على خلاف الكثير من التوقعات، كان تأثير غياب قائد "فيلق القدس" الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، عن المشهد العراقي، سريعاً وواضحاً منذ الأسابيع الأولى لاغتياله في 3 يناير/كانون الثاني 2020، وبتفاعل أكبر مما هو عليه في بلدان أخرى في المنطقة، واقعة تحت تأثير التدخل الإيراني أمنياً وسياسياً. ويربط سياسيون ومراقبون عراقيون، الكثير من التحولات والتبدلات في المواقف، وكذلك الأزمات وبروز الصراعات الجانبية في العراق، خلال العام 2020، بتعثر طهران في إيجاد البديل عمن كان يعرف بثاني حُكّام العراق منذ بعد العام 2003، في إشارة إلى الحاكم المدني الأميركي بول بريمر (2003 ـ 2004).
فشل ملء الفراغ
على مقربة من نصبٍ تذكاري أقيم في مكان اغتيال قاسم سليماني والقيادي في"الحشد الشعبي" أبو مهدي المهندس، قرب مطار بغداد الدولي، بغارة جوية أميركية أسفرت أيضاً عن مقتل 6 أشخاص من المرافقين، بينهم صهر سليماني، يستعد المئات من أعضاء المليشيات والقوى السياسية المرتبطة بإيران، لتنظيم وقفة بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للاغتيال، تجدد مطالبة حكومة مصطفى الكاظمي بوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية من العراق، وتستعيد تهديداتها التي دأبت عليها طوال العام الماضي.
تحولات كثيرة بعد مقتل سليماني أبرزها وصول الكاظمي للحكم
وبعد مرور 12 شهراً على الاغتيال، كشف مسؤول عراقي في وزارة الداخلية ببغداد، لـ"العربي الجديد"، أن "طهران لم تتوصل إلى أي متعاون أكيد أو قطعي مع الأميركيين في عملية الاغتيال، على مستوى الجنسيتين العراقية أو حتى السورية، وهناك ميل إلى أن العميل أو المتعاون هو إيراني، ومن ضمن الحلقة القريبة من سليماني، وذلك على الرغم من أن حكومة الكاظمي سلّمت للجنة تحقيق إيرانية جميع ما لديها من تسجيلات في برج المراقبة في مطار بغداد الدولي قبل هبوط طائرة سليماني وبعده وكذلك تقرير سلطة الطيران المدني، وحتى على مستوى تسجيل مكالمات أشخاص تعتبرهم إيران مشتبها بهم". ورجّح المصدر أن "التحقيق التي تتحدث عنه إيران قد لا ينتج عنه الكشف عن أي شخصيات متورطة"، لافتاً إلى أن الحديث "انتقل قبل أسابيع إلى حدوث اختراق إلكتروني حصلت من خلاله (واشنطن) على ما تريده في تنفيذ الهجوم".
وعلى مدار الأشهر الماضية، لم تحقق إيران نجاحاً لناحية ملء فراغ سليماني في العراق تحديداً، لا عبر تعيين الجنرال إسماعيل قاآني (نائب سليماني قبل اغتياله) قائداً لـ"فيلق القدس"، ولا من خلال تشكيل "لجنة الشورى"، التي تضم إلى جانب قاآني، قيادات في فصائل عراقية مسلحة بارزة. ويأتي ذلك فضلاً عن نشاط الشيخ محمد كوثراني، الذي عادة ما يتم تقديمه عراقياً على أنه مسؤول ملف العراق في "حزب الله" اللبناني، بهدف تنسيق الجهود والمواقف المختلفة التي كانت في العادة لا تحتاج سوى إلى اتصال هاتفي من سليماني أو رسالة نصّية، بحسب تعبير قيادي بارز في تحالف "الفتح" في البرلمان العراقي، الذي يمثل الجناح السياسي لـ"الحشد الشعبي". واعتبر القيادي، الذي تحدث لـ"العربي الجديد" طالباً عدم ذكر اسمه، أن وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة العراقية، "لم يكن ليحدث بوجود سليماني"، مؤكداً أن "الأشهر التي أعقبت اغتيال سليماني شهدت تنافساً على النفوذ السياسي والفصائلي، وعدم صمود التوافقات بين الكتل السياسية أكثر من أسبوع واحد".
وأضاف المصدر أن "الإيرانيين يعانون حتى الآن من إيجاد بديل مطابق لسليماني في الملفات التي كان يتولاها، فيما الجنرال قاآني فشل في لعب هذا الدور، لكونه غير ضليع في شؤون الشرق الأوسط، وكان عمله في نطاق أفغانستان وباكستان طوال السنوات الماضية، كما أن سليماني لم يكن يشارك أحداً من جنرالات الحرس الثوري ملف العراق تحديداً، وحتى السفراء الإيرانيون في بغداد، كان هو من يختارهم مسبقاً بدءاً من حسن كاظمي قمي، ثم حسن دنائي فر، وصولاً إلى إيرج مسجدي".
