فانسان بولوريه... اليميني المحافظ صانع أسطورة إريك زيمور

11 يونيو 2022
بولوريه خلال جلسة استماع في البرلمان، يناير الماضي (دانيال بييه/Getty)
+ الخط -

قناة "سي نيوز" الفرنسية تواصل الحملة الانتخابية الرئاسية الفرنسية بأشكال أخرى، على الرغم من انتهاء الحدث في 24 إبريل/ نيسان الماضي، وخسارة مرشحها إريك زيمور في الجولة الأولى في 10 إبريل، في الوقت الذي كان يطمح فيه للصعود إلى الجولة الثانية لينافس الرئيس إيمانويل ماكرون ويهزمه.

وبعدما عملت القناة على مدى أكثر من عامين على صناعة أسطورة زيمور، فقد خسرت الرهان على ولادة مدوية للنجم الذي أرادته أن يسطع بصورة تخطف الأنظار والقلوب، ويشع طويلاً في الحياة الفرنسية كمبشر بثقافة الكراهية وداعية إلى استنفار شامل ضد الجاليات المسلمة في هذا البلد، الذي يشكل فيه الإسلام الديانة الثانية، بعد المسيحية الكاثوليكية.

تعود ملكية القناة إلى رجل الأعمال الفرنسي فانسان بولوريه، الذي يحتل المرتبة العاشرة بين أغنياء فرنسا بثروة تتجاوز 5 مليارات يورو، كوّنها من العمل التجاري في أفريقيا، من خلال العمل في مشاريع البنى التحتية في الموانئ والسكك الحديدية والطرقات خاصة.

وبدأ منذ قرابة 15 عاماً محاولات الاستحواذ على وسائل الإعلام الفرنسية بدعم من الرئيس الفرنسي الأسبق، الذي يميل نحو اليمين المحافظ، نيكولا ساركوزي، الذي أصبح من بين أصدقائه المقربين بعدما وصل إلى الإليزيه في عام 2007.

ويمتلك بولوريه اليوم كلياً، أو يحوز على حصة كبيرة في قنوات تلفزيونية (كانال بلوس، سي 8، سي نيوز) ومحطات إذاعية (أوروبا 1، فيرجين) وصحف (باري ماتش، جورنال دي ديمانش، كابيتال، جيو، فام أكتويل، كلوزر، فواسي) ودور نشر كبرى (إيديتيس، لاهاشيت، غراسّي، ستوك، بلون، روبير لافون، فايار، كالمان ليفي، كتاب الجيب).

كما يملك بولوريه شركة "فيفندي" المتخصصة في الميديا والتواصل، و"هافاس" التي تتزعم عالم الإعلانات، ومعهد استطلاعات الرأي "سي إس إي". وهناك أخبار متداولة عن محاولات يقوم بها للاستحواذ على قناة "إم 6" وجريدة "لوفيغارو"، لبسط هيمنته على أوسع مساحة من المشهد الإعلامي في فرنسا.

وعلى الرغم من أنه يصور الأمر من باب الاستثمار التجاري الخالص، فإن الهدف الرئيسي يصبح مكشوفاً حين يطغى على بعض وسائل الإعلام خطاب يميني متشدد معادٍ للإسلام، ما يثير جدلاً واسعاً حول مدى استقلالية وسائل الإعلام من جهة، وحرية الرأي في بلد بات فيه الإعلام يخضع لسطوة المجموعات الرأسمالية الكبرى، صاحبة الطموح للاستثمار في الميديا من جهة ثانية.

صناعة زيمور وخطابه

هناك إجماع على أن أكثر وسائل الإعلام في فرنسا صراحة ومباشرة في نشر خطاب الكراهية والعداء للإسلام هي قناة "سي نيوز"، التي شكّلت منصة انطلق منها زيمور، ويمكن اعتبارها السلاح الذي يطلق النار على مدار الساعة ضد المسلمين في فرنسا.

ولذلك وظفت جملة من المعلقين الذين ينفذون خطة تحريرية محكمة، عبّرت عنها الخطوط العريضة لبرنامج زيمور الذي ترشح على أساسه للانتخابات الرئاسية، وعلى هذه القناة بنى سمعته السيئة باعتباره مجادلاً يمينياً متطرفاً، يتبنى ثقافة الكراهية للمسلمين وازدراء اليسار، وانطلق ليصبح مرشحاً رئاسياً.

وهناك إجماع في الأوساط الإعلامية والسياسية على أن صاحب القناة أراد أن يجعل منها رأس حربة في الحملة الرئاسية، لبث خطاب سياسي رجعي ومحافظ، ولم يكن عملاً بريئاً استضافة زيمور ومنحه منبراً على مدى عامين، فكانت بمثابة منصة انطلاق، وكان في حسابه أن تصبح قناة "سي نيوز" الفرنسية نسخة عن قناة "فوكس نيوز" الأميركية، وزيمور دونالد ترامب فرنسا.


قناة "سي نيوز" هي أكثر وسائل الإعلام عداءً للمسلمين

وفي يناير/ كانون الثاني الماضي خضع بولوريه لاستجواب من قبل لجنة شكلها مجلس الشيوخ الفرنسي حول "مركزة وسائل الإعلام"، وطرح عليه السؤال حول المساحة التي أتاحها لزيمور على قناة "سي نيوز"، رغم الإدانات المتعددة التي تعرض لها بسبب التحريض على الكراهية.

وكان رد الملياردير الذي لاحقته تهم فساد في أفريقيا، أنه يدافع عن "حرية التعبير"، وزعم "عدم ممارسة السياسة"، مشيراً إلى أن المرشح الرئاسي زيمور سبق له الظهور في القنوات والصحف المنافسة.

ولكن تثار المشكلة حين يكون على قناته فقط. وفي زلة لسان أثارت جدلاً قال "لم يكن أحد يعلم أنه سيكون رئيساً للجمهورية"، مدعياً أنه تناول الغداء مع زيمور مرة واحدة فقط عندما أراد أن يصارحه بالعمل في القناة، وشدّد على أن "قدرتي الشخصية على فرض الأشياء ليست مهمة للغاية". وقالت صحيفة "لوموند" إنه استدعي من قبل مجلس الشيوخ، ومع أنه أدى اليمين، فهو قدم شهادة زور يعاقب عليها القانون.

"زلة نبوية"، علّق إريك زمور مازحاً، حينما وجه تحية لبولوريه، ووصفه بـ"الوطني الذي يريد الدفاع عن فرنسا"، وفي عدة كلمات رسم له بورتريه معبّراً "رجل لديه إحساس بالرسالة، ويدرك تماماً خطر الحضارة الذي ينتظرنا، وهو استبدال الحضارة".

والمقصود من ذلك أطروحة زيمور المعروفة القائمة على "الاستبدال"، التي تشير إلى التبدل في الخريطة الديمغرافية لفرنسا، بسبب الهجرة، والتي ستؤدي بحسبه في نهاية المطاف إلى استبدال شعوب عربية ومسلمة، تنتشر وتحتل هذه البلدان بحكم التفوق العددي، بالشعوب البيضاء.

ولهذا السبب أطلق على حركته السياسية اسم "الاسترداد" بترحيل خمسة ملايين عربي ومسلم يحملون الجنسية الفرنسية، لأنه يعتبر أن هؤلاء يعيشون منغلقين على أنفسهم، ولديهم قانونهم المدني المستمد من القرآن، ومن غير المستبعد أن يأتي يوم يقوم فيه هؤلاء بإعلان دولتهم على الأراضي الفرنسية.

وفي تحقيق موسع أجرته صحيفة "لوموند" قبل عام تحت عنوان "كيف يعبئ بولوريه إمبراطوريته الإعلامية للتأثير على الانتخابات الرئاسية؟"، وصفته بـ"القطب الرجعي"، الذي بنى شبكة تمتد من السمعي البصري إلى النشر، ووقفت عند زيمور، الذي طغى هوسه بالهوية ومعاداة الإسلام على النقاش العام.

وكشفت "لوموند" عن مأدبة عشاء جمعت بين بولوريه وماكرون وساركوزي وزوجاتهم. وكان الجو ودياً، والتقطت زوجة ساركوزي، كارلا بروني، بعض الصور، ولكن بعد تبادل الحديث، جرى تقديم الطعام على نحو سريع ما يوحي بتحول الجو إلى الجليدي.


