في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الولايات المتحدة، ومجلس النواب الأميركي، خُلع رئيس المجلس، الجمهوري كيفن مكارثي، من منصبه، أول من أمس الثلاثاء، بعدما صوّت 216 نائباً لصالح إطاحته، بينهم فقط 8 جمهوريين. ووصف هذا التصويت بالتاريخي، إذ للمرة الأولى في تاريخه الممتد منذ 234 سنة، يعزل مجلس النواب رئيسه، الذي لم يكمل عامه الأول في المنصب، بتصويت سمح به مكارثي نفسه، الذي وصل إلى رئاسة المجلس، بتسويات مع الجمهوريين المتشددين، أتاحت لهم القدرة على أن يقدم نائب واحد منهم فقط مذكرة لحجب الثقة عن الرئيس، ليصار إلى طلب التصويت عليها.
واستعجل مكارثي، أول من أمس، جلسة التصويت، إذ أكد للنائب الذي تقدّم بمذكرة الحجب، من الجناح المتشدد للحزب، مات غايتز، أنه سيعرضها للتصويت في أقل من 24 ساعة، بعدما كان الاتجاه هو أن الديمقراطيين الذين أبرم معم صفقة تمرير الميزانية لتفادي الإغلاق، سيسرعون لنجدته، وهو ما لم يحصل. وللمفارقة، فإن وصول مكارثي، النائب عن كاليفورنيا، إلى رئاسة المجلس، في يناير/كانون الثاني الماضي، احتاج إلى 15 جلسة تصويت، فيما أطيح من منصبه بجلسة واحدة سريعة، بعدما فشل النواب الجمهوريون الداعمون له صباح الثلاثاء في إلغاء مذكرة الحجب بتصويت لم يأت لصالحهم.
وشكّلت الصفقة التي أبرمها مكارثي مع الديمقراطيين لمنع الإغلاق، وإبقاء الحكومة الفيدرالية مفتوحة حتى 17 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، مقتلاً سياسياً له، بعدما أكد سابقاً أنها "تعرّض منصبه للخطر". وأدى ذلك إلى تمرد نواب جمهوريين عليه، من الجناح المتشدد خصوصاً في ما يسمى "تكتل الحرية" الذي يملك الرئيس السابق دونالد ترامب نفوذاً عليه، معتبرين أنه خدعهم بإبرام الصفقة، وحرمانهم فرصة فرض تخفيضات هائلة في الميزانية، منها ما يرتبط بالدعم الأميركي لأوكرانيا.
لا يوجد بديل واضح لمكارثي الذي سرّعت الصفقة التي أبرمها مع الديمقراطيين لمنع الإغلاق بالتمرد عليه
لكن التصويت لإطاحة مكارثي جاء بأغلبية ديمقراطية. ويملك الجمهوريون أغلبية ضئيلة في مجلس النواب، وصّوت كلّ النواب الديمقراطيين، وعددهم 216 نائباً، لصالح العزل، فيما صوّت 8 نواب جمهوريين فقط لإطاحة مكارثي، و210 نواب جمهوريين لصالح إبقائه في منصبه. والنواب الجمهوريون الذين صوّتوا لعزل مكارثي هم: أندي بيغز، كين باك، تيم بورشيت، إيلي كراين، مات غايتز، بوب غود، نانسي مايس، ومات روزندال. يذكر أن 11 نائباً جمهورياً اعترضوا صباحاً على سحب عريضة حجب الثقة، في التصويت الأول، فيما حصل تصويت عزل مكارثي بغياب 7 نواب، بحسب شبكة "إن بي سي". وهذه هي المرة الأولى التي يُعزَل رئيس المجلس بتصويت، وكان تنحى آخر رئيسين جمهوريين للمجلس، وهما بول رايان وجون بينر، من الكونغرس بعد خلافات مع اليمين.
وأكد مكارثي بعد عزله أنه لن يترشح مجدداً للمنصب، علماً أن قانون المجلس يسمح له بذلك. كما قال إن رئيسة المجلس السابقة الديمقراطية نانسي بيلوسي كانت وعدته لدى انتخابه رئيساً بأن حزبها سيدعمه إذا ما تعرض لأي تحد. وأضاف خلال مؤتمر صحافي: "لقد كنت الرئيس الـ55 لمجلس النواب، وهذا شرف من بين الأعظم. لقد أحببت كل لحظة قضيتها في المنصب"، كما أكد أنه ليس نادماً على دعم ميزانية الديمقراطيين. وقالت "إن بي سي" أمس، إن المجلس لن يعقد جلسة أخرى كاملة هذا الأسبوع، على أن يلتئم الأسبوع المقبل لانتخاب رئيس له.
