عفو انتقائي في مصر: تنكيل مستمر بالمعتقلين السياسيين

26 سبتمبر 2020
القرار يأتي في إطار خطة تخفيض أعداد السجناء (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الأحد الماضي، قراراً رئاسياً برقم 553 لسنة 2020، يقضي بالإفراج الشرطي عن بعض المحكوم عليهم بمناسبة ذكرى السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، ووضع شروطاً لمن يستفيد من هذا الإفراج من دون أن يحدد أسماء. لكن تلك الشروط جاءت لتستثني المعتقلين السياسيين، وتفتح الباب أمام النظام لمحاولات خداع الرأي العام الدولي ومحاولة تحسين صورته في ملف الحريات.

وهذا الإجراء ذو صبغة احتفالية اعتيادية، ولا يتضمن أي أسماء شهيرة، ويصدره الرئيس المصري في المناسبات القومية والدينية. وتختار وزارة الداخلية، ممثلة في مصلحة الأمن العام ومصلحة السجون، السجناء الذين تنطبق عليهم شروط القرار، ولا يكون من بينهم، في المعتاد، سجناء سياسيون أو مدانون في قضايا تظاهر.

وتصدر مثل هذه القرارات بشأن المحكوم عليهم فقط، ولا تخصّ المحبوسين احتياطياً من المعتقلين السياسيين في مصر، الذين يقدّر عددهم بقرابة ثلاثين ألف معتقل، حتى يناير/كانون الثاني 2018، من إجمالي عدد السجناء الذي يقارب 65 ألفاً، وفقاً لتقديرات حقوقية. كما لا يسري هذا العفو على المحكوم عليهم في عدد من الجرائم، من بينها الجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من الخارج والداخل (جميع قضايا الرأي العام والإرهاب والعنف) والمفرقعات والرشوة، وجنايات التزوير، والجرائم الخاصة بتعطيل المواصلات، والجنايات المنصوص عليها في قانون الأسلحة والذخائر، وجنايات المخدرات والاتجار فيها، وجنايات الكسب غير المشروع، والجرائم المنصوص عليها بقانون البناء.


القرار يستهدف إخراج نحو ألف سجين من المحكوم عليهم

كما تصدر تلك القرارات بالعفو عن باقي مدة العقوبة، من دون أسماء، محددةً الشروط التي يجب توافرها فقط، ولكل من تنطبق عليه الشروط أن يقدم للسجن، أو لمصلحة السجون بطلب للإفراج عنه، فإنّ قوبل الطلب بالرفض، كان لصاحب الشأن أن يلجأ إلى قضاء مجلس الدولة المصري.

في السياق، قال مصدر أمني رفيع المستوى لـ"العربي الجديد"، إنّ القرار يستهدف إخراج نحو ألف سجين من المحكوم عليهم، في إطار خطة الدولة لتخفيض أعداد السجناء، وتخفيف التدابير التي تتخذ في السجون حالياً لمنع انتشار فيروس كورونا إلى إدارات السجون ذاتها، والتي تتبع منذ سبعة شهور تقريباً إجراءات غير معتادة فيما يتعلق بتقليل الإجازات والكشف الطبي المستمر على السجناء والضباط وأفراد الشرطة. فضلاً عن استحداث نظام جديد للزيارات بقواعد صارمة منها الإبلاغ المسبق، والذي أدى في الواقع العملي إلى مزيد من الارتباك.

وأضاف المصدر أنّ حالة التوتر داخل السجون، وبصفة خاصة بين المحكومين السياسيين والمحبوسين احتياطياً، ما زالت متأججة منذ إعلان وزارة الداخلية استئناف الزيارات للسجناء والسماح لذويهم بالحضور إلى السجون للمرة الأولى منذ بدء اتخاذ الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار كورونا منتصف مارس/آذار الماضي. فقد أدّت سياسة إدارات السجون في إدارة آلية الزيارات الجديدة لانتشار حالة من التوتر والغضب والمشادات بينها وبين السجناء، وتفاقم سوء الحالة النفسية لآلاف المسجونين الذين تم منع الزيارات عنهم طوال هذه المدة وما زالوا محرومين منها بسبب طبيعة القضايا الخاصة بهم. فضلاً عن الغضب جراء زيادة عدد المرضى والمتوفين خلال ذروة فصل الصيف وهو ما يحصل في هذه الفترة من كل عام، نتيجة حرارة الجو الخانقة وظروف الطقس السيئة وحرمان المعتقلين في أماكن عديدة من التهوية الصحية.

