توصّلت الأجهزة الأمنية الفرنسية، بعد أسابيع طويلة من التحقيقات، إلى معرفة الانتحاري الثالث الذي فجّر نفسه في مسرح باتكلان برفقة سامي عميمور وعمر إسماعيل مصطفاي، وهو فؤاد محمد عقاد البالغ 23 عاماً من العمر. وتُظهر قراءة لمسيرة حياته كيف تحوّل هذا الشاب الفرنسي العادي، إلى "جهادي" في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، قبل أن يفجّر نفسه في اعتداءات باريس.
وُلد فؤاد محمد عقاد في قرية صغيرة تدعى ستينسيلتز في ضاحية مدينة ويسمبورغ على بُعد حوالي 60 كيلومتراً من مدينة ستراسبورغ، عاصمة إقليم الألزاس المحاذي للحدود الألمانية. وهو سليل أم مغربية وأب جزائري، وتربى برفقة شقيقتين وأخ أكبر في كنف الأم بعد طلاق والديه، في حي شعبي يقطنه خليط كبير من الجاليات العربية والإسلامية، خصوصاً المغاربة والأتراك. وحتى بلوغه سن الرشد كان فؤاد شاباً عادياً يشبه الكثير من أقرانه من العرب الفرنسيين. كان عاشقاً للعبة كرة القدم ويحب السهر ويتناول الخمر وأيضاً المخدرات، ولم يكن متعلقاً بالدين أو ممارسة الصلاة. ويتذكر العديد من أصدقائه في شهاداتهم لوسائل الإعلام الفرنسية بأنه كان "شخصاً ودوداً وذكياً"، على الرغم من أنه كان ميالاً للغضب السريع والعنف عندما يتعكر مزاجه. وفي المقابل لم تكن له أية مشاكل مع الشرطة أو القضاء، ويتمتع بسجل عدلي أبيض لكونه لم يتورط أبداً في مخالفات الحق العام وقضايا المخدرات والسرقة والاعتداء، مثلما يحدث للعديد من أبناء الضواحي ذوي الأصول المغاربية.
توقف عقاد عن متابعة الدراسة في ثانوية تقنية قرب ستراسبورغ، وشرع في ممارسة مهن هامشية ومؤقتة لتوفير مصروفه أسوة بأقرانه. ويحكي بعض أصدقائه أنه أصيب بخيبة شديدة عندما تم رفض طلب التحاقه بالشرطة ثم بالجيش، وكان يكرر لمعارفه بأن هذا الرفض كان بسبب أصوله المغربية ومبنياً على موقف عنصري.
بدأت معالم تحوّل جذري تظهر على عقاد في مستهل عام 2012، وشرع يتردد بانتظام على مسجد الحي وأطلق لحيته وصار يرتدي لباساً إسلامياً ويضع شالاً أبيض على رأسه حين يقصد المسجد. ويتذكر رئيس المركز الإسلامي التركي في ويسمبورغ، بأنه اضطر لطرده من المسجد بعد أن طالب بالسماح له بتأدية الصلاة في قاعة بمفرده، لأن ذلك كان يعني بأنه يعتبر المصلين الآخرين "أشخاصاً ضالين".
ويعتقد المحققون أن عقاد اعتنق الأفكار الجهادية المتطرفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعرّف على شخص يدعى مراد فارس ويطلق على نفسه اسم أبو حسن، وهو ناشط جهادي فرنسي معروف بدعوته للجهاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي واعتقلته السلطات الفرنسة عام 2014 بتهمة التحريض على الجهاد والإرهاب، وثبت للمحققين أن العديد من الشبان الفرنسيين المتورطين في قضايا الجهاد كانت لديهم علاقة به.
تغيّر سلوك عقاد بشكل جذري وصار يقضي جل أوقاته في تصفّح المواقع الجهادية وفي تتبّع أخبار تنظيم "داعش" والنهل من أدبيات التنظيم الدعائية. وبفضل هذا النشاط الالكتروني، تعرّف عقاد على مجموعة من الشباب المتعاطفين مع "داعش" من أبناء حي مينو في ضاحية ستراسبورغ، وبدأت الجماعة تعقد اجتماعات دورية في مقهى لتبادل الحديث حول أخبار الجماعات الجهادية والأوضاع في سورية والعراق.
اقرأ أيضاً: منفّذو اعتداءات باريس... أصحاب سوابق يسرحون في مدن أوروبا
عام 2013، قررت المجموعة أن تقوم برحلة جماعية إلى سورية للالتحاق بتنظيم "داعش" والقتال في صفوف الجهاديين. وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، توجّه فؤاد برفقة أخيه كريم وثمانية أشخاص آخرين إلى تركيا ثم عبروا إلى سورية تحت غطاء العمل الإنساني برفقة جمعية إغاثة تركية. في مكان قرب مدينة حلب، تفرّق شمل المجموعة بسبب الغارات الجوية. ولاحقاً تأكد المحققون الفرنسيون أن عضوين من المجموعة، الأخوين مراد وياسين بو جلال، قُتلا في غارة للتحالف الدولي شمال سورية، وأن سبعة أشخاص من المجموعة من بينهم كريم عادوا إلى فرنسا في ربيع العام 2014 لأنهم لم يتحملوا الأوضاع هناك، كما صرحوا في محاضر استجوابهم مع الأجهزة الفرنسية التي اعتقلتهم فور عودتهم.
أما فؤاد فقد كان الشخص الوحيد من المجموعة الذي قرر البقاء في سورية، وأبدى حماساً كبيراً في القتال في صفوف "داعش"، حتى أنه تزوج في مدينة الرقة وأنجب طفلة وأبلغ والدته في رسالة بأنه لا ينوي العودة أبداً إلى فرنسا وأنه يفضّل الشهادة وتفجير نفسه في عملية انتحارية.
وعثر المحققون لاحقاً في حاسوب كريم على رسالة إلكترونية من أخيه فؤاد يقول فيها: "إذا عدتُ إلى فرنسا فلن أعلن ذلك كي أدخل السجن، بل من أجل تفجير كل شيء. فلا تحاولوا إقناعي بالعودة". وابتداءً من أغسطس/ آب عام 2014 كفّ فؤاد عقاد نهائياً عن التواصل مع أفراد عائلته في فرنسا.
وبعد التحقيقات مع أفراد المجموعة العائدين إلى فرنسا وتوصّل الأجهزة الأمنية إلى تشخيص دقيق لشخصية فؤاد عقاد، عمدت السلطات إلى تصنيف هذا الأخير في خانة "سين" الخاصة بالأشخاص المشتبه في اعتناقهم للأفكار الجهادية وتشكيلهم خطراً على الأمن الفرنسي. لكن فؤاد كانت لديه خطته بالتنسيق مع عبد الحميد أبا عود، العقل المدبّر لاعتداءات باريس، والذي كان يخالطه في معسكر لتدريب المقاتلين الأجانب في الرقة. هكذا تمكّن عقاد في مستهل نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي من العودة سراً إلى فرنسا بوثائق هوية مزورة، ليشارك في اعتداءات 13 نوفمبر/ تشرين الثاني ضمن مجموعة المسلحين التي اقتحمت مسرح باتكلان وقتلت 90 شخصاً، وفجّر نفسه بعد تدخّل القوات الخاصة. وقضت الأجهزة الفرنسية ثلاثة أسابيع كاملة من دون التوصل إلى معرفة هويته، وحتى تحليلات الحمض النووي على أشلاء جثته لم تفد في البداية المحققين لعدم توفرها على بصمات فؤاد الجينية.
والأسبوع الماضي قامت فاطمة أغاد، والدة فؤاد، بالاتصال بالسلطات بعد تلقيها رسالة هاتفية قصيرة من زوجة فؤاد في سورية تنذرها بأن "فؤاد مات شهيداً مع إخوانه في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني". وبفضل تحاليل جينية ومقارنة بين بقايا جثة فؤاد وبصمات الأم والأخ، تمكّن المحققون أخيراً من حل لغز الانتحاري الثالث منفذ مجزرة مسرح باتكلان.
اقرأ أيضاً: شجرة عائلة خلايا فرنسا... سلسلة أخطبوطية تُنهك أجهزة الأمن