كرّس الرئيس الصيني شي جين بينغ سلطته على رأس الحكم، عبر إجرائه سلسلة تعديلات تسمح له بإحكام قبضته أكثر على صناعة القرار، خصوصاً عبر اللجنة المركزية الجديدة للحزب الشيوعي، مرسّخاً نفسه كأقوى زعيم صيني منذ مؤسس النظام ماو تسي تونغ.
وتأتي عملية الإطباق على السلطة في خضمّ تحوّلات يشهدها العالم، وضمناً الصين، منبثقة من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعياتها الجيوبوليتيكية على ملف جزيرة تايوان، وتأثيراتها الاقتصادية، وخصوصاً ارتفاع التضخّم وأسعار الطاقة.
وحصل شي، أمس الأحد، على ولاية ثالثة تاريخية على رأس الحزب الشيوعي، وفق ما أوردت وكالة الأنباء الرسمية، بعد أن أزاح أيّ معارضة في البلاد وداخل صفوف الحزب.
تعديلات في خدمة الرئيس
وعيّنت اللجنة المركزية الجديدة للحزب بعد إدخال تعديلات واسعة عليها، شي أميناً عاماً للحزب لولاية من خمس سنوات، ما يمهد لتثبيته رسمياً على رأس الدولة لولاية جديدة في مارس/آذار المقبل. وفور حصوله على تفويض جديد لخمس سنوات من اللجنة، تعهد شي بـ"العمل بجدّ لإنجاز مهامنا".
وشكر شي "بصدق الحزب بكامله للثقة التي أبداها لي"، معلناً في كلمة ألقاها أمام الصحافة في قصر الشعب في العاصمة بكين، أنه "لا يمكن الصين أن تتطور من دون العالم، والعالم أيضاً بحاجة إلى الصين".
وأكد أنه "بعد أكثر من أربعين عاماً من الجهود الحثيثة من أجل الإصلاح والانفتاح، حققنا معجزتين: تنمية اقتصادية سريعة، واستقرار اجتماعي بعيد الأمد".
وعلى الرغم من تركيز السلطات بشكل شبه تام بين يديه، يواجه الرئيس تباطؤاً اقتصادياً قوياً نتج بصورة خاصة من سياسة "صفر كوفيد" التي اتّبعها مع ما تضمنته من تدابير إغلاق وحجر متواصلة، وتفاقم الخلافات والخصومة مع الولايات المتحدة وانتقادات دولية على صعيد حقوق الإنسان.
شي جين بينغ: لا يمكن للصين أن تتطور من دون العالم
واختتم الحزب الشيوعي مؤتمره العشرين، أول من أمس السبت، بعد أسبوع من المداولات في جلسات مغلقة، بتجديد 65 في المائة من أعضاء اللجنة المركزية التي تعتبر بمثابة برلمان داخلي للحزب، بحسب تقديرات وكالة "فرانس برس".
وخلال اجتماعهم الأول صباح أمس الأحد، عيّن أعضاء اللجنة المركزية الـ205 وبينهم 11 امرأة فقط، الممثلين الـ25 في المكتب السياسي، هيئة القرار في الحزب الشيوعي الصيني. ولأول مرة منذ 25 عاماً، لا يضم المكتب السياسي أي امرأة، بعد تقاعد سان شونلان، المرأة الوحيدة بين أعضاء المكتب السابق.
كذلك عيّن المكتب السياسي اللجنة الدائمة الجديدة المؤلفة من 7 أعضاء، وهي الهيئة التي تمسك بزمام السلطة الفعلية في الصين. واللجنة الدائمة الجديدة بقيادة شي تتألف حصراً من حلفاء مقربين منه.
ويبدو أن رئيس الحزب في شانغهاي، لي كيانغ، سيكون رئيس الوزراء المقبل، مع تعيينه في اللجنة الدائمة، على الرغم من إدارته الفوضوية للإغلاق المطول المفروض على المدينة في الربيع الماضي بسبب كورونا. وسيخلف بذلك لي كه تشيانغ الذي سيتقاعد.
وكل أعضاء اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، السبعة، من أنصار شي. وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن شي الذي أصبح أيضاً على رأس الجيش، دفع بلي كيانغ إلى اللجنة الدائمة، ليُصبح عملياً "الرقم 2" في هيكلية القيادة. كذلك عيّن شي في اللجنة نفسها، جاو ليجي، المكلف التحقيق في ملفات الفساد و"عدم الولاء" للرئيس.
وتضمّ اللجنة أيضاً، تساي تشي، الذي بدأ رحلته السياسية مع شي في مقاطعة فوجيان منذ أكثر من عقدين، حين كان شي حاكماً للمقاطعة بين عامي 1999 و2002. وأهمية المقاطعة تكمن في أنها نقطة انطلاق لأي غزو صيني لتايوان.
وعُين دينغ شيو شيانغ عضواً في اللجنة، وهو يعاون شي في إدارة شؤون الحزب، ويرافقه في رحلاته الخارجية. وبات لي شي، المُساعد المقرّب من شي، عضواً في اللجنة أيضاً.
