عولمة السرديّة الصهيونيّة... محاولة اغتيال الوجود الفلسطيني

25 يوليو 2021
مسيرات مؤيدة للفلسطينيين في فرنسا (أليان بيتون/Getty)
+ الخط -

المقاومة الشعبيّة التي شهدتها الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في شهر أيّار/ مايو الماضي أعادت تسليط الضوء على وحدة الأرض والشعب القضيّة، كما أعادت الاعتبار في ذات الوقت إلى هذه القضيّة على المستوى الأممي.. هذا بالطبع لم يرق لدولة الاحتلال وكارتيلات اللوبي الصهيوني المتفشيّة في كافّة أنحاء العالم، فكان من الطبيعي أن ينخرط الإعلام الإمبريالي في لعبة الأيادي القذرة التي يمارسها الاحتلال، لتقويض الرواية الفلسطينيّة، وقلب الحقائق، عبر العزف مجدّداً على أوتار "الإرهاب" و"معاداة الساميّة"!

على أيّة حال، لم تكن السلطة التي يفرضها اللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام الغربي كافية للحيلولة دون خروج مسيرات التضامن في كثير من أنحاء العالم، حيث لم يعد بالإمكان الاستمرار بلعبة "غسل الأدمغة" بذات الأساليب القديمة، فكان لا بد - بالنسبة لمزوّري الحقائق - من بسط ظلالهم على وسائل التواصل الاجتماعي، فبدأت هذه المنصّات، وعلى رأسها موقع "فيسبوك"، بحذف المنشورات والحسابات التي تبدي تأييدا لحقوق الشعب الفلسطيني، أو أيّ شكل من أشكال التعاطف مع قضيّته!

صهينة الإعلام و"الإنترنت"

رغم هذا، لم يكن إعلام الاحتلال راضياً بما فيه الكفاية عن انحياز منصّات التواصل الاجتماعي السافر لروايته ومزاعمه. صحيفة "تايمز أف اسرائيل"، مثلاً، نشرت في عددها الصادر في الثالث من شهر يوليو/ تموز الجاري مقالاً بعنوان: "هل تحظر منصات التواصل الاجتماعي التوعية بالهولوكوست إلى جانب خطاب الكراهية؟"، حيث زعم المقال أن إدارة "فيسبوك" تقوم بحذف منشورات وحسابات تهدف إلى "التوعية" بسبب "عدم تمييز" الخوارزميات بين هذا الأمر وبين "إنكار الهولوكوست"!

التباكي على "الهولوكوست"، واتّهام المقاومة بـ "الإرهاب"، واللعب على حبال "معاداة الساميّة"، وما إلى ذلك من وسائل مستهلكة، كانت - كالعادة - الذرائع المجترّة التي قدّمتها الحركة الصهيونيّة لحلفائها الغربيين، لاتّخاذ إجراءات تدعم الرواية المضادّة لحقوق الشعب الفلسطيني، وتصوّر النكبة المستمرّة على أنّها مجرّد "صراع" بين "ضحايا الهولوكوست" و"التنظيمات الإرهابيّة". الحكومة الائتلافية الألمانية، على سبيل المثال، وافقت في بداية يونيو/ حزيران الماضي على حظر علم حركة حماس، مبرّرة قرارها بأنّه "علامة على احترام المواطنين اليهود في أعقاب الهجمات المعادية للسامية المرتبطة بأعمال العنف في الشرق الأوسط الشهر الماضي". صحيفة "فيلت آم سونتاغ" نقلت عن نائب المتحدث باسم البرلمان عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي "لا نريد رفع أعلام المنظمات الإرهابية على الأراضي الألمانية!".

الهيمنة الصهيونيّة على قرارات الحكومات الإمبرياليّة وإعلامها الغربي نتيجة طبيعيّة، رغم كلّ شيء، عن تحالف وجهي العملة الواحدة الممتدّ حتّى إلى ما قبل "وعد بلفور". وكثيرة هي المحطّات التي شهدت قمع الصحافيّين المنحازين إلى الحقيقة في ظلّ الحكومات البرجوازيّة "الديمقراطيّة". الصحافي السويدي دونالد بوستروم مثلاً، والذي كان قد كشف جريمة سرقة أعضاء الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال عام 2009، ونشر مقالته في صحيفة "أفتون بلاديت"، انتهى به المطاف آنذاك إلى تقويض عمله في الصحيفة، نتيجة ضغط اللوبي الصهيوني، والشركات المعلنة المرتبطة به!

سرقة التاريخ والهويّة

تزوير الحقائق لا يقتصر على ممارسات الاحتلال واللوبي الصهيوني في ساحة الإعلام اليوم. هذه اللعبة كانت قد سبقت حتّى وجود الاحتلال. الحركة الصهيونيّة استندت منذ البداية إلى سرديّة غيبيّة أسطوريّة، تعتبر هذه الأرض حقّاً "إلهيّاً" لليهود، بل وتعتبر اليهود شعباً واحداً متجانساً، له تراثه المشترك، بل وأنّه امتداد بيولوجي للعبرانيّين، أو ما يسمّى بـ "بني اسرائيل".

الصهاينة الوافدون إلى فلسطين من شتّى بقاع الأرض، والذين لا يوجد ما يربط بينهم حضاريّاً، أو ما يمايزهم عن غيرهم من شعوب العالم، كانوا وما زالوا يحاولون إلصاق أنفسهم بتاريخ المنطقة، في محاولة يائسة شرسة، لتسويق مشروعهم الاستعماري على أنّه "وجود طبيعي لشعب "ينتمي" إلى هذه الأرض"!

وهكذا، عمدت الصهيونيّة إلى سرقة حتّى التراث الفلسطيني.. سرقوا الموسيقى والفن، كالدبكة والدلعونا، وحتّى النبات، فباتت شقائق النعمان وشجرة الزيتون تروّجان عالميّاً على أنّهما من رموز تراثهم المزعوم. كما سرقوا الثوب الفلسطيني، الذي ارتده موظّفات شركة "ال عال" على أنّه زيّ "إسرائيلي". المطبخ الفلسطيني أيضاً لم يسلم من السرقة، فلا تزال الصهيونيّة تروّج للفلافل، والحمّص، والفول، والزعتر، والزيتون، عالميّاً، على أنّها أطباق "إسرائيليّة". حتّى الملوخيّة والخبّيزة، يسوّقها بعض من يدعون أنفسهم "صنّاع المحتوى" على مواقع مثل "ويكيبيديا" على أنّها من "التراث الإسرائيلي". الأمر وصل بهم إلى اعتبار "الخبّيزة" تحديداً وجبة ما يسمّى بـ "يوم الاستقلال"!

أسطورة يحاول مختلقوها فرضها واقعاً ماديّاً، والاحتلال لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يتجاوز ذلك إلى تزوير التاريخ، وسرقة الهويّة، في سياق النكبة المستمرّة، التي تستهدف الوجود الفلسطيني، وتهدّد مستقبل المنطقة بل والعالم بأسره، عبر الهيمنة الصهيونيّة على كافّة دوائر صنع القرار، ومنابر الإعلام.. لكن الكارثة تتجاوز الصهيونيّة إلى امتداداتها من رجعيّات عربيّة، لا تخجل من الإمعان في جرائم التطبيع التي وصلت إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي غير المشروط.. هذا ما تواجهه المقاومة الشعبيّة الفلسطينيّة، التي لا تملك إلّا خيار الاستمرار حتّى العودة والتحرير.