انفردت تركيا عن بقية دول العالم في إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بشكل متوازٍ مع روسيا وأوكرانيا بعد الحرب التي اندلعت بين الدولتين في 24 فبراير/شباط 2022، كما كانت قبل اندلاعها. وقادت أنقرة مفاوضات مع موسكو وكييف، وحاولت جمع الطرفين على طاولة المفاوضات، وتمكنت من إتمام اتفاقية نقل الحبوب من أوكرانيا، في سياسة وصفتها الحكومة التركية بأنها متوازنة، وأبرز عناوينها المصالح الوطنية أولاً.
أسلوب تركي مختلف للتعامل مع الأزمة
الموقع الجغرافي لتركيا وعلاقاتها الدبلوماسية وتجاربها في جوارها خلال العقد السابق، فرضت عليها أسلوباً مختلفاً للتعامل مع الأزمة التي خلفتها الحرب. فثمة 4 عوامل أساسية للموقف التركي، وهي تشاركها مع الدولتين في البحر الأسود وتجاورهما، والعلاقات المتميزة الاقتصادية والاستراتيجية لها مع الدولتين كل على حدة قبل الحرب، إضافة إلى سيطرة تركيا على المضائق البحرية، وكونها دولة وعضوا مهما في حلف الشمال الأطلسي (ناتو).
لم تنضم أنقرة للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، ولم تنتهكها في الوقت ذاته
وواصلت تركيا اتصالاتها مع الجانب الروسي على كافة المستويات، وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي عشرات المرات. ولم تنضم أنقرة للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وبنفس الوقت واصلت علاقاتها مع أوكرانيا وتزويدها بالأسلحة بحسب الاتفاقيات. وأدت "مسيرات" بيرقدار التركية دوراً في الحرب وإيقاف التقدم الروسي تجاه العاصمة كييف. كما منعت تركيا عبور السفن والطائرات الحربية الروسية عبر المضائق وأجوائها، وأيضاً واصلت استيراد الغاز الروسي ودفعت قسماً منه بالعملة الروسية.
وبعد أشهر من المفاوضات واستضافة إسطنبول جولة من المحادثات بين وفدي البلدين في 29 آذار/مارس الماضي، تمّ الإعلان عن اتفاقية إنشاء معبر الحبوب ووقعت في إسطنبول اتفاقيتين بين الدولتين مع الأمم المتحدة في 22 تموز/يوليو الماضي، وأنشئ مركز تنسيق معبر الحبوب بحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، وانتقلت مئات الأطنان من الحبوب من خلال هذه الاتفاقية.
ورغم إعلان روسيا تعليق العمل في المعبر في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بسبب هجوم على سفنها في شبه جزيرة القرم من قبل أوكرانيا بحسب قولها، إلا أن تدخل أردوغان أدى إلى عودة العمل بالاتفاقية ومواصلة تصدير الحبوب بعد 3 أيام فقط.
الدور التركي في الإبقاء على إمكانية المفاوضات بين الطرفين بأي لحظة، بدا واضحاً كذلك من خلال كون أنقرة عضواً في حلف الناتو. فمن جهة يسعى الحلف إلى توسيع حدوده وهو بحاجة إلى موافقة أنقرة لانضمام السويد وفنلندا للحلف ضد روسيا، ومن جهة تسعى موسكو إلى كسب أنقرة وتمتدح مواقفها، وتحاول أن تجعل من تركيا مركزاً لبيع الغاز إلى أوروبا تجاوزاً على العقوبات المفروضة عليها. وهذا الأمر دفع بعض الأطراف للحديث عن المواقف التركية بأنها مصدر لتجاوز روسيا للعقوبات، رغم أن تركيا اقتصادياً في موقع أقل بكثير من روسيا التي لديها اليد العليا في الغاز وقطاع السياحة والطاقة.