ووفقاً لـ"نيويورك تايمز"، فإن العضو الأهم في اللجنة، هو وانغ هونينغ، المفكّر الأيديولوجي للحزب الشيوعي، والمساهم في تشكيل رؤى آخر ثلاثة رؤساء صينيين: جيانغ زيمين (1993 ـ 2003)، وهو جينتاو (2003 ـ 2013)، وشي (بدءاً من عام 2013).
وذكرت الصحيفة أن "وانغ أدى دوراً رئيسياً في صياغة الحلم الصيني (المصطلح الذي يواكب عهود شي)، فضلاً عن مبادرة الحزام والطريق (طريق الحرير الجديد)، ويروّج لهما شي بقوة".
مع العلم أن وانغ دفع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في جلستها العامة السادسة (8 ـ 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021)، إلى اعتماد وثيقة عُرفت باسم "القرار التاريخي الثالث"، بعد وثيقتين متعلقتين بماو تسي تونغ ودينغ شياو بينغ. ونصّت على أن "قيادة شي هي مفتاح التجديد العظيم للأمة الصينية".
ويُعتبر وانغ من المؤثرين في دائرة شي، بما يُشبه تأثير المفكر الروسي ألكسندر دوغين في الرئيس فلاديمير بوتين، ويلقّبه مراقبون كثيرون بـ"هنري كيسنجر الصين"، لدوره في صياغة السياسات الخارجية الصينية في العقود الثلاثة الأخيرة.
ورأى خبير السياسة الصينية في جامعة سنغافورة الوطنية، ألفريد وو مولوان، في حديثٍ لـ"فرانس برس"، أن "كلهم رجال شي، هذا يظهر أنه يعتزم أن يحكم لأطول من ولاية ثالثة"، وبالتالي إلى ما بعد عام 2027.
وتوقع الخبير في مسائل الحزب الشيوعي الصيني في الجامعة الصينية في هونغ كونغ، ويلي لام، في تصريح لـ"فرانس برس"، "هيمنة غير متكافئة إلى حد غير اعتيادي لفصيل واحد، هو فصيل شي". لكن الرئيس الصيني لا يكافح "من أجل السلطة بسبب رغبته في السلطة وحدها"، وفق ما يعتقد ألفريد ل. تشان، مؤلف كتاب عن حياة شي، بل أوضح لوكالة "فرانس برس" أنه "يكافح من أجل السلطة ويستخدمها كأداة لتحقيق رؤيته" للمستقبل.
وكان والد شي، تشونغ شون، بطلاً ثورياً، وأصبح نائباً لرئيس الوزراء، ثم هدفاً لماو تسي تونغ خلال الثورة الثقافية (1966 ـ 1976). وقال تشان إن "شي وعائلته ما زالا مصدومين". إذ فقد شي مكانته بين ليلة وضحاها، ويبدو أن أختاً له من أبيه انتحرت بسبب الاضطهاد. وقال هو نفسه إنه أصبح منبوذاً من قبل زملائه في المدرسة.
وهي تجربة عدّها عالم السياسة ديفيد شامبو أنها ساهمت في منحه "إحساساً بالانفصال العاطفي والنفسي والاعتماد على الذات منذ سن مبكرة"، بحسب قوله لـ"فرانس برس".
وبسبب إرث والده، رُفض طلب شي بالانضمام إلى الحزب الشيوعي مرات عدة قبل أن يقبل. وقد بدأ على حد قول أدريان غيغس، وهو كاتب سيرة حياة الرئيس الصيني، "عند مستوى منخفض جداً"، وتسلق سلم السلطة إلى أن أصبح حاكم مقاطعة فوجيان في 1999 ثم زعيم الحزب في تشيجيانغ في 2002 وأخيراً في شنغهاي في 2007.
وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي بعد وفاة ماو، رُدّ الاعتبار لوالده، ما عزز موقعه. وأضاف غيغس لـ"فرانس برس": "لديه (شي) فعلاً رؤية للصين ويريد أن يراها أقوى دولة في العالم"، معتبراً أن شي ليس مدفوعاً برغبة في الإثراء خلافاً لما قيل عن ثروته العائلية في وسائل الإعلام الدولية.
وكتب كيري براون مؤلف كتاب "شي: دراسة في السلطة"، أن "شي رجل إيمان. بالنسبة إليه الله هو الحزب الشيوعي". وأضاف أن "أكبر خطأ ترتكبه بقية العالم بشأن شي، عدم أخذ هذا الإيمان على محمل الجد".
بدوره، اعتبر الباحث في السياسة الخارجية في شنغهاي، هو وي، لـ"فرانس برس"، أنه "يمكن وصف البيئة الخارجية للصين الآن بأنها محفوفة بالمخاطر بشكل غير مسبوق".
