شيّع العشرات من أقارب وأصدقاء ومحبي المفكر والفقيه القانوني المصري البارز المستشار طارق البشري جثمانه إلى مثواه الأخير من مسجد مصطفى محمود بضاحية المهندسين في محافظة الجيزة، يوم الجمعة، بعد أن وافته المنية متأثراً بفيروس كورونا عن عمر ناهز 88 عاماً.
وشغل البشري منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة سابقاً، ورئيس لجنة التعديلات الدستورية في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011. واقتصر تشييع الجثمان على أسرة المفكر الراحل، التزاماً بالإجراءات الاحترازية المصاحبة لتفشي فيروس كورونا.
والبشري من أبرز المؤرخين والكتاب الذين أثروا في وعي أجيال عدة، عبر كتبه العديدة التي تعدّ علامة بارزة في المكتبة العربية، إذ تأثر كثيراً بمسيرة جده الذي كان شيخاً للمذهب المالكي في عصره، سليم البشري، وعلّمه أن قيمة الإنسان في العلم، وليست في وفرة المال أو الحصول على المناصب.
واستهدفت كتابات ومؤلفات البشري في الشأن العام والتأريخ والتدوين تشكيل جماعة وطنية كتيار أساسي للأمة، وفق ما رصده هو في مقدمة كتابه "نحو تيار أساسي للأمة"، بحيث يشكل هذا التيار إطاراً جامعاً يحافظ على تعددية وتنوع المجتمع.
ومن أشهر مؤلفات البشري: "الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952" (1972)، و"الديمقراطية والناصرية" (1975)، و"سعد زغلول يفاوض الاستعمار: دراسة في المفاوضات المصرية - البريطانية 1920 - 1924" (1977)، و"المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية" (1981).
كذلك من مؤلفاته: "الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952 – 1970" (1987)، و"دراسات في الديمقراطية المصرية (1987)"، و"بين الإسلام والعروبة - الجزء الأول" (1988)، و"بين الإسلام والعروبة - الجزء الثاني" (1988)، و"منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي" (1990).
ومن مؤلفاته أيضاً: "مشكلتان وقراءة فيهما" (1992)، و"شخصيات تاريخية" (1996)، وسلسلة كتب بعنوان "في المسألة الإسلامية المعاصرة" (1996)، و"الحوار الإسلامي العلماني" (2005)، و"نحو تيار أساسي للأمة" (2011)، و"بين الإسلام والعروبة"، و"محمد علي ونظام حكمه" (2013)، و"من أوراق ثورة 25 يناير" (2012).
ولخّص البشري تحولاته الفكرية قائلاً إنه "كان علماني التفكير أثناء دراسته في كلية الحقوق، غير أن دروس الشريعة الإسلامية أبقته منجذباً إلى الإسلام كنظام في المجتمع والمعاملات"، مستطرداً في حوار سابق له "كنت أشعر من شدة احترافي للقانون، ومن هضمي للتركيب الفني لأحكام الشريعة، أن الفقه الإسلامي هو من أعظم ما تفتقت عنه العقلية الإسلامية فيما قدمت للحضارة الإنسانية".
وبدا البشري مهتماً بالتدوين والكتابة عن الحركة الوطنية المصرية ببصيرة القاضي، وضميره في النقد والتحليل والشرح، غير أن إنتاجه الفكري لم ينسه وظيفته الأصلية كقاضٍ، حيث كان صاحب صوت مسموع وموقف واضح داعم لاستقلال السلطة القضائية.
وحذر البشري مراراً من المساس بالحدود التي رسمها الدستور لكل سلطة من سلطات الدولة، حتى لا تتعدى أي سلطة على أخرى أو تهيمن على غيرها، وهي مواقف لا تنبع فقط من كونه قاضياً كبيراً له بصمات في تاريخ مجلس الدولة، لكنها أيضاً حصيلة إنتاجه كمؤرخ ومفكر تناول بالتحليل العلاقة بين السلطة القضائية والأنظمة الحاكمة المتعاقبة.
وتتلمذ البشري على يد كبار فقهاء القانون والشريعة، أبرزهم عبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومحمد أبو زهرة. وشكلت فتاواه مرجعاً للقضاة والباحثين في تبسيط النصوص، واستنباط الأحكام، إذ ترك إرثاً من الفتاوى والآراء الاستشارية بمجلس الدولة، وأثرى بمؤلفاته وإنتاجه الفكري المكتبة القانونية العربية.
في حين مثل البشري أحد المبشرين باندلاع الثورة على الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، بعد أن أصدر كتاباً بعنوان "مصر بين العصيان والتفكك"، والذي اعتبر فيه أن العصيان المدني هو فعل إيجابي يلتزم السلمية، محذراً من حجم السخط والغضب الكامن في نفوس المصريين.
ومع اندلاع الشرارة الأولى لثورة 2011، أعلن البشري تضامنه مع التحركات الغاضبة في الشارع، وكان يرى أن الجرائم السياسية تفوق الجرائم الجنائية للقائمين على الحكم قبل الثورة، داعياً إلى تشكيل محاكم سياسية، وليست جنائية، لكن عبر محاكم سياسية لا تتوفر في مصر.
وفي أعقاب انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، أعلن البشري عن رفضه إزاحة الجيش الرئيس الراحل محمد مرسي من الحكم، مؤكداً أن ما حدث هو انقلاب على مكتسبات ثورة 25 يناير 2011، وليس على جماعة الإخوان المسلمين.
وعلى ذلك، كان يرى البشري أن قسماً كبيراً من المصريين غير راضٍ عن سلطة جماعة "الإخوان"، وقسم آخر كان راضياً، والحل كان يتمثل في إجراء انتخابات برلمانية تفضي إلى إنهاء الصراع السياسي بصورة ديمقراطية وفقاً للآليات الدستورية.
وفي حوار مع "العربي الجديد" بتاريخ 3 ديسمبر/ كانون الأول 2014، قال البشري إن "أحكام البراءة التي حصل عليها رموز نظام مبارك لا يمكن أن تُفهم بالحيثيات القانونية فقط، بل هي مرتبطة بالسياق السياسي الذي جرت فيه هذه المحاكمات".
واتهم البشري نظام مبارك بالقضاء على الإرادة الوطنية المستقلة للدولة المصرية، في مواجهة قوى الغرب، والولايات المتحدة بصفة خاصة، فضلاً عن تحطيمه الكثير من مجالات النشاط الاقتصادي والصناعي في البلاد، وتفكيكه المجتمع المدني.