غزو أوكرانيا... نتائج معاكسة لرغبات روسيا في اسكندنافيا والبلطيق

27 فبراير 2023
خلال مناورات للناتو في السويد، يونيو 2022 (جوناس كراتزار/Getty)
+ الخط -

قبيل الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عام، استحضرت موسكو قضية "توسيع حدود حلف شمال الأطلسي" نحو حدود روسيا شرقاً وشمالاً، باعتباره توسعاً ينقض التعهدات السابقة في فترة انهيار الاتحاد السوفييتي. بطبيعة الحال، بقيت روسيا تتصرف قبل الحرب الأوكرانية، باعتبار منطقة بحر البلطيق "حديقة خلفية" لها، أو منطقة حيوية لأمنها.

وولّد ذلك الكثير من الأحداث التي أسست لحالة توجس ممتد من دول البلطيق الصغيرة إلى فنلندا والسويد وبقية الدول الشمالية، وفي بعض المرات كادت أن تؤدي إلى تصادم بين الغرب وروسيا، خصوصاً أنها توسعت إلى الدائرة القطبية الشمالية وبحر الشمال.

دفع حلف شمال الأطلسي بمزيد من الأسلحة والجنود نحو دول البلطيق

في الخطاب الروسي، تعتبر منطقة بحر البلطيق ودوله (لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) مناطق حيوية، وهي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، وساعية إلى ترسيخ الحيادية في بعض دول مجموعة "دول الشمال" (التي تضم فنلندا والسويد والدنمارك والنرويج وأيسلندا)، خصوصاً فنلندا والسويد. لكن يبدو أنه منذ اليوم الأول للغزو الروسي في أوكرانيا (24 فبراير/شباط 2022) ذهبت الأمور باتجاه آخر.

فبالإضافة إلى أن دول البلطيق الصغيرة كانت تعلن تأييداً غير مشروط لأوكرانيا، كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) يدفع بمزيد من الجنود والسلاح نحوها، وغير بعيد عن جيب كالينينغراد الروسي على البلطيق، وعلى تخوم روسيا نفسها.

جرأة مدعومة من "الأطلسي"

خلال فترة وجيزة من حرب أوكرانيا، تحولت دول البلطيق إلى دول رائدة في دعم كييف، وسط اعتقاد سائد فيها بأنها ستكون التالية في طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعزيز توسعاته الجغرافية، خصوصاً في ظل وجود أقليات كبيرة ناطقة بالروسية فيها.

منذ أيام، وخلال مناظرة في المؤتمر الأمني ​​في ميونخ، أعاد رئيس وزراء إستونيا كاجا كالاس، الموقف المتغير بالدعوة إلى تعزيز التسلح في منطقة البلطيق وأوكرانيا. ومنذ عام 2014، وبعد أن تدخلت روسيا دعماً للمتمردين في شرق أوكرانيا، وقامت بضم شبه جزيرة القرم، كانت علاقة منطقة بحر البلطيق مع موسكو متوترة، مع زيادة التحركات الروسية العسكرية، بحراً وجواً.

سارع حلف شمال الأطلسي (الناتو) مرات عديدة في إطلاق التعهدات للدفاع عن إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وصب كثيراً من جهده بتحشيد عسكري إضافي، بمشاركة دول اسكندنافية وألمانيا وأميركا.

وبالتالي، حين اندلعت الحرب الأوكرانية توسع التعاون العسكري الأطلسي في عموم منطقة البلطيق ودول الشمال، خصوصاً أن لائحة "الانتهاكات" العسكرية الروسية، بحسب الخطاب الرسمي لتلك الدول، ازدادت وتيرتها منذ 2015 إلى الحد الذي كادت فيه طائرات روسيا تُلاحَق فوق البلطيق من طائرات الناتو، ما عزز مواقف القوى الداعية إلى إبراز عضلات قوة في وجه موسكو خلال السنة الماضية.

غير بعيد عن تلك التطورات، برز المستجد الأكثر خطورة، من وجهة نظر روسيا، بانسحاب السويد وفنلندا من حيادهما السابق في العلاقة الغربية-الروسية.