وسبق أن لخّص أردوغان في كلمة له خلال لقاء شبابي في مايو/أيار الماضي مقاربة أنقرة لملف الحرب، قائلاً إن "المبدأ الأساسي للنهج التركي منذ بداية الحرب هو الحيادية، عبر سياسية متوازنة مع البلدين، لا نية لدي لقطع الروابط مع بوتين وزيلينسكي، حيث أواصل معهما سياسة دبلوماسية عبر الاتصالات الهاتفية وإرسال المبعوثين لهما، وفي المرحلة المقبلة سنواصل هذا الأمر". كما أكد الرئيس التركي في تصريح آخر أن "روسيا مهمة بالنسبة إلينا وكذلك أوكرانيا"، وهو ما يوضح السياسة التركية.
وترى أطراف سياسية أن الحكومة التركية تعلمت من الدرس المرتبط بفترة اتخاذ تركيا مواقف متصلبة خلال ثورات الربيع العربي، وهو ما كلّفها كثيراً في مسألة إعادة تطبيع العلاقات مع هذه الدول وخصوصاً سورية ومصر والإمارات والسعودية، ولهذا تبدلت السياسة الخارجية التركية أخيراً لتقوم على مبدأ المصالح الوطنية أولاً، وهو ما عزّز دورها في قيادة المفاوضات.
كما أن تركيا تضررت كثيراً من قضية إسقاط المقاتلة الروسية "سوخوي 29" فوق شمال اللاذقية في عام 2015، وخلّف ذلك أزمة دبلوماسية كبيرة مع روسيا دفعت تركيا للتراجع وإعادة تصحيح وتطبيع العلاقات بين البلدين، وجعلها أكثر حذراً في التعامل مع موسكو، حيث إن المصالح الاقتصادية هي ذات أولوية بالنسبة للحكومة.
تركيا والحرب الأوكرانية: المصالح الوطنية أولاً
وتناول الكاتب والباحث التركي عمر أوزكلجيك، الدور التركي بين أوكرانيا وروسيا، قائلاً لـ"العربي الجديد" إن "السياسة التركية المتوازنة مع روسيا وأوكرانيا تكتسب بعداً جديداً في العلاقات الدولية، لأن الوساطة عادة كانت تقام بمثال سويسرا القائمة على الحيادية الكاملة وتوفير البيئة المناسبة للحوار". ورأى أن "ما فعلته تركيا مختلف حيث إنها طرف ومتدخل في الأزمة وحريصة على جلوس الطرفين على طاولة المفاوضات، أما في الحالة السويسرية فكان الجلوس على الطاولة عندما يكون الطرفان مستعدين فيما تركيا تساهم في استعدادهما للتفاوض".
وأضاف الباحث التركي أن بلاده "كانت من أكبر الدول مع بريطانيا في بيع السلاح لأوكرانيا قبل الحرب، وبعد الحرب، أصبحت من أكثر الدول أيضاً في الدعم، إضافة إلى أن لديها علاقات اقتصادية مع روسيا، وتركيا لجأت إلى هذا النهج لأن أساسه المصالح الوطنية القائمة على توقف الحرب ووحدة أوكرانيا وتقليل الخسائر بشكل كبير لما له من انعكاس على المصالح التركية، ولهذا واصلت سياسة متوازنة".
ترى أطراف سياسية أن الحكومة التركية تعلمت من الدرس المرتبط بفترة اتخاذها مواقف متصلبة خلال الربيع العربي
وبرأيه، "كانت أكبر نتيجة لدورها اتفاقية معبر الحبوب، وسبب نجاح ذلك هو العلاقة المعقدة مع روسيا حيث يمكن الجلوس والحديث رغم كل الخلافات مع مراعاة العلاقات الثنائية وفتح قنوات الحوار، مستفيدة من تجربة إسقاط المقاتلة من قبل". وأوضح أنه "تحت الطاولة أنقرة وموسكو تتعاركان، ولكن فوق الطاولة هناك حوار وابتسامات، وأهم عامل لاستمرار العلاقة هو العلاقة الشخصية بين أردوغان وبوتين، وهكذا تمكن الرئيس التركي من النجاح، وأوكرانيا لم تكن على مستوى الرفض".
