في 24 فبراير/ شباط 2022، استيقظ الروس على وقع أنباء إطلاق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما أسماه "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، في إشارة إلى غزو أوكرانيا، وسط تصدّر أنباء الهجمات الروسية على كييف وغيرها من المدن الأوكرانية عناوين الصحافة المحلية والعالمية.
وفي الأيام الأولى لبدء أعمال القتال، سادت حالة من الذعر في شوارع روسيا، وسط احتشاد طوابير أمام ماكينات الصرف الآلي لسحب الأموال تحسّباً لأي اضطرابات.
لكن بعد مرور عامين، تكاد مظاهر الحياة اليومية في شوارع موسكو لا تختلف عنها قبل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، باستثناء إغلاق فروع عدد من المتاجر وسلاسل المأكولات السريعة الغربية التي انسحبت من السوق الروسية، مع توافر أغلب منتجاتها، ولو بأسعار أعلى، في منافذ بديلة عبر آلية الاستيراد الموازي دون اللجوء إلى وكيل معتمد.
في المقابل، يبدو الوضع في المناطق الروسية الواقعة بالقرب من الحدود مع أوكرانيا بعيداً عن الهدوء، ولا سيما في مقاطعة بيلغورود التي تتعرض لهجمات أوكرانية مستمرة، وقعت آخرها في منتصف فبراير/ شباط الحالي، وأدت إلى مقتل سبعة أشخاص.
غزو أوكرانيا: الأصوات المُعارضة تختفي
ورغم أن الأيام الأولى بعد اندلاع الحرب شهدت خروج بعض التظاهرات المناهضة لها وسط موسكو، إلا أن مثل هذه الأصوات أصبحت غير مسموعة في الداخل الروسي اليوم بعد إغلاق جميع وسائل الإعلام المستقلة، واعتقال أبرز الوجوه المعارضة للحرب، لتصبح الدعاية المضادة حكراً على بعض المدونين ممن يبثون من خارج البلاد.
ومع ذلك، ثمة من يعارضون الحرب، اختاروا البقاء في روسيا، رغم عدم تبنيهم الموقف الرسمي للكرملين، ما اضطرهم إلى التعايش مع الواقع الجديد الذي لا يعلو فيه أي صوت مؤثر مناهض للحرب.
على مدى العامين الماضيين، أصدرت المحاكم الروسية أحكاماً غير مسبوقة بالسجن بحق عدد من معارضي الحرب، بمن فيهم النائب المحلي السابق، السياسي المعارض، إيليا ياشين، المحكوم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات ونصف سنة بتهمة نشر "أخبار كاذبة" عن الجيش الروسي، وكذلك المعارض السياسي، فلاديمير كارا-مورزا، الصادر بحقه حكم بالسجن 25 عاماً لإدانته بعدة تهم، بما فيها "خيانة عظمى" ونشر "أخبار كاذبة".
أما المعارض الروسي أليكسي نافالني، الذي أُعلنت وفاته في ظروف غامضة من داخل السجن يوم الجمعة الماضي، فصدر بحقه في أغسطس/ آب الماضي، حكم جديد بالسجن لمدة 19 عاماً مع أداء العقوبة في إصلاحية ذات نظام خاص (الأكثر صرامة بين نظم أداء عقوبات السجن في روسيا) لإدانته بإنشاء "جماعة متطرفة"، في قضية جديدة أضيفت إلى عقوبة السجن لمدة تسع سنوات في قضية "احتيال" كان يؤديها بالإصلاحية ذات نظام مشدد رقم 6 في منطقة كوفروف في مقاطعة فلاديمير الواقعة شرقيّ موسكو.
ومنذ بدء الحرب في أوكرانيا، سنّت روسيا مجموعة من القوانين الصارمة، من شأنها معاقبة المدانين بتهم مثل "التشهير بالجيش" (المادة 280.3 من القانون الجنائي)، ونشر "أخبار كاذبة" عن أعمال الجيش الروسي (المادة 207.3 من القانون الجنائي)، وكان آخرها قانون مصادرة أملاك من ينشرون "أخباراً كاذبة" حول الجيش، الذي وقّعه بوتين في منتصف فبراير/ شباط الحالي. كذلك تواصل إسكات أي صوت يحاول التغريد خارج السرب الرسمي.
وتشير تقديرات موقع "أو في دي إنفو" الحقوقي إلى أن نحو 400 شخص اعتقلوا في نحو 40 مدينة روسية خلال الأيام التي تلت وفاة نافالني، بينما بلغ عدد حالات اعتقال المتظاهرين في عام 2022 أكثر من 20 ألفاً، لكنها تراجعت إلى ما دون الألف حالة في عام 2023، وسط تراجع حادّ للتظاهرات المناهضة للحرب.
ماريانا ريبو، صحافية وكاتبة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، واحدة من هؤلاء، عارضت الغزو الروسي لأوكرانيا معارضةً صريحة منذ أيامها الأولى، تأسف بعد مرور عامين لمفعول الدعاية التي تمكنت من إقناع المحيطين بها من أحقية أعمال السلطات الروسية.
أصبح الروس يخشون الحديث في أي قضايا سياسية ويمتنعون عن التعليق
وتقول ماريانا في حديث لـ"العربي الجديد": "ألاحظ حتى في عائلتي أن المسنين يسقطون فريسة سهلة للدعاية إلى الحد أنهم كادوا أن يكفوا عن التفكير، بل يرددون أموراً غير منطقية متعارضة في ما بينها يسمعونها من شاشات التلفزة يومياً، فيجدون فيها قاعدة لرؤية أيديولوجية تتناسب مع المفهوم السوفييتي للوطنية الذي تربوا عليه".