وشهدت السجون المصرية منذ الأسبوع الثالث من أغسطس/آب الماضي، ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المتوفين، وصل حتى الآن إلى ستين متوفى، منهم ثلاثة في سجن العقرب (واحد من سجون منطقة طره وشديد الحراسة)، وكان آخرهم الدكتور عمرو علي أبو خليل، الطبيب النفسي المعروف بالإسكندرية، الذي اعتقل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لسبب واحد فقط هو كونه شقيق الإعلامي المعارض هيثم أبو خليل. وكان عمرو أبو خليل محبوساً على ذمة التحقيق في القضية رقم 1118 لسنة 2019 المعروفة إعلامياً بـ"إحياء تنظيم الإخوان"، والتي تجمع العديد من المتهمين الذين لا تربط بينهم صلات تذكر، من ضمنهم محامون وحقوقيون وطلبة بالجامعات، وتتوزع أماكن قضائهم فترة الحبس الاحتياطي بين بضعة سجون.

وأوضح المصدر الأمني أنّ الأمن الوطني أوصى السلطات بعدم إصدار قرارات عفو جديدة تشمل السياسيين أو المحكومين في قضايا انتماء لجماعات إسلامية خلال العام الحالي، مع العمل على تحسين أوضاعهم داخل السجون، استغلالاً لخفض عدد النزلاء هذا العام بسبب كورونا، بحيث يتم تقليل عدد المحبوسين في كل عنبر، وتسهيل إدخال احتياجاتهم من الخارج، وفقاً لنظام الزيارات الجديد، تخفيفاً للتوتر.


الأمن الوطني أوصى السلطات بعدم إصدار قرارات عفو جديدة تشمل السياسيين أو المحكومين في قضايا انتماء لجماعات إسلامية خلال العام الحالي

وسمحت الآلية الجديدة للزيارات بالتمادي في منعها عن معظم المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي والمتهمين بالانضمام لتنظيمات وجماعات معارضة لنظام الحكم، استمراراً في التمييز السلبي ضدّ الفئة ذاتها منذ بدء الجائحة. فقد كان المعتقلون في تلك القضايا هم الأقل استفادة من قرارات العفو المتتالية التي صدرت بين مارس/آذار ويوليو/تموز الماضيين، والتي شملت أكثر من عشرة آلاف سجين، غالبيتهم الكاسحة من المحكومين في قضايا جنائية عادية، ومنهم المئات من الحاصلين على أحكام بالمؤبد في قضايا تصنف بأنها خطيرة على الأمن العام، وكان على رأسهم الضابط محسن السكري مرتكب جريمة قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم لحساب رجل الأعمال الشهير هشام طلعت مصطفى. علماً أنه سبق وكشف مصدر لـ"العربي الجديد" أنّ الأمن الوطني رفض بشدة الإفراج عن قائمة مكونة من عشرين من المحبوسين احتياطياً البارزين على ذمة قضايا سياسية في مارس الماضي، ووافق فقط على إطلاق خمسة عشر معتقلاً.

وبعد مرور عام على تظاهرات 20 سبتمبر/أيلول 2019، التي كانت الأكبر في عهد السيسي والأخطر على استقرار حكمه، ما زالت السلطات ترفض الإفراج عن عدد غير معروف من المعتقلين الذين تمّ القبض عليهم في ذلك الوقت، وفي الحملة الأمنية التالية للتظاهرات الشعبية. وتقدر مصادر حقوقية عدد هؤلاء بنحو ثلاثمائة وخمسين على الأقل، من إجمالي أكثر من ألف وسبعمائة شخص خرج معظمهم على مراحل كانت آخرها في مايو/أيار الماضي.