ولكن ماذا تعني خطوة عزل مكارثي، لا سيما في ظل التقاء ديمقراطي مع بعض الجمهوريين المتشددين حول ذلك؟ ومن هي الشخصية المحتملة لملء مقعد رئاسة مجلس النواب الذي أصبح شاغراً؟
أزمة ثقة تصنع التقاء المتناقضين
يبدو أن ثمة مخاوف كثيرة تشغل بال الديمقراطيين، ومخاوف أخرى تشغل بال بعض الجمهوريين، شكّلت نقطة التقاء بينهم وأدّت إلى التوافق لإطاحة مكارثي.
وقال الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي، إنه "تعب وسئم" من سياسة الجمهوريين، ودعا أول من أمس، بعد التصويت، إلى المسارعة لانتخاب رئيس جديد لمجلس النواب. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان - بيار إنه "نظراً إلى أن التحدّيات الملحة التي تواجه بلدنا لا تنتظر، يأمل الرئيس بأن ينتخب مجلس النواب رئيساً له سريعاً". وأضافت أن الرئيس "يتطلع للعمل مع مجلس النواب لمعالجة أولويات الأميركيين عندما يتحمل المجلس مسؤوليته وينتخب رئيساً على وجه السرعة".
وأكد الديمقراطيون من خلال تصويتهم، عدم ثقتهم صراحةً بمكارثي، لا سيما أن الأخير كان انتهك اتفاقه في مايو/أيار الماضي مع بايدن في ما يخص السنة المالية ودعم أوكرانيا، علاوة على إعلان مكارثي الشهر الماضي إطلاق إجراءات لعزل بايدن على خلفية الاتهامات التي يوجهها الجمهوريون للرئيس الديمقراطي والمتعلقة بأعمال عائلته التجارية.
وأكد التوجه الديمقراطي لعدم نجدة مكارثي، تصريحات النواب الديمقراطيين قبيل الجلسة. ونقل موقع صحيفة "نيويورك تايمز"، أمس، عن النائبة الديمقراطية عن واشنطن براميلا غايابال، أنها قالت: "نحن لن نصوت بأي شكل من شأنه أن يساعد رئيس مجلس نواب لا أحد يثق به".
من جهته، اعتبر النائب مات غايتز، الذي تقدم بمذكرة الحجب، في تصريح إعلامي، أول من أمس، أن "المشترك" بين الجمهوريين المتشددين والديمقراطيين "هو أن مكارثي قال شيئاً لنا جميعاً في وقت ما، ولم يفعله".
وعن سبب العداء الجمهوري المحدود والمتشدد لمكارثي، قال الأخير قبيل التصويت إن غايتز، كان مستاءً من التحقيق الأخلاقي المستمر في المجلس لسوء سلوكه الجنسي المحتمل وتعاطيه للمخدرات بشكل غير مشروع، لكن غايتز نفى ذلك أول من أمس، عبر شبكة "سي أن أن"، وأكد "اختلافه سياسياً" مع سلوك مكارثي داخل مجلس النواب. وأضاف للصحافيين: "كيفن مكارثي... وصل إلى السلطة من خلال جمع أموال منافع خاصة وإعادة توزيع تلك الأموال مقابل خدمات". كما أكد النائب بوب غود، الذي صوّت لصالح العزل أيضاً، لوكالة "رويترز"، ذلك، بقوله: "نحن نحتاج إلى رئيس يناضل من أجل شيء ما".
رفض الديمقراطيون إنقاذ مكارثي رغبة منهم في الاستثمار في العزل، لا سيما أنهم يرون الجمهوريين غارقين في خلافات داخلية غير مسبوقة
ويبدو أن أزمة غياب الثقة اكتملت في ليلة التصويت على إغلاق الحكومة، السبت الماضي، إذ وُضع الديمقراطيون في موقف ضغط الانتظار وتحت رحمة مكارثي. وهو الأمر ذاته الذي أثار حفيظة غايتز، الذي يتهم مكارثي، بأنه لم يبذل ما يكفي لإغلاق الحكومة ليل السبت الماضي.
الديمقراطيون يستثمرون في الفرصة
كان يمكن للديمقراطيين إنقاذ مكارثي من السقوط، لا سيما أن عددهم في مجلس النواب يسمح بذلك، وفي ظل تصويت 8 أعضاء جمهوريين فقط لصالح العزل. لكن الديمقراطيين أكدوا، أنهم "لن يساعدوا الجمهوريين على حل مشاكلهم"، وهو ما كانت أعلنته النائبة التقدمية عن الحزب ألكسندريا أوكاسيو كورتيز. كما أكد زعيم الأقلية الديمقراطية في المجلس، حكيم جيفريز، على "إن بي سي نيوز" أنه "غير مستعد لتقديم الأصوات اللازمة لإنقاذ مكارثي". ووصف "الائتلاف الديمقراطي الجديد"، وهو كتلة من المشرعين الديمقراطيين المؤيدين لقطاع الأعمال، ماكارثي بأنه "ببساطة غير جدير بالثقة".
ويسعى الديمقراطيون إلى الاستثمار سياسياً في العزل، لا سيما أنهم يتحضرون لانتخابات حامية للرئاسة والكونغرس العام المقبل، ويرون الجمهوريين غارقين في حالة انقسام داخلي غير مسبوق، وهو الكلام الذي أكده الرئيس السابق دونالد ترامب عبر موقع مجلة "تايم" الثلاثاء. وتساءل ترامب: "لماذا الجمهوريون منقسمون دائماً عوضاً عن مواجهة اليسار الديمقراطي الذي يدمر الولايات المتحدة؟".
ويقول أستاذ السياسة الأميركية في جامعة ولاية جورجيا، جيفري لازاروس، لـ"العربي الجديد": "في ما يتعلق بكيفية تأثير دراما إسقاط مكارثي على انتخابات 2024، فهي حقيبة تختلط فيها أمور عدة. فمن ناحية، قد تضرّ هذه الأحداث بالجمهوريين، من خلال جعل بعض الناخبين يتوقفون عن الثقة بقيادتهم جراء الخلل الوظيفي في الحزب. علاوة على أن الأحداث برمتها من المرجح أن تدفع الحزب نحو اليمين، أي أن يكون رئيس مجلس النواب الجديد أكثر تحفظاً من مكارثي، الأمر الذي قد يسبب مشكلة لأعضاء مجلس النواب الجمهوريين الذين يمثلون بعض المناطق المتأرجحة المعتدلة". أما من ناحية أخرى، بالنسبة إليه، فإنه "لا يزال هناك 13 شهراً تفصل عن الانتخابات، وهي فترة طويلة من الناحية الانتخابية. ومن المحتمل جداً حدوث بعض الأحداث حتى ذلك الحين والتي ستكون أكثر أهمية في أذهان الناخبين". ويأتي ذلك كما يقول "لا سيما أن الغالبية العظمى من الناخبين هم حزبيون متشدّدون، ما يعني أنه حتى الأحداث المهمة، مثل ما يحدث هذا الأسبوع، لديها مجال محدود لتغيير رأي أي شخص بشأن لمن سيصوّت".
كان السجال بين الديمقراطيين ومكارثي يتعلق بالدفاع عن السياسة والمؤسسة. وقال النائب الديمقراطي عن واشنطن، ديريك كيلمر، بحسب "نيويورك تايمز"، أمس: "لقد اختار رئيس مجلس النواب مراراً وتكراراً إضعاف المؤسسة من خلال الخضوع للمتطرفين بدلاً من التعاون"، علماً أن مكارثي نفسه اتهم الديمقراطيين بعد عزله "بتفضيل السياسة على المؤسسة"، أي الاستثمار السياسي لصالح صندوق الاقتراع في 2024، لا سيما أن الديمقراطيين يعرفون أن مكارثي لا يزال على علاقة جيدة بترامب المرشح المنافس المحتمل لبايدن.