وتعتبر ريبو أن أجواء الخوف باتت سائدة في المجتمع الروسي، مضيفة: "أصبح الناس يخشون من مجرد الحديث في أي قضايا سياسية ويمتنعون عن التعليق على ما يجري، وكأنهم ينكمشون عند سماعهم ذكراً للأحداث في أوكرانيا التي قد سئموا منها. أثق بأن أغلب الناس مستاؤون مما يجري، ولكنهم يخشون من الحديث عن ذلك".
وحول تأثرها هي شخصياً بالحرب في أوكرانيا، تتابع: "من الجهة الاقتصادية، ارتفعت أسعار جميع السلع، وبات شراء سيارة أو شقة، مثلاً، مشروعا بعيد المنال للمواطن العادي. صحيح أن السلطات لا تمارس قمعاً واسع النطاق بحق معارضي الحرب، لكن عملي في تخصصي كصحافية في روسيا بات مغلقاً أمامي بسبب التشكيك في ولائي، حتى إذا لم أتناول الشأن السياسي".
معركة التلفزيون والثلاجة
وفي ما يوصف في أحيان كثيرة في روسيا بـ"معركة التلفزيون والثلاجة"، تبدو الدعاية التلفزيونية منتصرة حتى الآن، إذ لم تشهد روسيا حتى الآن أي تظاهرات مهمة احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
من جهتها، تقول متقاعدة روسية تدعى أولغا فضلت عدم ذكر اسمها كاملاً، في حديث لـ"العربي الجديد": "لم أتأثر بانسحاب الشركات الأجنبية، والمواد الغذائية والأساسية لا تزال متوافرة بصورة طبيعية.
يؤسفني فقط أنني لا أستطيع تحقيق حلمي للسفر إلى أوروبا واستكشاف معالمها بسبب انقطاع حركة الطيران وصعوبة الحصول على التأشيرات".
ومع ذلك، تعتبر أولغا أن تأثير العامين الماضيين بحياة الروس كان إيجابياً، مضيفة: "نشهد موجة من تزايد الشعور بالوطنية لدى المواطنين، وهذا أمر إيجابي". ومع ذلك، تقرّ بأن هناك بعض المظاهر السلبية، وفي مقدمتها ارتفاع الأسعار في متاجر التجزئة.
أندريه أندرييف: الحرب والتعبئة وأزمة "فاغنر" شكّلت صدمات للروس خلال العامين الماضيين
وتشير أرقام وزارة التنمية الاقتصادية الروسية إلى أن معدل التضخم على أساس سنوي استقر في الشهر الحالي عند مستوى بلغ 7.25 في المائة تقريباً، وهو معدل قريب من النسبة المعلنة رسمياً عن العام الماضي والبالغة نحو 7.4 في المائة (موقع ستاتيستا قدّم أرقاماً مختلفة مثلاً، حيث قال إن نسبة التضخم في 2022 وصلت إلى 13 في المائة).
علماً أن بيانات هيئة الإحصاء الروسية (روستات) في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2021، أوضحت أن تضخم أسعار المستهلكين في روسيا تسارع إلى 8.39 في المائة في 2021 من 4.91 في المائة في 2020، على الرغم من زيادة البنك المركزي أسعار الفائدة 7 مرات، وهي نسبة -بحسب ما قالت وكالة "سبوتنيك" الروسية في ذلك التاريخ- تحوم قرب أعلى مستوياتها منذ أوائل 2016، وأصبحت "مشكلة مزمنة لروسيا".
ولفتت إلى أن المركزي الروسي يستهدف مستوى للتضخم عند 4 في المائة.
من جهته، يعتبر كبير الباحثين في معهد علم الاجتماع التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أندريه أندرييف، في حديث لـ"العربي الجديد" أنه "بعد مرور عامين على بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، يمكن الجزم بأنّ المجتمع التفّ حول بوتين، وذلك باستثناء أتباع شريحة موالية للغرب كانت موجودة دائماً في روسيا، فهؤلاء إما هاجروا وإما انعزلوا داخل البلاد، محافظين على وجهة نظرهم من دون الإدلاء بها على نطاق واسع".
ومع ذلك، يقرّ أندرييف بأن العامين الماضيين لم يخلُوا من صدمات تعرّض لها الروس. ويوضح أنه "في عام 2022، تعرّض المجتمع الروسي لصدمتين، إحداهما عند بدء العملية العسكرية، والثانية عند إعلان التعبئة الجزئية. وفي عام 2023، شغلت واقعة تمرد شركة "فاغنر" العسكرية الخاصة الرأي العام كثيراً.
تمرد "فاغنر" نُسيَ، بينما لا تزال زوجات من التحقوا بالتعبئة غاضبات ويخرجن في احتجاجات، ويمكن تفهّم موقفهن، وأعتقد أن السلطة تعمل على احتواء الأزمة". وتشهد مختلف المدن الروسية، بما فيها موسكو، بين فترة وأخرى، تظاهرات لزوجات من التحقوا بالتعبئة من أفراد الاحتياط في خريف عام 2022، ونظمت آخرها مطلع فبراير الحالي للمطالبة بعودتهم إلى ديارهم وعائلاتهم.