في مراسم أقيمت في الكرملين في مثل هذا اليوم قبل عام، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على اتفاقيات ضمّ "جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين" المعلنتين من طرف واحد ومن قبل رئيسي الإدارتين العسكرية - المدنية الموالية لروسيا في مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا (فلاديمير سالدو ويفغيني باليتسكي) إلى روسيا ككيانات إدارية، على أثر الاستفتاءات أحادية الجانب التي أجريت في المقاطعات الأوكرانية الأربع.
حينها، جرت مراسم التوقيع على اتفاقيات الضم بعد مرور ثلاثة أيام فقط على الإعلان عن نتائج التصويت في استفتاءات الانضمام إلى روسيا والتي أظهرت أن أكثر من 90 في المائة من المصوتين في مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا ونحو 87 في المائة في خيرسون، صوتوا لصالح الانضمام.
ألكسندر تشالينكو: الحياة تحت السيادة الروسية أتاحت جلب استثمارات حكومية روسية ضخمة إلى المنطقة
وبعد مرور عام على الضم، قطعت روسيا طريقا طويلا نحو اندماج الأراضي "الجديدة" في الحياة السياسية والاقتصادية الروسية، ولكن من دون تمكنها من إحكام السيطرة الكاملة على كامل أراضي المقاطعات الأربع التي لا تزال مساحات شاسعة منها موضعاً لمعارك الكر والفر بين القوات الروسية الأوكرانية.
محاكاة للحياة المدنية في مناطق الضمّ
يعتبر المحلّل السياسي والصحافي المتخصص في الشأن الأوكراني المتحدر من دونيتسك والمقيم في موسكو، ألكسندر تشالينكو، أن الحياة تحت السيادة الروسية وضعت حداً لشعور السكان المحليين بأنهم يعيشون في جيب معزول وأتاحت جلب استثمارات حكومية روسية ضخمة إلى المنطقة، مقراً في الوقت نفسه بأن السكان المحليين سئموا من تردي الأوضاع الأمنية والقصف المستمر.
ويقول تشالينكو الذي زار مناطق جنوب شرق أوكرانيا بعد ضمّها إلى روسيا عدة مرات، في حديث لـ"العربي الجديد": "شعر سكان دونباس أخيراً بارتياح نفسي وبأنهم يعيشون في روسيا، بعد أن قضوا أكثر من ثماني سنوات في جيب يفصل بين الأراضي الخاضعة لسيطرة كييف من جهة والحدود مع روسيا من جهة أخرى. الموالون لأوكرانيا قد غادروا المنطقة، فلم يعد يقطنها سوى من يتبنون مواقف محايدة أو موالية لروسيا، وإن كانوا لا يشهرونها دائماً خشية من عودة القوات الأوكرانية".
ومع ذلك، يقر المحلّل السياسي بتردي الأوضاع الأمنية في عدد من المدن في دونباس، لاسيما في مقاطعة دونيتسك، لافتاً إلى أنه "باستثناء ماريوبول المطلة على بحر آزوف، لا تزال جميع المدن الكبرى في جمهورية دونيتسك الشعبية قريبة من خط الجبهة، فتتعرض لقصف شبه يومي، وقد سئم سكانها من الحرب طويلة الأجل، مدركين أن معارك الكر والفر بين القوات الروسية والأوكرانية قد تستمر طويلاً".
وحول رؤيته للأوضاع الاقتصادية في دونباس تحت الإدارة الروسية، يتابع: "لا تتدفق استثمارات خاصة خشية من العقوبات، ولكن روسيا كونها دولة ثرية أنفقت بسخاء على إعادة إعمار البنية التحتية وتحديثها وبناء مدارس حديثة وقصور الثقافة. وساهم تدفق العسكريين والخبراء الروس من أصحاب الأجور العالية في تنشيط التجارة وارتفاع أسعار الإيجارات، إذ تصل أسعار إيجارات الشقق في دونيتسك، مثلاً، إلى 10 آلاف روبل (أكثر من 100 دولار) لليلة الواحدة".
وتشير البيانات المتوفرة عبر مصادر مفتوحة إلى أن الحد الأدنى لرواتب المشاركين العاديين، من العسكريين والمقاتلين، في الحرب في أوكرانيا يبلغ 195 ألف روبل (ألفا دولار تقريبا وفقا لسعر الصرف الحالي)، فينفقون جزءا منها على الأقل في مناطق أداء مهامهم، ما زاد من تدفق الأموال الروسية إلى شرق أوكرانيا.
إلا أن أستاذ التاريخ في جامعة "ماريا كوري سكلودوفسكا" في مدينة لوبلين البولندية، غيورغي كاسيانوف، يعتبر أن روسيا لا يمكنها سوى محاكاة الحياة المدنية في الأراضي التي ضمتها في ظروف خطر وقوع تصعيد عسكري في أي وقت.
غيورغي كاسيانوف: هذه الأراضي تبقى متلاحمة بالجبهة، ما يعني أن الحياة المدنية فيها غير ممكنة
ويقول كاسيانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "تحاول سلطات الاحتلال محاكاة الحياة المدنية الطبيعية على هذه الأراضي من جهة التمويل والرعاية الاجتماعية والاتصالات والخدمات الطبية والتعليم، وحتى إنها أجرت الانتخابات. لكن هذه الأراضي تبقى متلاحمة بالجبهة، ما يعني أن الحياة المدنية فيها غير ممكنة من دون قيود تحت التهديد الدائم للتصعيد العسكري، وقد تعرضت مناطق شاسعة من الأراضي المحتلة، لا سيما في مقاطعة دونيتسك، للدمار وغادرها البشر".
وحول رؤيته للأهداف الروسية في شرق أوكرانيا، يضيف كاسيانوف: "ترمي السياسات التعليمية في هذه الأراضي إلى إعادة الصياغة الكاملة للبيئتين اللغوية والثقافية وزرع أفكار الوطنية الروسية في عقول الشباب". ويشكك أستاذ التاريخ في لوبلين، بوجود جدوى اقتصادية لروسيا من ضم مناطق شرق أوكرانيا، معتبراً أنه "من وجهة النظر الاقتصادية، تحولت هذه المناطق، شأنها في ذلك شأن القرم وقت ضمّها، إلى أقاليم متلقية للدعم، ولا آفاق واضحة لتنميتها ككيانات اقتصادية مكتفية ذاتياً نتيجة للدمار اللاحق وتلوث الأراضي بالألغام وهجرة السكان وانقطاع الروابط الاقتصادية المعتادة".
سيناريو الكوريتين في شرق أوكرانيا
يلفت الصحافي والباحث في الشؤون الأوكرانية، قسطنطين سكوركين، إلى أن عاماً من الوجود الروسي في شرق أوكرانيا كاد ألا يؤدي إلى أي تغيير في خط الجبهة في ظل عجز الطرفين الروسي والأوكراني عن تحقيق أهدافهما.
ويقول سكوركين في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "النتيجة الرئيسية للجانبين هي بقاء خط الجبهة من دون أي تغيير بعد عام باستثناء انسحاب روسيا من خيرسون في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 مقابل إحكامها السيطرة على باخموت في مايو/أيار الماضي، وسط دخول الحرب مرحلة طويلة الأجل في ظل عدم استعداد أي طرف للتوصل إلى حل وسط لإنهاء أعمال القتال".
ولا يستبعد الصحافي والباحث احتمال تكرار سيناريو الفصل في جنوب شرق أوكرانيا وفق نموذج الكوريتين، مضيفاً أنه "في الوقت الذي تطالب فيه روسيا بالاعتراف بـ"الحدود الجديدة" وتصر أوكرانيا على العودة إلى حدود عام 1991، تتعالى أصوات السياسيين والخبراء الغربيين المتوقعة بقاء خط الجبهة الحالي خطاً فاصلاً لفترة طويلة وفق السيناريو الكوري، حيث تبقى كوريتان، شمالية وجنوبية، في حالة حرب منذ أكثر من 70 عاما، ولكن بلا أعمال قتال".
وحول رؤيته لحسابات موسكو وكييف في مناطق شرق أوكرانيا، يتابع: "يحظى تحرير الأراضي بالأولوية لدى كييف، فتراهن على المساعدات العسكرية الغربية من أجل مواصلة الهجوم المضاد الذي يسير ببطء بسبب قوة الخط الدفاعي الروسي. أما موسكو، فتسعى إلى تثبيت وجودها عبر الانتخابات التي أجرتها في وقت سابق من سبتمبر/أيلول الحالي، لإضفاء الشرعية الإجرائية على الحكّام الموالين لها رغم أن العالم لم يعترف بنتائجها".
قسطنطين سكوركين: توقعات ببقاء خط الجبهة الحالي خطاً فاصلاً لفترة طويلة وفق السيناريو الكوري
وكانت روسيا قد أجرت في النصف الأول من سبتمبر/أيلول الحالي، أول انتخابات محلية في شرق أوكرانيا، وسط تنديد أوكراني ودولي بإجراء التصويت في أراض ضمّتها روسيا بشكل أحادي الجانب قبل عام.
وفي موسكو، يجزم المحلل السياسي، عضو نادي الخبراء "ديغوريا"، يفغيني كيسلياكوف، هو الآخر بأن الغرب لن يعترف بشرعية الاستفتاءات التي أجرتها روسيا في شرق أوكرانيا، معتبراً في الوقت نفسه أن ضم الأقاليم الأربعة جاء بمثابة خطوة تاريخية هامة.
ويقول كيسلياكوف في حديث لـ"العربي الجديد": "هذا حدث طال انتظاره لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك اللتين قاومتا سلطات نظام كييف لسنوات طويلة، وعاشتا تحت القصف، محافظتين على الثقة في نفسيهما وروسيا". ويضيف أنه "بالنسبة إلى مقاطعتي خيرسون وزاباروجيا، هذه خطوة هامة للغاية أيضاً متمثلة بالعودة إلى الرحم التاريخي للدولة الروسية وفضاء العالم الروسي. نرى من نتائج الاستفتاءات أن الناس حسموا خيارهم لصالح وطنهم التاريخي، ويرون حاضرهم ومستقبلهم معه".
ويقلّل كيسلياكوف من أهمية رفض الغرب الاعتراف بشرعية الوجود الروسي، معتبراً أن "مسألة الاعتراف بالاستفتاءات من عدمه لا تهم روسيا، والموقف الغربي واضح، ويتلخص في أنه لن يعترف بها أبداً حتى إذا جرت مع مراعاة كافة الأحكام الدولية. ما يهم روسيا هو أننا ندافع عن أناسنا وأرضنا التاريخية ونسعى للنصر"، بحسب رأيه.
ويتابع كيسلياكوف أن "سكان المناطق الجديدة أيدوا حزب السلطة "روسيا الموحدة" في الانتخابات المحلية الأخيرة"، معتبراً أن ذلك يعكس "دعمهم للنهج الحالي لتطور البلاد ورؤيتهم لمستقبلهم مع روسيا".