يتحرك الشارع في الجزائر بغضب اجتماعي متصاعد في الفترة الأخيرة في مدن وبلدات عدة، خصوصاً في الداخل والجنوب، حيث ضعف التنمية وهشاشة البنى التحتية وغياب فرص العمل للشباب، ووسط ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة تعيشها البلاد، ليس بسبب الأزمة الوبائية فحسب، ولكن بسبب تراجع عائدات النفط الذي يموّل بالكامل خزينة الدولة، وفشل الحكومة الأولى للرئيس عبد المجيد تبون في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. تضاف إلى ذلك أخطاء تواصلية من قبل الوزراء والحكومة، وبروز مؤشرات عن تشكّل كارتل مالي جديد، وشعور مجمل الجزائريين بأن السلطة تدور في حلقة مفرغة، وأن لا شيء تحقّق لهم بعد عامين من الحراك الشعبي.
اختلط المطلب الاجتماعي المرتبط باستحقاقات التنمية وتوفير فرص العمل، بالمطلب السياسي، خلال الاحتجاجات الأخيرة
وتواجه الحكومة الجزائرية منذ أسبوعين موجة احتجاجات جديدة، اختلط فيها المطلب الاجتماعي المرتبط باستحقاقات التنمية وتوفير فرص العمل، بالمطلب السياسي المرتبط بالديمقراطية ورفع التضييق على الحريات والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والناشطين، وذلك بعد عامين من الحراك الشعبي لم تتحقق فيهما هذه المطالب، بسبب فرض السلطة أجندة سياسية أحادية الجانب ارتكزت على معطى إجراء الانتخابات فحسب. ويأتي ذلك بعد أكثر من عام على تولي تبون الحكم، ومن تشكيل حكومة عبد العزيز جراد، والتي أظهرت عجزاً واضحاً سياسياً واتصالياً، وقدرة محدودة على معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية معاً، ولم تستطع تنفيذ وعودها بحل بعض الأزمات التموينية كالحليب والسيولة النقدية وغيرها.
وشكّلت انتفاضة الشباب والعاطلين من العمل في ولايتين، هما الأغواط التي تقع في المدخل إلى الصحراء الجزائرية، وهي عاصمة الغاز، وورقلة في قلب الصحراء وهي عاصمة النفط، إضافة إلى سلسلة مسيرات، الجمعة الماضي، للحراك الشعبي في مدن عدة وسط وشرقي وغرب الجزائر، مؤشراً جدياً إلى عودة التحركات الشعبية إلى الشارع، ونفاد صبر الجزائريين على السلطة السياسية والحكومة.
وشهدت مدينة الأغواط، السبت الماضي، أضخم حراك شعبي في تاريخها، إذ خرج الآلاف من سكان الولاية للمطالبة بفرص العمل والتنمية وترحيل المسؤولين الفاسدين والفاشلين من الهيئات الحكومية. وكان اللافت في هذا التجمّع شعار كبير رفعه المحتجون، كُتب عليه "الغاز هنا، والنفط هنا، ولا شيء هنا"، في إشارة إلى عدم استفادة المنطقة من أي تنمية وتحسين للبنى التحتية، على الرغم من كون الولاية منطقة لإنتاج المحروقات والغاز خصوصاً. كما ظهرت سيدة تصرخ خلال التجمّع للدفاع عن ثلاثة من أبنائها الشباب الذين تخرّجوا من الجامعة من دون أن يتمكنوا من الحصول على وظيفة. وسبق هذه "الانتفاضة" في الأغواط، تجمّع حاشد للشباب العاطل من العمل في ولاية ورقلة، للمطالبة بوظائف وفرص عمل في عشرات الشركات النفطية التي تعمل في المنطقة (عاصمة النفط في الجزائر). كما طالب الشباب بفتح تحقيقات في فساد إداري وتلقي المسؤولين عمولات في ملف التشغيل للتلاعب به، وهددوا بتنفيذ اعتصام مفتوح حتى تحقيق مطالبهم. كما كانت ولاية البيض ومدينة بوقطب تحديداً، غربي البلاد، قد شهدت حركات احتجاجية مماثلة، مع ارتفاع البطالة في هذه الولايات إلى معدلات قياسية مقارنة بالمعدل الوطني، الذي يُقدر بـ14 في المائة.
وحذر الائتلاف المدني "كونفيدرالية النقابات الجزائرية"، الذي يضم عدداً كبيراً من النقابات العاملة خصوصاً في قطاعات الصحة والتعليم والوظيفة العمومية، الحكومة من مغبّة اختبار صبر المواطنين والطبقات الشعبية والعمال، بشأن المطالب الاجتماعية المتعددة وتردي الأوضاع المعيشية وغلاء الأسعار. وقال الائتلاف في بيان، إن البلد يعيش في "وضع ينذر بانفجار اجتماعي وشيك جراء حالة الاحتقان والغليان التي تعرفها الجبهة الاجتماعية بسبب الانهيار الرهيب للقدرة الشرائية، وفي ظل الغضب العمالي من عدم بروز مؤشرات تنبئ بحدوث القطيعة مع السياسات الاجتماعية العقيمة للحكومات السابقة". كما طالب الائتلاف النقابي السلطة برفع التضييق الواضح على الحريات النقابية، وبحماية الحريات النقابية وحقوق العمال المكرسة في الدستور الجزائري والمواثيق الدولية المصادق عليها من قِبل الجزائر. ودان رفض الحكومة اعتماد بعض النقابات والكونفيدراليات المستقلة، وإصلاح منظومة صناديق التأمينات الاجتماعية، وحمّل الحكومة "مسؤولية ما قد ينجر من تداعيات الوضع بسبب الغضب العمالي"، داعياً إياها في الوقت نفسه "إلى الإسراع في إطلاق حوار اجتماعي جاد من شأنه أن يفضي إلى إيجاد حلول للملفات والمطالب العالقة ويعيد للجبهة الاجتماعية هدوءها واستقرارها". وتأتي أهمية بيان الائتلاف النقابي من كون كل مكوناته كانت جزءاً من الحراك الشعبي، وما زالت تعارض خيارات السلطة السياسية.
وإذا كان اللافت في حراك الشارع هذه المرة تقدّم المطالب الاجتماعية على المطالب السياسية، فإن الأخيرة حاضرة في حراك شارع موازٍ يتقاطع مع الحراك الاجتماعي لجهة إدانة سياسات السلطة ويحاول استدعاء مسيرات الحراك الشعبي. ولوحظت، يوم الجمعة الماضي، عودة مسيرات الحراك إلى أكثر من سبع ولايات، هي البويرة وتيزي وزو وبجاية وسطيف ومعسكر وعين تموشنت وتيارت، عاد فيها الناشطون إلى الشارع للمطالبة بالديمقراطية والحريات والدولة المدنية ورفض خريطة الطريق التي فرضتها السلطة. كما خرجت مسيرات ليلية متتالية في ولاية جيجل، شرقي الجزائر، لرفض السياسات الحكومية وفشلها في إدارة البلاد، وعُلّقت لافتة عملاقة وسط المدينة كُتب عليها "فشل السياسات أخطر من كورونا". وتسبق هذه المسيرات بقليل الذكرى الثانية للحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير/ شباط 2019.
نقاش موسع بين مكونات الحراك حول ضرورة العودة إلى الشارع
يحدث ذلك في ظل نقاش موسع بين مكونات الحراك حول ضرورة العودة إلى الشارع، إذ كان ائتلاف مدني (نداء 22 فبراير) قد دعا، قبل أيام، الجزائريين للبقاء بحالة تعبئة استعداداً للعودة إلى الشارع، ويستعد لإطلاق نقاش مدني وسياسي موسع لتوجيه دعوات صريحة لأن تكون الذكرى الثانية للحراك مناسبة لإنهاء تعليق تظاهرات الحراك التي تم تعليقها منذ مارس/ آذار الماضي بسبب الأزمة الوبائية. وتعتبر مكونات الحراك الشعبي أن تعليق التظاهرات فسح المجال واسعاً للسلطة لتكثيف الاعتقالات والملاحقات في حق الناشطين السياسيين ومتابعتهم قضائياً، واستغلال الأزمة الوبائية بسبب كورونا لزيادة التضييق على الحريات.
وقال الناشط في "نداء 22 فبراير" هشام خياط، لـ"العربي الجديد"، إن "كل الظروف الراهنة توفر كافة المبررات المنطقية سواء للاحتجاجات الشعبية ذات الطابع الاجتماعي، أو التظاهر السياسي وعودة الحراك الشعبي، إذ يلاحظ الجزائريون أن أبرز المطالب السياسية المتعلقة بالحريات مغيبة، كما أن السلطة ترفض أي حوار وتمرر مشاريعها السياسية بالقوة، كالدستور وقانون الانتخابات، إضافة إلى أن السلطة السياسية لم تقدّم أي مؤشر إلى نوايا إصلاح سياسي، وهو أمر كان واضحاً منذ مدة طويلة"، مشيراً إلى أن "الانتكاسة المسجلة في مجال الحريات، وغياب أفق للانتقال الديمقراطي واتضاح الصورة بأن النظام يعيد إنتاج نفسه، كلها عوامل ستعيد الجزائريين إلى الشارع مجدداً".