جيفري لازاروس: الأحداث برمتها من المرجح أن تدفع الحزب نحو اليمين، أي أن يكون رئيس مجلس النواب الجديد أكثر تحفظاً من مكارثي
ومع عدم اليقين بشأن فترة بقاء منصب رئيس مجلس النواب شاغراً، ينتظر مجلس النواب في 17 نوفمبر المقبل تصويت جديد على السنة المالية الفيدرالية. وفي حال لم يتم الاتفاق على رئيس للمجلس، فإن الحكومة ستكون معرضة للإغلاق، وهي مقامرة ترتبط بمصير ملايين الأميركيين، وقد تقود إلى فوضى عارمة، ومجازفة سياسية بحق الحزب الديمقراطي أيضاً. كما يترك التصويت الكونغرس في حالة من الضبابية، بينما يسعى جاهداً لتحديث برامج دعم المزارع والتغذية، وتمرير مشاريع قوانين التمويل، والنظر في تقديم مزيد من المساعدات لأوكرانيا.
خطر الفوضى العارمة
أجمع بعض الجمهوريين على أن فترة مكارثي كانت مليئة بالتحديات. وكما نقلت شبكة "أن بي سي" أول من أمس، أقر زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، بأن فترة عمل مكارثي القصيرة "كانت محجوزة بمعارك تاريخية". ونقلت "رويترز" عن النائب الجمهوري توم كول قوله قبيل التصويت: "فكروا طويلاً قبل أن تغرقونا في الفوضى".
ولم يكن الحزب الجمهوري صوتاً واحداً في دعم مكارثي، وكانت جلسة العزل لحظة تصفية حسابات بين مناصرين ومعارضين له من أمثال "كتلة الحرية". وكتبت "نيويورك تايمز"، أمس: "كان ثمة جدل سريالي دار بين الجمهوريين في قاعة مجلس النواب. وقد استخف أعضاء المجموعة اليمينية المتشددة (المتمردون) بمتحدثهم مكارثي، وتساجلوا لفظياً مع المدافعين عنه". وأضافت: "اتهم المدافعون عن مكارثي المتشددين مراراً وتكراراً بزرع الفوضى من أجل رفع صورتهم السياسية، في حين جلس الديمقراطيون يراقبون بصمت". لكن الصمت لم يبق عنواناً سياسياً للديمقراطيين داخل الكونغرس.
نائب مؤقت ثم خليفة
لم يترك مقعد مكارثي فارغاً إلى حين اجتماع الجمهوريين (قالوا إنهم سيجتمعون في 11 أكتوبر/تشرين الأول الحالي) والاتفاق على رئيس للمجلس، وهو ثالث أهم منصب في النظام السياسي الأميركي بعد منصبي الرئيس ونائبه. إذ إنه بعد إطاحة مكارثي، تمّ تعيين النائب باتريك ماكهنري، الجمهوري عن ولاية كارولاينا الشمالية، كرئيس مؤقت لمجلس النواب. وماكهنري هو رئيس لجنة الخدمات المالية في المجلس، وحليف كبير لمكارثي، وكان اسمه مدرجاً في القائمة التي طُلب من مكارثي تقديمها في حالة شغور منصبه.
من جهتها، أشارت "سي أن أن" أمس، إلى أنه "لا يوجد بديل واضح لمكارثي، لكن السباق على خليفة محتمل بدأ بالفعل". وعن عملية اختيار الخليفة، ذكرت "إي بي سي نيوز"، أنه "عادةً ما يكون لكبار القادة السياسيين استحقاق في تراتبية المنصب، لكن زعيم الأغلبية الجمهورية ستيف سكاليز (لويزيانا) يكافح السرطان، وقد يواجه النائب توم إيمر (مينيسوتا)، مثل أي مرشح محتمل، صعوبة في تأمين التصويت. في حين أن الخيار الثالث قد يكون لصالح النائب إليز ستيفانيك من نيويورك، وهو حليف لترامب". وكتب النائب توماس ماسي، الجمهوري عن ولاية كنتاكي، على موقع "إكس"، أنه يدعم النائب جيم جوردان، الجمهوري عن ولاية أوهايو، رئيساً للمجلس.
ولكن إذا ما احتاجت عملية الاتفاق على رئيس لمجلس النواب في يناير الماضي إلى 15 جلسة مداولة، فإن الوقت الذي سيحتاجه الجمهوريون اليوم لاختيار رئيس جديد، في ظل انقسام حزبي أعمق وحسابات انتخابية كثيرة يبقى غير محسوم.