سارعت فنلندا، بناء على تجاربها السابقة مع الاتحاد السوفييتي، إلى إجراء تحول كبير في تسلّحها

فشكوى روسيا سابقاً ظلت تركز على توسع الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي (لاتفيا وإستونيا وليتوانيا وبولندا)، وصولاً إلى ما يشبه "التمرد" عند جيرانها في اسكندنافيا. فعلى عكس دول البلطيق، المشمولة بحماية الناتو، كانت هلسنكي واستوكهولم قررتا تقديم طلب انضمام مشترك إليه، ما عُد ضربة موجعة للسياسات الروسية، وأثار موجة غضب في الكرملين، وصلت حد اتهام مسؤولي هلسنكي للجيش الروسي بنشر عسكري تخويفي على حدود بلدهم، الذي عانى غزواً روسياً في أثناء الحرب العالمية الثانية، وانتهى بهزيمة الجيش الأحمر في ما عرف بـ"حرب الشتاء".

موسكو أدركت أن مظلة التعاون بين السويد وفنلندا مع "الأطلسي"، التي سبقت بسنوات طلب العضوية الرسمي، يعني أن القوس بات يُغلق عليها شمالاً. فذلك ببساطة يعني أن اسكندنافيا بالكامل ستكون الزاوية الأهم في القارة الأوروبية لمحاصرتها بالأطلسي، آخذين في الاعتبار أن الدنمارك والنرويج وأيسلندا أعضاء فيه منذ عقود.

التسلح في ذروته... تغير الخريطة

على الأرض إذاً، وبالأرقام، فإن محاصرة روسيا بجبهات أطلسية سيضيق على ساسة وعسكريي موسكو مساحات مناورة حلف شمال الأطلسي الذي صار بالفعل على تخوم روسيا، بل ويبعد بضعة مئات الكيلومترات عن سان بطرسبرغ.

ويعتقد مراقبون وخبراء في فنلندا والسويد أن "الاستفزازات" الروسية التي تلت الحرب في أوكرانيا، في منطقة البلطيق وعلى حدود فنلندا والنرويج، سرّعت من جهود هلسنكي في تحديث جيشها أكثر مما خصصت له طيلة الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة (1949 ــ 1991).

في فنلندا مثلاً، فإن البلد، رغم صغره مقارنة بقوة روسيا الضخمة، وبناء على تجاربه السابقة مع الاتحاد السوفييتي وفرض نوع من الحيادية على نفسه، يسارع إلى إجراء تحول كبير في تسلحه. فبالإضافة إلى أن شعب فنلندا يعد شعباً مسلحاً ومدرباً على حرب العصابات، فإن هلسنكي، التي تنتظر اكتمال عضويتها في الناتو، باتت على وشك شراء 64 مقاتلة من طراز "إف 35" (الشبح)، بالإضافة إلى معدات متطورة، وقدرة على تسليح 280 ألفا في الخدمة.

وذلك ليس بالأمر البسيط بالنسبة لروسيا، ويضع بالتالي الكرملين أمام موقف صعب إذا ما أراد تطبيق سياسة السيطرة على منطقة البلطيق. فالحجم الهائل للتسلح الفنلندي، في العتاد والأعداد، يُعد إضافة ضخمة لجهود حلف شمال الأطلسي في الزاوية الشمالية لأوروبا.

لم يتردد بعض خبراء السياسات الأمنية، ومنهم خبير السياسة الأمنية الأميركية ورئيس كلية الدراسات الدولية والأمنية في مركز جورج سي مارشال في ألمانيا، أندرو ميتشتا، في التصريح على هامش مؤتمر ميونخ أخيراً بأن الذي يجري "حرب تغيير النظام الأمني".


حولت الدنمارك ميناءها على بحر الشمال إلى نقطة عبور للسلاح الأطلسي نحو البلطيق

بمعنى من المعاني، فإن التمرد الحاصل في منطقة البلطيق ليس بالأمر البسيط على روسيا، التي أملت أن تبعد شبح "الأطلسي" عن بعض حدودها، وإذ بهذه الحدود على وشك أن تضيف 1340 كيلومتراً جديداً معه في فنلندا، هذا بالإضافة إلى شد عصب الحلف الغربي من الشمال وبولندا وصولاً إلى البحر الأسود، مع ملاحظة أن تلك الحدود من أكبر داعمي ومؤيدي أوكرانيا في صد الغزو الروسي.