ولفت القيادي في تحالف "الفتح" إلى أن "التغييرات السياسية والأمنية كثيرة على المشهد العراقي، ومن أبرزها تسلم الكاظمي رئاسة الحكومة، والذهاب إلى قانون انتخابات يهدد نفوذ القوى المقربة من إيران في البرلمان خلال الفترة المقبلة، والسماح باستبدال شخصيات في الحكومة موجودة منذ العام 2003 محسوبة على إيران، عدا عن وضوح حالة التنافس والاحتقان بين قوى سياسية كانت تصنف سابقاً في خانة واحدة، وقد تزداد حدّة التنافس أكثر مع قرب الانتخابات". واعتبر أن "عودة تفعيل دور التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق، وتنامي التعاون بين الجانبين، وخطوات الانفتاح الأخيرة من بوابة التجارة والاستثمار بين العراق والسعودية ومصر والأردن، وصولاً إلى اتفاقية تطبيع الأوضاع في سنجار غرب الموصل، والتي أقرّت طرد مسلحي حزب العمال الكردستاني، كلها تغييرات لم يكن لتحدث خلال فترة تسلم سليماني ملف العراق".
تداعيات عراقية
من جهته، رأى نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي، ظافر العاني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الأوضاع الأمنية كانت أكثر تدهوراً خلال حياة سليماني، ولعلّها الآن أفضل بعد مقتله"، عازياً ذلك إلى "تردد المليشيات في توسيع أعمالها، لكي لا تطاولها نفس العقوبة والاستهداف، ولذلك أصبحت هذه المليشيات، حتى عندما تقوم بقصف السفارة الأميركية (في المنطقة الخضراء في بغداد)، تصدر بيانات إدانة لهذه الأعمال كي تتجنب العقاب".
ولفت العاني إلى أن "العمل العسكري المشترك بين العراق والتحالف الدولي، أدى إلى تحجيم وجود تنظيم داعش إلى حدّ كبير ومقتل معظم قياداته. لكن خطر عودة الإرهاب لا يزال قائماً، فالظروف التي أدت إلى ظهور الإرهاب، تعود إلى الواجهة هذه الفترة وبقوة، من خلال استهداف المواطنين وابتزازهم والحط من كراماتهم والاعتداء على مقدساتهم، فضلاً عن تطاول المليشيات على المال العام والموارد بكافة أشكالها". وبرأي العاني، فإن "استهداف السفارة الأميركية هو انعكاس للصراع الأميركي - الإيراني، فيما الدولة العراقية ليست طرفاً في ذلك، لكن حكومة طهران تستخدم المليشيات الولائية التابعة لفيلق القدس في شنّ هذه الهجمات، في ظلّ عجز حكومي عن محاسبتها".
سليماني كان يتواصل مع وزراء ومسؤولين ويحل الخلافات
في السياق، اعتبر عضو الحزب الشيوعي العراقي علي نعمة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن قوى سياسية وفصائل مسلحة، كانت تتمتع بوجود مفاوض ضامن يتحدث عنها، إذ كان سليماني يتولى التفاوض بدلاً عنها، ويفرض الإملاءات السياسية وحتى الأمنية في المشهد السياسي. ورأى أن مقتل الجنرال الإيراني "عزّز أيضاً فرص اتساع رقعة الاحتجاجات خلال الربع الأول من العام 2020، إذ كان ما صاحب الأشهر الأولى من دموية وقمع يقف خلفه قاسم سليماني"، وفقاً لرأيه. وأضاف نعمة أن "موت سليماني كشف عن حالة تنافس وصراع على النفوذ والقوى والحصول على الغنائم بين جماعات مسلحة وقوى سياسية عديدة"، معتبراً أن "مقتدى الصدر (زعيم التيار الصدري) لعلّه الأكثر استفادة من اختفاء سليماني، كون العلاقة بين الإثنين لم تكن يوماً مستقرة بسبب تقلب مواقف الصدر وعدم إمكانية ضمان ثباته عليها، لهذا كان سليماني يتجنبه كثيراً، وحال دون حصول التيار الصدري على رئاسة الحكومة في السابق".
أما نائب رئيس الوزراء السابق بهاء الأعرجي، فرأى أن "إيران فقدت نصف قوتها بمقتل الجنرال قاسم سليماني"، معتبراً في لقاء تلفزيوني أن "الجانب العراقي خلال الفترة الماضية، لم تصدر منه سوى التهديدات (بالثأر) لمقتل أبو مهدي المهندس".