وظلّ شي غامضاً تجاه الولايات المتحدة، إذ لم يشر خلال المؤتمر الحزبي علناً إليها، ولا إلى استراتيجية الأمن القومي الجديدة للرئيس جو بايدن التي تصف الصين بأنها التهديد الأبرز للتفوق الأميركي.
غير أنه في المقابل، قال الجنرال شو كيليانغ للمندوبين العسكريين في المؤتمر إن شي "نفذ عملية إنقاذ وإعادة تشكيل وتحول" تاريخية لقوات "جيش التحرير الشعبي" (الاسم الرسمي للجيش الصيني). وشدّد على أنه "في جميع الأفعال، أطيعوا تماماً أمر الرئيس شي"، مستخدماً لقب شي كقائد للجيش.
ودعا إلى تسريع الخطوات لتصبح الصين أكثر اعتماداً على نفسها في التقنيات الأساسية والمضي قدماً في التحديث العسكري، بما في ذلك، كما ألمح شي، رفع مستوى قدرات الأسلحة النووية المحدودة نسبياً لبكين.
ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن أستاذ الاقتصاد في جامعة "كورنيل" الأميركية، إسوار براساد، قوله إن "شي جين بينغ وضع الاقتصاد الصيني على مسار محدد نحو تحقيق رؤيته لاقتصاد تهيمن عليه الدولة، ويعتمد على نفسه ويستمر في التعامل مع العالم بشروطه الخاصة".
ومن المرجح أن يسيطر الاقتصاد على تركيز شي الفوري مع شروعه في فترة ولايته الثالثة، خصوصاً أنه في السنوات الأخيرة، ألقى بثقله وراء تطوير اقتصاد أكثر اعتماداً على الاستهلاك، وسط سعيه لمعالجة فجوة الثروة الهائلة في الصين تحت شعار "الرخاء المشترك".
بات المفكّر وانغ هونينغ عضواً في اللجنة الدائمة
ومع ذلك، فإن استراتيجيته المتعلقة بـ"صفر كوفيد"، ضربت معنويات المستهلكين، على وقع عمليات الإغلاق المفاجئة والاختبارات الجماعية والقيود المفروضة على الحركة، ما أدى إلى تقليص النمو.
وبالتالي فمن غير المرجح أن يتعافى الاستهلاك إلى مستوى ما قبل تفشي وباء كورونا، حسبما توقعت كبيرة الاقتصاديين في مصرف هانغ سنغ الصيني، دان وانغ، لوكالة "فرانس برس".
وأضافت أن هذا المسار الاقتصادي "زاد من المشاكل في قطاع العقارات، وأثارت أزمة الديون احتمالات تخلف المطورين عن السداد، وسمحت بانتشار المخاوف من حصول أزمة مالية للحكومات المحلية (في مختلف المقاطعات الصينية)". وأشارت وانغ إلى أنه "سيتعين على الحكومة اختيار نموذج جديد لتطوير قطاع الإسكان مع الحفاظ على متطلبات تقليص المديونية".
وأرجأت الصين الأسبوع الماضي إصدار أرقام النمو الاقتصادي للربع الثالث من العام الحالي، وسط توقعات بأن البلاد في طريقها لتحقيق أضعف أداء لها منذ الأيام الأولى لوباء كورونا في عام 2020. مع العلم أن بكين حققت نمواً بنسبة 0.4 في المائة فقط في الربع الثاني من العام الحالي، وسط توقع المحللين من تفويتها هدف النمو السنوي البالغ 5.5 في المائة، وبهامش واسع.
ملف تايوان
وفي ملف تايوان، شدّد شي مجدداً على أن الصين لن تتخلى أبداً عن خيار استخدام القوة لفرض حكمها على الجزيرة. وقال أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين الصينية، شي ين هونغ، لـ"فرانس برس"، إن شي "يدمج دائماً الوحدة مع تايوان، في سياق مفهومه للعظمة الصينية".
واعتبر أن "التركيز على الأمن القومي في المجالات العسكرية والاقتصادية والأيديولوجية يعكس حقيقة أن لا مؤشر واضحاً على أي تخفيف كبير ودائم للعلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها في المستقبل القريب".
وفي حين أنّ من غير المرجح أن تزيد إعادة تعيين شي من خطر نشوب حرب على تايوان، إلا أنها "قد تكون خطوة واحدة في سلسلة من الأحداث التي تزيد في نهاية المطاف من خطر نشوب صراع مسلح"، حسبما قال محلل المخاطر السياسية في شنغهاي دان ماكلين.
وأضاف في حديث لوكالة "فرانس برس" أن "بكين قد تكثف خططها لإعادة التوحيد إذا تباطأ النمو الاقتصادي"، غير أنه رأى أن "تقدم عمر شي (69 عاماً) إلى جانب قيادة عليا مكدسة بحلفاء شخصيين يمكن أن يزيد من خطر سوء التقدير، ويمنح شي مستوى متطرفاً من السيطرة وقدرة أكبر على اتخاذ خطوات جريئة بشأن تايوان".
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس)