مثلت الحرب الأوكرانية بكل نواحيها العسكرية والسياسية وحتى مآسيها الإنسانية مساحة مهمة لأخذ العبر والدروس في حرب قد تمتد لشهور وربما سنوات. ورغم استمرار النزيف في الأرواح والعتاد والمال بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، إلا أن الأخيرة استطاعت الصمود وتكبيد موسكو خسائر لم تتوقعها بفضل الروح القتالية والتنظيم الجيد للقوات الأوكرانية والدعم الغربي المتواصل بالسلاح والمال، وحصار روسيا اقتصادياً.
ارتدادات الحرب طاولت بشكل أساس دول أوروبا، ليس فقط لأنها أحيت مخاوف أمنية من غزو عسكري متهور قد تقوم به موسكو، لكنها أبرزت بشكل فاضح مدى العجز الأوروبي في مجال أمن الطاقة واعتمادها بشكل كبير على النفط والغاز الروسيين، ولم تتردد موسكو في استخدام هذا السلاح كورقة ضغط وابتزاز شديدة التأثير. ولولا الحماية العسكرية الأميركية والضغط الهائل الذي مارسته واشنطن على دول مثل ألمانيا، لترددت دول أوروبية كثيرة في فرض العقوبات الاقتصادية والوقوف مع أوكرانيا، واكتفت بالوقوف في صف المحايدين المتفرجين، وهو موقف كانت تفضّل اتخاذه دول أوروبية كثيرة غير راغبة بخوض أي مواجهة من أي نوع مع موسكو، إضافة إلى أن المغامرة العسكرية لبوتين دفعت المترددين في القارة العجوز إلى الاصطفاف بمعسكر واشنطن، خشية من أن يطاولها مصير كييف من تدمير وخراب.
عملياً، تستورد أوروبا 61 بالمائة من الطاقة التي تستهلكها، وتمثل موسكو أكبر مصدر للقارة، وخصوصاً في مجال الغاز الطبيعي، إذ تبلغ حصة موسكو ما يقارب الـ 40 بالمائة من صادرات أوروبا من الغاز الطبيعي والذي يعتمد عليه ملايين الأوروبيين في التدفئة ومجال الصناعة. والمشكلة لا تكمن فقط لدى الأوروبيين في الاعتماد على روسيا بمجال الطاقة، وإنما في صعوبة توفير بدائل بشكل سريع، وقد كانت قطر على سبيل المثال محط نظر كثير من الدول الأوروبية لتعويض الغاز الروسي، ولكن الدوحة وحتى بمعاونة كل من أستراليا والولايات المتحدة، وهم أكبر دول منتجة للغاز، ليست قادرة على تعويض حصة روسيا من الغاز. ورغم أن هذه الدول ضخت استثمارات هائلة لمضاعفة إنتاج الغاز، إلا أن عملية الانتهاء من التجهيزات التقنية واللوجستية تحتاج سنوات.
تخطط دول الاتحاد الأوروبي، وبتشجيع من الولايات لمتحدة الأميركية، لوقف الاعتماد الكبير في مجال الطاقة على روسيا، وذلك وفق ما أعلنته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين من أن الاتحاد الأوروبي يخطط للوقف التدريجي لاعتماده على الغاز والنفط والفحم الروسي وإنهائه بحلول 2027، في إطار دعم "الموارد الوطنية والأوروبية". إذا نجحت أوروبا في ذلك فقد تكون حققت واحداً من أهم الأهداف الاستراتيجية ومما سيكون له تداعيات مهمة على قطاع الطاقة وما يشكله من تأثير على المسرح العالمي.
إذن لا معنى للحديث عن الأمن القومي الاستراتيجي دون تحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء في مجال أمن الطاقة، وهو يدفع الكثير من الدول للاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة أو ما يسمى بالطاقة النظيفة، وذلك ليس فقط انطلاقاً من مبدأ الحفاظ على البيئة، وإنما بوصفه خطوة لا بديل عنها في مجال حفظ الأمن القومي لكيان الدولة.
لكن كل ذلك له تأثيرات مهمة على حقول الطاقة في الخليج العربي، حيث يبرز تحدي حماية ثروات الطاقة الهائلة، وأيضاً ما يتعلق باتجاه الدول الكبرى إلى تحقيق اعتمادية ذاتية في مجال الطاقة تقلل استيراد النفط والغاز.
يمثل احتياطي نفط دول الخليج 510 مليارات برميل، وهو يشكل نحو 33 بالمائة من مجمل الاحتياطي العالمي المؤكد. وتنتج دول الخليج يومياً 18 مليون برميل تشكل نحو خمس الإنتاج اليومي العالمي. وضمن هذه المعطيات تمتلك دول الخليج طاقة إنتاجية هائلة تدر عليها سيولة ضخمة، لكن في ظل الاعتماد على الحماية العسكرية الأجنبية، وخصوصاً الأميركية، تبقى الثروات الضخمة في حالة تهديد دائم. ولا تكفي النظرة الكلاسيكية بتصوير الخطر الإيراني وطموحات التوسع العسكري لطهران على أنه التهديد الوحيد، إذ إن أي مواجهة مستقبلية بين الصين والولايات المتحدة ستكون لها تداعياتها على أمن الخليج وبالتالي على الأمن العربي.
تستورد الصين نحو 40 بالمائة مما تحتاجه من الطاقة من دول الخليج العربي وإيران، وهي في حالة احتياج دائم للطاقة لإدامة ماكينة الإنتاج الصناعي الهائل لبكين. ولكن مع طموحات الصين في بحرها الجنوبي وإثبات نفسها كقوة إقليمية مهيمنة ومن ثم قوة عالمية تتجه لكي تكون أكبر اقتصاد في العالم، قد يكون الخليج العربي ضمن أي مواجهة قادمة بين بكين وواشنطن، وليس بالضرورة أن تكون تلك المواجهة عسكرية. ربما تكون دول الخليج مطالبة في المستقبل بالاختيار بين بكين وواشنطن، ولا تخفي واشنطن انزعاجها من تطور العلاقات بين الخليج والصين، وقد مارست ضغوطات كبيرة على دول خليجية لوقف تطوير التعاون العسكري مع الصين، فإذا ازداد منسوب التوتر بين واشنطن وبكين إلى درجة ما نشهده حالياً من الصراع بين موسكو وواشنطن، هل ستمتلك دول الخليج هامش المناورة الحالي في المستقبل؟
كذلك، إن ارتدادات صراع الطاقة لا تطاول فقط الدول الخليجية في العالم العربي، بل تمس الدول التي تعتمد على النمط الاقتصادي الحالي في الخليج العربي، وخصوصاً الدول التي تصدر العمالة الماهرة، وخصوصاً مصر والأردن ولبنان، إذ تعتمد اقتصادات تلك الدول بشكل كبير على تحويلات المغتربين والذين يعملون بشكل أساسي في الخليج.
في الخلاصة، أمن الطاقة موضوع ملحّ لصياغة استراتيجية أمن القومي لأي دولة كان، ويغدو هذا الموضوع شديد الأهمية للدول العربية، وخصوصاً المشرقية منها، ودون استراتيجية تبني اقتصاداً متنوّعاً حقيقياً يقلل الاعتماد على النفط ويستثمر في مجال الطاقة البديلة والمتجددة، فإن المستقبل يحمل مخاطر جمة لدول المنطقة.