لم يمض وقت طويل على الانسحاب الأميركي من أفغانستان، في أغسطس/آب الماضي، بعد عقدين على أطول الحروب الأميركية في الخارج، حتى أطلّ انسحاب غربي آخر برأسه، مع إعلان فرنسا وحلفائها الغربيين، أمس الخميس، قرار مغادرة مالي، بعد حوالي عقد من التواجد الفرنسي في هذا البلد الواقع في منطقة الساحل الأفريقي، لمحاربة الإرهاب. ويتشابه الانسحابان في الكثير من العناصر، على الرغم من التاريخ الاستعماري الثقيل لفرنسا في القارة السمراء.
فشل سياسي لا عسكري
وليس الحديث، بالضرورة، أكيداً، عن انسحاب "مذّل" من مالي، للقوات الفرنسية العاملة في إطار مهمة "برخان"، تحت أعين السلطات العسكرية التي أمسكت بالحكم في باماكو، أو عن فشل عسكري أو تكتيكي صرف.
فكلتاهما، الولايات المتحدة وفرنسا، قد حقّقتا الكثير من أهدافهما، طوال مدة إقامة قواتهما في أفغانستان ومالي، ووجّهتا ضربات قوية للمتطرفين، وتمكنتا من التمركز في مناطق استراتيجية في العالم لوقت طويل.
ونفّذت فرنسا آخر ضرباتها القوية، قبل إعلان الانسحاب، بداية شهر فبراير/شباط الحالي، مع قتل 30 "جهادياً" في منطقة ليبتاكو، ثم 50 "جهاديا" في بوركينا فاسو.
وكانت الضربات الفرنسية قد قضت على أمير تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، عبد الملك دروكدال، في 2020، ثم زعيم "داعش" في الصحراء الكبرى، عدنان أبو الوليد الصحراوي، بالإضافة إلى عدد كبير من كبار أعضاء الجماعات المتطرفة في المنطقة.
لكن لا مجال لعدم الاعتراف بالفشل السياسي لباريس في مالي، على غرار واشنطن في كابول، ليرسم معلماً إضافياً من معالم التحولات في موازين النظام العالم التقليدي.
وتضافرت كل الظروف، في الإعلان الفرنسي، ليكون عنواناً لفشل سياسي فرنسي، من المطامع الغربية، إلى الفساد، وسوء التقدير الجسيم في التعامل مع حيثيات المجتمع المحلي على الأرض، وخطأ استشراف ومعالجة المسببات التي جعلت "الإرهاب"، سواء في أفريقيا (أو أفغانستان)، متمدداً، ويستفيد من النفور الشعبي المتصاعد من التواجد العسكري الغربي.
تحولت مواقف الحكام العسكريين الجدد في مالي إلى عدائية تجاه باريس
وتحولت مواقف الحكام العسكريين الجدد في مالي إلى عدائية تجاه باريس، مستفيدة من هذه الظروف، وسط تعالي السخط الشعبي من مهمة فرنسية، يثير الماليون الكثير من الأسئلة حول أهدافها منذ تدخلها في شمالي البلاد المطالب بالانفصال. وتوج ذلك بطرد السفير الفرنسي جويل ميير، من باماكو، في يناير/كانون الثاني الماضي.
فرنسا تعلن الانسحاب من مالي
وأعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون، أمس الخميس، رسمياً، انسحابهم من مالي، تحت ضغط "العقبات" المتعددة التي تضعها السلطات العسكرية الانتقالية في هذا البلد، مؤكدين استمرار التزامهم لدى دول منطقة الساحل الأفريقي وخليج غينيا.
وذكرت باريس وشركاؤها في قوة "تاكوبا" الأوروبية، وكندا المشاركة بالعمليات العسكرية في مالي، في بيان مشترك، أنه نظراً لهذه العقبات، ترى هذه الدول "أن الشروط لم تعد متوافرة لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعّال في مكافحة الإرهاب في مالي، وقرّرت بالتالي بدء انسحاب منسّق من الأراضي المالية لوسائلها العسكرية المخصصة لهذه العمليات".
وجاء الإعلان من الإليزيه قبيل قمة أفريقية ـ أوروبية في بروكسل. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن الانسحاب، وإلى جانبه كل من رئيس السنغال ماكي سال، ورئيس غانا نانا أكوفو غادو.
وسعى ماكرون، الذي يتحضر للإعلان عن عزمه الترشح لولاية رئاسية ثانية، في انتخابات فرنسا الرئاسية المقرر إجراء دورتيها في نيسان/إبريل المقبل، إلى إظهار أن الانسحاب جاء بقرار جماعي، مع وضعه في إطار عملية إعادة انتشار، على أن يبقى المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، والذي يشكل نقطة الوصل والعبور والتمدد للمجموعات "الجهادية" المتطرفة، تحت مجهر المراقبة العسكرية الفرنسية، مع تحول عدد كبير من القوات المنسحبة من مالي، إلى النيجر.
