات في حسابات خاصة بمصارف في كوريا الجنوبية.
استحضر ذلك صفقة مماثلة جرت بالتوازي مع اتفاق 2015 النووي، جرى بموجبها تسليم إيران 400 مليون دولار نقداً لحظة مغادرة الطائرة السويسرية مطار طهران وعلى متنها رهينة أميركية بعد إفراج إيران عنها. آنذاك طاردت إدارة الرئيس باراك أوباما شبهة "الرشوة" بل "الفدية"، لشراء عودة الرهينة، ما أثار ضجة ضدها، خصوصاً في أوساط الجمهوريين وعتاة المحافظين.
أحاطت الشكوك نفسها بالصفقة الراهنة. وسائل الإعلام المحافظة، مثل "وول ستريت جورنال"، وضعتها في خانة "الرشوة". رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب مايكل ماكول وصفها بالعملية "الساذجة". حاولت الإدارة، خاصة البيت الأبيض ووزارة الخارجية، نفي وجود مقايضة، بزعم أن هذه الأموال المحجوزة "إيرانية وليست أميركية"، وأنها تراكمت بنتيجة سماح إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لإيران بتصدير كميات نفطية وضعت فواتيرها في حسابات خاصة مجمّدة خارج إيران.
لكن هذا التسويغ لم يبعد الشكوك، كما لم ينفع التذرع بالحاجات الإنسانية. بقيت علامات الاستفهام مطروحة، ولا سيما أن هذه الصفقة جاءت على خلفية ما تردد أخيراً عن "تفاهم شفهي" بين واشنطن وطهران، قضى بتجميد تخصيب اليورانيوم عند حدود 20%، مقابل تخفيف العقوبات جزئياً بشأن بيع النفط والحصول على مدفوعات عراقية متوجبة لطهران.
في لقائه أمس الثلاثاء مع الصحافة، كرّر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الحيثيات عينها، مشدداً على وجود صمّامات أمان تحول دون وصول طهران إلى هذه الأموال إلا عبر آليات تضمن استخدامها لحاجات إنسانية وطبية. لكن تطميناته بقيت موضع تساؤل، في ضوء السوابق التي وثّقتها وزارة العدل الأميركية، والتي كشفت عن أن إيران استخدمت قبل سنوات أموالاً كانت مجمّدة في تركيا "لشراء الذهب".
في ظل هذه الأجواء، تزايدت الريبة حول حقيقة الصفقة وما إذا كانت مفصّلة على قياس إيران، مع ما اقتضاه ذلك من تنازلات. فقد كان لافتاً في هذا الخصوص إحجام المسؤولين عن تقديم تفسير مقنع لترك محتجز آخر يدعى شهاب دليلي خارج الصفقة. وزارة الخارجية كانت مرتبكة في شرح السبب. اكتفت بالقول إن العملية شملت "كل من كان محتجزاً بصورة ظالمة"، وإن الإدارة تواصل "مراجعة ملفات أي محتجز اميركي آخر قي أي بلد".
الوزير بلينكن كرر التعليل نفسه، ورفض التوسع في الكلام عن دليلي "احتراماً للخصوصيات"، كما قال. غموضه عزّز التشكيك، كما كان لافتاً توقّعه عودة المحتجزين "خلال الأسابيع المقبلة"، وفي ذلك إشارة إلى عوائق أو مطالب مستجدة. بعض القراءات ربطت بين هذا التأخير المتوقع، ورفض مسؤول إيراني لأي قيود على التصرف بالأموال بعد فك الحجز عنها. وربما كان هذا ما يفسر تأكيد المسؤولين أن البحث ما زال جارياً حول تفاصيل عملية التبادل، ما ترك انطباعاً بأنّ عملية العض على الأصابع ما زالت جارية، لاستدرار أقصى ما يمكن من تنازلات.
على الرغم من ترحيب الوزير بلينكن بنقل المحتجزين من السجن إلى الإقامة الجبرية "كخطوة إيجابية"، إلا أنه أعرب، ولو بصورة مبطّنة، عن عدم ارتياح الإدارة، مطالباً إيران بخفض التصعيد، وبما يحفظ خط الرجعة "لخلق المساحة اللازمة للدبلوماسية في المستقبل". وهذا ما عزز الظنّ بأن الإدارة دخلت في الصفقة الحالية كمقدمة للانتقال بعد الانتخابات إلى تجديد المفاوضات حول اتفاق نووي جديد.
صارت العملية الآن في منتصف الطريق، وهي ليست الأولى من نوعها. في زمن الرئيس دونالد ترامب، حصلت مقايضة أميركيَّين اثنين بإيرانيَّين، لكن هذه المرة، كما كان في 2015، يدخل عنصر المال في الصفقة، وهو مثير للشكوك والجدل، وخصوصاً أنه محاط بعلامات استفهام لم تقوَ الإدارة على إزالتها، وبما يزيد من صعوبة تسويقها بدون خسائر، إن لم يكن كورقة انتخابية رابحة.