السويد من ناحيتها، والتي واجهت الكثير من التحركات الروسية في منطقة البلطيق، واتهام موسكو بالتحرش المتواصل بالقرب من مياهها الإقليمية، خطت أيضاً خطوات غير مسبوقة في تغيير جذري لعقيدتها القتالية وسياساتها الخارجية.

فإلى جانب أن هذا البلد الإسكندنافي مصنع للأسلحة وطائرات "غريبن" الحربية، فقد دخل في تعاون وثيق مع دول جواره الأعضاء في الأطلسي، بل ومنحت طائرات الحلف حق مطاردة الطائرات الروسية في أجوائه.

ومنذ بداية الحرب قبل عام باتت استوكهولم أكثر انتباهاً وحذراً حيال أي تحركات روسية، حتى وصل الأمر إلى انتشار عسكري في جزيرة "غوتلاند" (غير بعيد عن كالينينغراد الروسي)، واستمرار الطلب من المواطنين ضرورة تخزين الطعام والمواد الأساسية لمدة أسبوعين على الأقل.

صحيح أن كلا من السويد وفنلندا واجهتا بعض المعارضة لعضويتهما، وبشكل رئيسي من المجر وتركيا، إلا أن الاعتقاد السائد هو أن العضوية في نهاية المطاف ستتحقق من خلال تسويات يشارك فيها الأوروبيون والأميركيون. ويوم الجمعة الماضي، أعلن رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان عن تأييده لتصويت برلمان بلده لانضمام البلدين إلى الحلف الأطلسي.

تنافس في القطب الشمالي

إجمالاً، فإن أهمية التغيرات التي طرأت في منطقة البلطيق واسكندنافيا ليست محصورة فيهما، بل ترتبط بشكل وثيق بجبهات أخرى ظلت أيضاً مثار سجال وتنافس غربي - روسي خلال العقدين الأخيرين على أقل تقدير، ويشمل ذلك منطقة الدائرة القطبية الشمالية وبحر الشمال.

فتعزيز وجود الأطلسي في هذه المنطقة الحيوية، والتعهد الصريح بالدفاع عن دول البلطيق الصغيرة، يعني أيضاً بعض الفرملة لخطط روسيا، باعتبار حرب أوكرانيا بمثابة ردع للآخرين، الذين تبدو نغمة تمردهم مترجمة على الأرض بصيغ عملية.

فالدنمارك على سبيل المثال حولت ميناءها على بحر الشمال، إيسبرغ، إلى نقطة عبور للسلاح الأطلسي نحو البلطيق، وباتت النرويج تستقبل قوات أميركية في أقصى شمالها، غير بعيد عن بحر بارنتس والجنود الروس.

إذاً، جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا، بعد أن كان مقدراً لها أن تكون سريعة، بحسب تقديرات مراكز أبحاث وباحثين أوروبيين وأميركيين، لتضيف بعداً جديداً على المتغيرات التي عمل عليها حلف شمال الأطلسي بعد ضم شبه جزيرة القرم في 2014، وتسريع الردود العملية على ما اعتبره ساسة هذه المنطقة الشمالية من أوروبا "تهديدات روسية" لردعها عن الانخراط في جهود الأطلسي.

وأصبح اليوم طراز جديد من الساسة، مثل رئيسة وزراء فنلندا الشابة سانا مارين، والدنماركية ميتا فريدركسن، وغيرهما شمالاً، يرفعون نبرة تحد لسياسات بوتين، أكثر مما كانت عليه الأمور قبل غزو أوكرانيا بأيام قليلة. فانتقل هؤلاء من صيغ "مهادنة" إلى صيغ تحد أكثر، والمسألة ليست فقط خطابية، بل أعمق من ذلك في توسيع حلف الأطلسي لوجوده وجهوده على تخوم روسيا، وعلى عكس ما كان يأمله بوتين.