وأعطى ماكرون بعداً أوسع لعملية الانتشار هذه، مع الحديث عن الدعم الذي ستقدمه القوات الفرنسية إلى دول منطقة خليج غينيا، وهي ساحل العاج وغانا وتوغو وبنين، علماً أن فرنسا لا تزال تحتفظ بقوة عسكرية فعّالة في تشاد والنيجر والسنغال وساحل العاج.
وحول كيفية تنفيذ الانسحاب، أوضحت هيئة الأركان الفرنسية أن نحو 2500 إلى ثلاثة آلاف جندي فرنسي سيبقون منتشرين في منطقة الساحل، بعد انسحابهم من مالي بغضون حوالي ستة أشهر.
وقال المتحدث باسم هيئة الأركان العامة، الكولونيل باسكال إياني، إن 4600 جندي فرنسي ينتشرون حالياً في منطقة الصحراء والساحل، بينهم 2400 جندي في مالي، لافتاً إلى أنه "في نهاية الانسحاب سيبلغ عددهم 2500 إلى ثلاثة آلاف عنصر".
ورفض الرئيس الفرنسي، الذي كان جمع قادة أفارقة أول من أمس، إلى جانب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، حول عشاء "وداعي"، الحديث عن "فشل" لمهمة "برخان" الفرنسية في مالي، والتي كانت تلت في عام 2014، عملية "سرفال" التي أطلقها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند في بداية عام 2013 (بعد قرار من مجلس الأمن الدولي)، للاستجابة إلى نداء مالي، لطرد المسلحين المتطرفين من شمال مالي (إقليم أزواد).
ماكرون يلقي اللوم على "فاغنر"
وألقى ماكرون باللوم كلّه في قرار الانسحاب، على أجندة حكّام مالي العسكريين الجدد، الذين يقودهم الكولونيل أسيمي غويتا، والذي نفّذ انقلابين في مالي منذ أغسطس/آب 2020، ويرفض إجراء انتخابات في البلاد قريباً.
كما ربطت باريس الانسحاب بدخول مرتزقة من شركة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة، إلى مالي، والتي تعد الذراع العسكرية الخفية للتمدد الروسي المتصاعد في الخارج.
وقال ماكرون أمس، إن بلاده وشركاءها الأوروبيين لا يشاطرون المجموعة العسكرية الحاكمة في مالي "استراتيجيتها ولا أهدافها الخفية".
وأضاف: "لا يمكننا أن نظل ملتزمين عسكرياً إلى جانب سلطات أمر واقع لا نشاطرها استراتيجيتها ولا أهدافها الخفية. هذا هو الوضع الذي نواجهه اليوم في مالي. لا يمكن ولا يجب أن تبرر مكافحة الإرهاب كل شيء، بحجة أنها أولوية مطلقة تحولت إلى محاولة للاحتفاظ بالسلطة إلى أجل غير مسمى".
وفي شأن آلية الانسحاب، أوضح الرئيس الفرنسي أن العسكريين الأوروبيين الذين يشاركون في "تاكوبا" المؤلفة من قوات خاصة أوروبية "سيعاد تموضعهم إلى جانب القوات المسلحة للنيجر في المنطقة الحدودية لمالي"، مؤكداً أن الانسحاب سيجري "بطريقة منظمة مع القوات المسلحة المالية وبعثة الأمم المتحدة في هذا البلد (مينوسما)".
وأضاف ماكرون: "سنغلق بالتالي تدريجياً في إجراء سيستغرق 4 إلى 6 أشهر، القواعد الموجودة في مالي. خلال هذا الوقت، سنواصل مهام الحفاظ على الأمن" مع بعثة مينوسما الأممية.
واعتبر ماكرون أن المسألة هي "إعادة تركيز على طلبات شركائنا حيث ينتظرون مساهمتنا على شكل دعم، وفي تحقيق مزيد من التكامل"، مضيفاً أن بلاده "ستحدد في الأسابيع والأشهر المقبلة الدعم الذي ستقدمه لكل من دول المنطقة على أساس الاحتياجات التي تعبر عنها"، موضحاً أن هذا الدعم يمكن أن "يشمل المساعدة في التدريب وتوريد المعدات وحتى دعم عملياتها ضد الإرهاب".
نحو 2500 إلى 3 آلاف جندي فرنسي سيبقون منتشرين في منطقة الساحل، بعد انسحابهم من مالي بغضون 6 أشهر
وأعرب ماكرون عن "رفضه بشكل كامل" فكرة فشل باريس في مالي، متسائلاً: "ماذا كان سيحدث في عام 2013 لو لم تتدخل فرنسا؟ كنّا سنشهد بالتأكيد انهياراً للدولة المالية"، مؤكداً أن "جنودنا حققوا نجاحات عدة".
وبعدما كانت تدخلت عسكرياً بإطار عملية "سرفال" لوقف تقدم المسلحين المتطرفين من شمال مالي، والذين كانوا يهددون العاصمة باماكو، حوّلت فرنسا مهمتها إلى عملية "برخان" (وتعني كثيباً رملياً بشكل هلال يتشكل في اتجاه الريح) الأوسع في المنطقة، في عام 2014، لمكافحة "الجهاديين".