ولفت أوزكلجيك إلى أنه "حتى عند انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب، تدخلت تركيا وهدّدت بقوتها التي كبرت في البحر الأسود مقابل تراجع قوة روسيا، بالاستمرار في الاتفاقية من دونها، ما جعلها تعود إلى هذه الاتفاقية". وبرأيه، فإنه "لا يمكن أن تنقذ تركيا روسيا من العقوبات، علماً أن المفروضة على روسيا حالياً هي الأكبر ولكن محددة جغرافياً، بمعنى أنها مفروضة من أميركا وأوروبا، لكن الهند والصين والإمارات ودولا أخرى لم تنضم إلى هذه العقوبات، وكذلك تركيا لم تنضم لفرض العقوبات ولم تخرقها أيضاً".
ويتضح حالياً، بحسب قوله، أن "العلاقات الإماراتية مثلاً مع روسيا هي حالياً أكبر من العلاقات الاقتصادية التركية - الروسية"، لافتاً إلى أن "سبب عدم انضمام تركيا إلى العقوبات هو العلاقات التجارية والاقتصادية المختلفة، علماً أن الثقل الأساسي في هذه بين البلدين يصبّ لصالح موسكو".
من جهته، قال الصحافي التركي المختص في الشؤون الدولية، ليفنت كمال، لـ"العربي الجديد"، إن "تركيا تقوم بما يتوجب عليها بحسب موقعها الجيواستراتيجي، حيث إن تداخل المسائل الاقتصادية والأمنية لتركيا يجعلها تنحو لأن تؤدي دوراً سياسياً متوازناً وقائماً على الوساطة، وهذه هي حقيقة الموقف التركي". ولفت كمال إلى أن "أساس العلاقة مع روسيا هو الطاقة والملف السوري والعلاقات الاقتصادية، وفي الوقت ذاته فإن أنقرة تدافع عن وحدة التراب الأوكراني، ولديها شراكات من منطقة القوقاز وصولاً إلى منطقة نفوذ حلف الناتو، قائمة على السياسة والاقتصاد والتعاون".
وشدّد الصحافي التركي على أن بلاده "مضطرة إلى علاقة توازن مع روسيا في ما يتعلق بالحرب في سورية، كما يتوجب عليها أن تحافظ على موقعها ضمن الناتو، وضد تصريحات روسيا عن الحلف، وفي الوقت ذاته فإن أنقرة لا ترغب في الابتعاد عن روسيا كورقة في وجه الولايات المتحدة التي تشهد أنقرة أزمات عدة معها".
أما أوكرانيا، بحسب كمال، فإنها "باتت شريكاً لا يمكن التخلي عنه من قبل أنقرة نظراً للجهود التركية في منطقة القوقاز والبحر الأسود، ولهذه الأسباب فإنه من غير المفيد لتركيا التحيز لأي طرف، كما أنه نظراً للمكاسب الدولية من الوساطة والسياسة المتوازنة فإن أنقرة تواصل هذا النهج".
وحول أسباب نجاح تركيا في التواصل والوساطة بين البلدين، أوضح كمال أن بلاده "هي الدولة الوحيدة التي لديها اتصالات مباشرة مع روسيا وأوكرانيا، والدول الثلاث هي الأكبر في حوض البحر الأسود". ويمكن القول برأيه، إن جهود تركيا في معبر الحبوب "كانت تهدف لإكساب الجهود الروسية في هذا الملف مشروعية دولية، وكان الأمر يتطلب إقناع الرئيس الروسي وهو ما نجح به الرئيس أردوغان، وبجهوده الدبلوماسية الشخصية".
ونفى الصحافي التركي أن يكون موقف أنقرة مصدراً لتجاوز العقوبات الدولية على روسيا، معتبراً أنه "لا يمكن القول إن تركيا أنقذت روسيا من العقوبات، وعند القياس نرى أن الروس زادت استثماراتهم في جورجيا، حيث تمكن المستثمرون من نقل ممتلكاتهم والاستثمار فيها، كما أنه من غير الممكن القول إن روسيا يمكن أن تحصل على ما كانت تستورده من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عبر تركيا". وذكّر بأن "روسيا توجهت إلى الصين وبالتالي لا يمكن الحديث عن دور تركي في مساعدة روسيا من الإفلات من العقوبات".