ومما يؤكد إصرار النظام المصري على المضي قدماً في التنكيل بالمعتقلين السياسيين وعدم اعتنائه بخطورة استمرار تعبئة السجون بهم، استهانته بمناشدات أميركية لإخلاء سبيل المعتقل حامل الجنسية الأميركية، أحمد عبد النبي محمود، البالغ من العمر أربعة وستين عاماً، والذي توفي في الثاني من الشهر الحالي في سجن العقوب، بعد عام وتسعة أشهر من دون محاكمة، لتقطع الوفاة الطريق أمام تدويره في قضايا أخرى أو اتهامه بارتكاب جرائم خلال فترة حبسه.

كما تجاهل النظام اتصالات دبلوماسية وحكومية غربية خلال مايو/أيار الماضي -قبيل وفي أعقاب الوفاة الغامضة للمخرج الشاب شادي حبش بسجن طره- لإخلاء سبيل السجناء المدانين والنشطاء المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا ذات طابع سياسي، لإنقاذهم من الأوضاع التي لا يمكن التنبؤ بمستقبلها داخل السجون في ظلّ كورونا، لا سيما مع استمرار اتخاذ تدابير تزيد من عزلة السجناء بمنع الزيارة عنهم وتقليل فرص اللقاء بدفاعهم. فضلاً عن وقف خروجهم من محبسهم لحضور جلسات نظر تجديد الحبس، مع العلم أن مبررات الحبس الاحتياطي بشكل عام منتفية في مصر حالياً، نظراً لعدم إمكانية مغادرة البلاد وسهولة تعقب المتهمين في تدابير حظر التجول المعمول بها.

بل إنّ النظام توسّع أخيراً في ظاهرة تدوير المعتقلين على قضايا جديدة بمجرد اقترابهم من إكمال الحدّ الأقصى للحبس الاحتياطي وهو عامان. وهي ظاهرة كانت تُمارس حتى العام الماضي على عدد محدود من المعتقلين الذين تعتبرهم الأجهزة مصدر خطر على النظام، لكن هذا العام استخدمت النيابة العامة التدوير على جميع المعتقلين في القضايا السياسية تقريباً.

وتتمثّل شروط العفو الذي سيطبق على المحكومين في الجنايات العادية في "أن يكون المحكوم عليه قد نفّذ ثلث العقوبة قبل 6 أكتوبر/تشرين الأول 2020، بحيث لا تنقص المدة المنفذة عن أربعة أشهر حتى لو تعددت الأحكام. وإذا كانت العقوبة المحكوم بها هي المؤبد، وجب أن يكون قد نفّذ خمس عشرة سنة منها، وفي هذه الحالة يوضع تحت مراقبة الشرطة لمدة خمس سنوات".

ومن ضمن الشروط أيضاً "أن يكون سلوك المحكوم عليه أثناء تنفيذ العقوبة داعياً إلى الثقة في تقويم نفسه، وألا يكون في العفو عنه خطر على الأمن العام". ويستثنى من هذا القرار المحكوم عليهم بالإدانة في الجرائم التالية: جرائم التخابر وكافة الجرائم المضرّة بأمن الدولة من جهة الخارج، وإنشاء جماعة أو إدارتها أو تولي قيادة فيها أو الانضمام إليها، وقلب نظام الحكم، والتعدي على القائمين بتنفيذ الأحكام، والإضرار العمدي بوسائل الإنتاج والمباني والأملاك العامة أو المخصصة للنفع العام، والترويج لتغيير مبادئ الدستور، وازدراء الأديان، والجهر بالصياح لإثارة الفتن، والمفرقعات، والرشوة، والتزوير، والبلطجة واستعراض القوة والتلويح بالعنف، وتعطيل المواصلات. كما يستثنى المدانون بجرائم حيازة وإحراز الأسلحة والذخائر بالقانون 394 لسنة 1954، وجرائم المخدرات بقصد البيع والترويج، وجرائم الدعارة، والجرائم المتعلقة بالخدمة العسكرية، والكسب غير المشروع، والهدم والبناء والتوسيع والتعلية بدون ترخيص، والمهندسين القائمين بأعمال الاعتماد بالمخالفة، وجرائم قانون الاستثمار 146 لسنة 1988، والبالغ الذي يحرض طفلاً أو يساعده على ارتكاب جريمة، وغسل الأموال، وجرائم قانون تنظيم زرع الأعضاء البشرية ومكافحة الاتجار بالبشر، وجرائم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت، وجرائم قانون التظاهر، وقانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015".


توسّع النظام أخيراً في ظاهرة تدوير المعتقلين على قضايا جديدة

وإذا كانت عقوبة أي من المحكوم عليهم (المستثنين من العفو) السجن المؤبد، يُعفى من باقي العقوبة إذا نفّذ عشرين سنة متصلة وكان عمره في 6 أكتوبر 2020 قد تجاوز الخمسين. فإذا تعددت الأحكام، يُعفى من باقي العقوبة متى نفّذ عشرين سنة متصلة عن إحدى عقوبات السجن المؤبد، ويوضع المفرج عنه تحت مراقبة الشرطة خمس سنوات.

أما بشأن كيفية إتمام الإجراءات، فيقوم مأمور السجن بترشيح المحكوم عليه للعفو، ويرسل الأوراق لمصلحة السجون لاعتمادها. وفي حال توافر تلك الشروط في المحكوم عليه، ولكن لا يرشحه مأمور السجن، هنا يتعين على المحكوم عليه أو وكيله إرسال طلب للإفراج الشرطي لوزير الداخلية، ويقيم دعوى في مجلس الدولة.

يشار إلى أنّ هناك ثلاث طرق فقط لتقديم طلب بالعفو عن سجين أو معتقل، وهي طلب مباشر إلى رئاسة الجمهورية من خلال مكتب خدمة المواطنين بقصر عابدين بوسط القاهرة، أو طلب مباشر موجه لمصلحة السجون في رمسيس خلف مجمع محاكم الجلاء، أو إلى مكتب المجلس القومي لحقوق الإنسان في الدقي بمحافظة الجيزة. على أن يشمل الطلب صورة الرقم القومي لأحد أقارب المعتقل أو السجين من الدرجة الأولى، واستمارة بكافة بياناته ورقم قضيته ومكان محبسه.

ويعرف قانون العفو الشرطي أنه "يكون بعد قضاء ثلاثة أرباع مدة السجن، ويتقدم المسجون بطلب، وتحدد الشرطة ما إذا كان لا يمثل خطورة على المجتمع، وأن سلوكه جيد وحسن السمعة أم لا. وللنيابة أن تعيد المسجون إلى الحبس مرة أخرى لقضاء باقى العقوبة، إذا ما رأت أن خروجه لم يقوِّمه وأنه ما يزال يمثل خطراً على الأمن العام".

وقال تقرير نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في 16 مارس/آذار الماضي، بعنوان "لماذا على مصر الإفراج عن السجناء المحتجزين ظلماً الآن؟"، إنّ "السجون المصرية تشتهر باكتظاظها وقذارتها ومخالفتها لقواعد النظافة والصحة". وفيما تضمّنت التوصيات العالمية لاحتواء فيروس كورونا ومنع وصوله إلى السجناء، التي جمعتها منظمة "ديغنيتي" في ملف واحد، إلزام الدول بحق السجناء في الحصول على الرعاية الصحية، توفي خمسة سجناء ومعتقلين في السجون ومقار الاحتجاز المصرية في مارس الماضي وحده، بخلاف خمسة آخرين توفوا في فبراير/شباط الماضي، إلى جانب وفاة سبعة معتقلين آخرين في يناير/كانون الثاني الماضي، نتيجة الإهمال الطبي المتعمد. وكان توفي 449 سجيناً في أماكن الاحتجاز خلال الفترة ما بين يونيو/ حزيران 2014 وحتى نهاية 2018. وقد ارتفع هذا العدد ليصل إلى 917 سجيناً في الفترة بين يونيو 2013 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بزيادة مفرطة خلال عام 2019، بحسب آخر تحديث حقوقي. وبين هؤلاء المتوفين 677 نتيجة الإهمال الطبي، و136 نتيجة التعذيب.