شكوك حول المرحلة المقبلة
وفيما تحاول باريس وضع الانسحاب في إطار عملية إعادة انتشار، تحوم الشكوك حول فعالية الدور العسكري الفرنسي المقبل.
ويأتي ذلك مع تقليص القوات الفرنسية المنتشرة في المنطقة لعديدها، فيما تظلّ مالي مركز العمليات "الثقيلة" للقوات الفرنسية، الاستخبارية والعسكرية. كما تطرح تساؤلات حول المدى الذي ستقدمه باماكو في مجال التعاون الاستخباري ومستقبل التحالف العسكري لمجموعة دول الساحل الخمس (مالي، بوركينا فاسو، النيجر، موريتانيا وتشاد)، في ظلّ الانقلابين في مالي وبوركينا فاسو.
ويخشى مراقبون أن تتحول مالي إلى مركز ثقل للمجموعات المتطرفة، التي تدور في فلك كل من تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، بعد الانسحاب الفرنسي، مستفيدة ليس فقط من هذا الانسحاب، بل من إمكانية إجراء عسكر مالي صفقة أو حواراً معها، وهو أمر كان اعترض عليه الفرنسيون، بعد طرحه من قبل الرئيس المالي المخلوع (والراحل) أبو بكر إبراهيم كيتا.
كما يخشى المتابعون من موجة هجرة قوية من دول الساحل إلى الشواطئ الأوروبية، في ظلّ ظاهرة الانقلابات التي عادت لتطل في أفريقيا، والتراجع الأمني المستمر، والمجازر التي ترتكبها الجماعات المتطرفة.
وكانت العملية الفرنسية في مالي، قد كلّفت فرنسا حياة 54 جندياً منذ عام 2014، فيما قتل 10 آلاف ومئتي مواطن مالي، بأعمال العنف في البلاد، منذ 2015.
وفضلاً عن تداعيات الانسحاب على محاربة الإرهاب، فإن ارتفاع الاحتقان الشعبي في مالي، ضد التواجد الفرنسي، وتعالي الخطاب "السيادي" الذي يستخدمه ويستغله العسكر، لتبرير ابتعادهم عن فرنسا، ورفضهم المتزايد لدورها، لا يخفى أن مالي، التي كانت على غرار أفغانستان، فرصة لـ"قصة نجاح" غربية، ستتحول إلى دولة "فاشلة"، تديرها طغمة عسكرية، تؤمن حمايتها قوات المرتزقة الروس، التي أصبحت متواجدة في أكثر من بلد أفريقي، من ليبيا إلى أفريقيا الوسطى.
يخشى مراقبون أن تتحول مالي إلى مركز ثقل للمجموعات المتطرفة
واعتبر ماكرون أمس أن مجموعة "فاغنر"، التي بدأ يتكشف دخولها مالي، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، موجودة في مالي خدمة "لمصالحها الاقتصادية" ولضمان أمن المجلس العسكري الحاكم في باماكو.
وأكد الرئيس الغاني نانا أكوفو غادو، أمس، من جهته، أن القوة الأممية في مالي يجب بقاؤها، علماً أنها ليس قوة تدخل، على غرار "تاكوبا"، التي يبلغ عديدها حوالي 800 جندي، وغير مخولة "إطلاق النار".
من جهته، قال الرئيس السنغالي ماكي سال إنه يتفهم القرار الفرنسي، مؤكداً أن حصل على تطمينات بأن الحرب على الجماعات الإرهابية ستتواصل. وكانت فرنسا قد فشلت أيضاً في دفع الدول الأفريقية المنخرطة في جهود محاربة الإرهاب، إلى الاعتماد على نفسها عسكرياً، على الرغم من الميزانية الكبيرة التي خصصّتها لمهمات التدريب، علماً أن مهمة "برخان" قد كلّفت فرنسا 5 مليارات يورو منذ 2014.
وأعلن مفوض السياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أمس، أن الاتحاد "سيتحقق ما إذا كانت الشروط والضمانات متوافرة لإبقاء مهمات التدريب التي يقوم بها في مالي بعد الانسحاب العسكري لفرنسا وشركائها من هذا البلد".
وقال بوريل: "أوفدت بعثة إلى مالي للتحقيق مع السلطات المالية بأي شروط وبأي ضمانات سنتمكن من التفكير في احتمال إبقاء أو عدم إبقاء عمل بعثة التدريب".
من جهتها، أعربت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبريخت، عن "شكوك" حيال تمديد مهمة الجنود الألمان في مالي بعد الإعلان عن الانسحاب الفرنسي، معتبرة أن "السؤال هو معرفة ما إذا كنّا نصل إلى أهدافنا السياسية، أي من ندعم ومن ندرب".
وبشأن بعثة الأمم المتحدة، حذّرت الوزيرة الألمانية من أنه يجب "السعي بشكل طارئ إلى حل"، إذا "تخلفت القدرات الفرنسية"، علماً أن البرلمان الألماني (البوندستاغ) سيقرر في مايو/أيار المقبل، ما إذا كان الجيش الألماني سيواصل مهمتيه في مالي، في إطار القوة الأممية وبعثة تدريب الاتحاد الأوروبي.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)