من جهته، اعتبر زعيم تحالف "الفتح" في البرلمان هادي العامري، أن "الحاج قاسم سليماني كان أكثر منا حرصاً على العراق"، وذلك في كلمة له أمام مؤتمر عشائري في محافظة صلاح الدين شمالي البلاد. وشدّد العامري على أن "سليماني بذل الجهد الكبير لتحرير العراق، ولعل حرصه على هذا البلد كان أشد من حرصنا عليه، وكان يشدنا إلى ضرورة العمل لتحرير العراق، كان أكثر منا حماساً، وعرّض نفسه للخطر من أجل العراق وتواجد في الخطوط الأمامية، فقد استشهد في سبيل العراق".
تدخلات مباشرة
وتحدث وزير عراقي في حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، لـ"العربي الجديد"، شرط عدم ذكر اسمه، عن أن سليماني كان يتواصل مع الوزراء ومدراء عامين بشكل مباشر وعبر الهاتف، وحتى على مستوى قضاة بالمحاكم، ويتوسط ويحلّ الخلافات بين القوى والشخصيات السياسية المختلفة". وأضاف المصدر لـ"العربي الجديد"، أن "القيادات العراقية السياسية بعد العام 2003، بما فيها السنية والكردية، كانت تلجأ إليه في الخلافات والأزمات السياسية، متدخلاً بالملفات السياسية والأمنية والاقتصادية". وأشار إلى أن الأمر "لا يتعلق بكونه يمثل مبعوثاً شخصياً للمرشد علي خامنئي في العراق، بل لأنه كان يملك كاريزما واضحة يفتقر إليها إسماعيل قاآني حالياً". وقال إن "الكثير ينسب لسليماني بعد موته، وأجد أغلبها واقعية، لكني أعتبر أنه سبب رئيسي في شلل القطاع الاقتصادي والزراعي في العراق منذ العام 2003، لأن عودة القطاعين تعني توقف تدفق نحو 14 مليار دولار سنوياً إلى إيران يستورد فيها العراق منتجات زراعية وإنشائية واستهلاكية مختلفة، كما أن تعطيل موضوع استثمار أو استغلال الغاز المصاحب للنفط، هو واحدة من بصمات سليماني في العراق، الذي لا يزال يستورد الغاز من إيران بمبالغ ضخمة، وبالعملة الصعبة، رغم حرقه لغازه".
وأوضح المصدر أن سليماني منع صدامات مسلحة بين فصائل عدّة، أبرزها بين أنصار مقتدى الصدر ومليشيا "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي، وكذلك تسويته بهدوء ملف انشقاق المجلس الإسلامي الأعلى وخروج عمار الحكيم بتيار منفصل عن المجلس الذي بقي فيه همام حمودي وقيادات أخرى. واعتبر أن مكاتب تجنيد الشباب من الأحياء الشيعية الفقيرة جنوب العراق، وإرسالهم إلى سورية للقتال مع نظام بشار الأسد، مع شحنهم طائفياً، وتصوير القتال هناك بأنه للدفاع عن المقدسات وأنه وجودي للمذهب، هي كلّها من عمليات سليماني التي نكبت أسراً كاملة، بعدما قتل أبناؤها في سورية.
من جهته، اعتبر أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا، مهند سلوم، أن قرار وتوقيت اغتيال سليماني كان "جزءاً من خطة أميركية لقطع رأس القيادة والسيطرة للنفوذ الإيراني في العراق وسورية، والهدف الرئيس هو إرباك وإضعاف أذرع إيران المسلحة التي أشرف عليها سليماني في العراق وسورية ولبنان بشكل مباشر، وفي اليمن والبحرين بشكل غير مباشر". ولفت سلوم في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "بعد مرور عام على اغتيال سليماني، يمكن القول إن الولايات المتحدة نجحت في إرباك وإضعاف قدرة المليشيات المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على استهداف مصالح الولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط بشكل عام". ورأى أن إيران "لم تتمكن إلى حد الآن، على الرغم من تعيين إسماعيل قاآني خليفةً لقاسم سليماني، من سدّ الفراغ القيادي والميداني للثاني، الذي كان يمتلك كاريزما فريدة، لها تأثير استثنائي على الأقل في أوساط اليمين الشيعي، ووصلت إلى حدّ القدسية في بعض الأحيان". وختم بالقول إن "اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس جزء من استراتيجية الضغط الأقصى التي تتبناها الولايات المتحدة لإضعاف نفوذ إيران في العراق والشرق الأوسط وإجبارها على التخلي عن برنامج التسلح النووي". وبرأيه، فإن "من المتوقع أن تستمر حملة استهداف قيادات الحرس الثوري في العراق وسورية وقيادات المليشيات في العراق، لإرباك مراكز السيطرة والقيادة الإيرانية، وشلّ قدرات إيران على شن هجمات مؤثرة ضد أهداف أميركية في العراق".