انتقد ماكرون بولوريه لنزعته الاستحواذية على وسائل الإعلام

وذكرت الصحيفة أن غضب بولوريه كان متأججاً منذ عدة أشهر، بسبب الانتقادات التي يوجهها له ماكرون لنزعته الاستحواذية على وسائل الإعلام، وتدخله في صناعة نجوم سياسيين يهددون مواقعه، في حين أن بولوريه يقدّم نفسه على أنه رجل لا يبهره الحكام.

فعندما كان مراهقاً استقبل الرئيس اليميني جورج بومبيدو برفقة والديه الصناعيين اللذين يتحدران من منطقة بروتاني الواقعة على المحيط الأطلسي، كما استقبل الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران في منزله، في منطقة فينيستير.

واعتبرت الصحيفة أنه التقى بجميع رؤساء الجمهورية الخامسة تقريباً، وعدا ذلك، فهو يتم استقباله باحترام كرئيس دولة في بعض البلدان الأفريقية أو في آسيا.

وربما كان هذا هو السبب في أنه لم يهضم عبارة السيدة الفرنسية الأولى بريجيت ماكرون، حين أرادت أن تكون لطيفة: "كيف يمكننا مساعدتك؟".

وكان الجواب جافاً جداً في صيغة مهذبة: "شكرا لك سيدتي. لا شيء"، وهو لا يعلم أن زوجة الرئيس تطرح هذا السؤال على زوارها بشكل طقسي، وكأن زوجها قادر على تسوية كل شيء، وهذه الكلمات غير المؤذية وجدت صدى له كإهانة، على حد قوله.

شعور بولوريه بهجوم الإليزيه عليه

ويشعر بولوريه بأن الإليزيه يحاول "مهاجمته" أكثر من مساعدته، والسبب في ذلك واضح وهو الدور السياسي الذي يحاول أن يؤديه من خلال التأثير في الرأي العام، وصناعة نجوم يؤدون هذه الوظيفة.

وهذا ما يمكن ملاحظته بصراحة على منصة قناة "سي نيوز" التي تبث خطاباً واحداً فقط يضع الإسلام والمسلمين هدفاً له، ويحضر على هذه المنصة صحافيون مثل المصري جورج مسيحة، الذي بدأ نشاطه السياسي قبل عشر سنوات في حزب "التجمع الوطني" العنصري بقيادة مارين لوبان، وانضم إلى حركة زيمور وعمل ناطقاً باسمه خلال حملة الانتخابات الرئاسية، ولكنه غادر الحزب بمجرد خسارة زيمور.

واللازمة التي لا تفارق مسيحة هي أن "الجذور اليهودية المسيحية لفرنسا"، هي التي ستحمي البلاد من العنصرية وتضع حداً لوصول الهجرة غير المنضبطة من شمال أفريقيا، وأن يشكل اليمين المتطرف دور الحصن ضد العنصرية.

ومن بين المعلقين الدائمين، المحامي الفرنسي الإسرائيلي جيل وليم غولناديل، الذي تقدمه الميديا الفرنسية على أنه يميني محافظ، وأبان عن ذلك صراحة منذ عدة أعوام، وصرح عام 2010 بأن خطر العنصرية في فرنسا لا يأتي من حزب "الجبهة الوطنية" (الاسم السابق للتجمع الوطني) العنصري، بل من الشباب المسلمين.

ومنذ ذلك الوقت صار من مؤيدي خطاب لوبان، التي واجه حزبها دعوات قضائية تحت بند معاداة السامية، وسبق أن تعرض والدها جان ماري لوبان لأكثر من محاكمة في فرنسا بسبب إنكار الهولوكوست. ويعد غولناديل أحد أشهر المحامين في فرنسا الذي رفع دعاوى قضائية ضد مؤيدي القضية الفلسطينية كأفراد أو مؤسسات.

خطورة بولوريه تكمن في أنه يوفر أكثر من منصة لليمين العنصري ذي المنابع المختلفة، والذي يلتقي عند كراهية الإسلام، وتكبر الخطورة حين يتحول هذا الخطاب إلى مجرد حق في التعبير.

إعلام وحريات
التحديثات الحية