تنذر التطورات المتلاحقة في باكستان، التي تعيش أزمة اقتصادية خانقة ووضعاً أمنياً ضاغطاً، بصدامٍ إضافي في البلاد، حيث يشتد أيضاً الصراع السياسي، وسط اتهامات للمؤسسة العسكرية بالتدخل فيه من وراء الكواليس، والسعي للحفاظ على سطوتها على الساحة السياسية بشكل غير مباشر. والجديد، اليوم، هو الصراع الدائر بين المؤسسة القضائية وحكومة شهباز شريف المدعومة من الجيش، ما قد يزيد الوضع الداخلي توتراً خلال هذه الفترة الحسّاسة والعصيبة.
الحكومة الباكستانية تتحدى قرارات المحكمة العليا
واشتد الصراع بين الحكومة الباكستانية ومؤسسة القضاء أخيراً، بعدما رفضت الأولى أمر المحكمة العليا الصادر في الأول من مارس/ آذار الماضي، والذي قضى بوجوب إجراء الحكومة الانتخابات المحلية في إقليمي البنجاب وخيبربختونخوا.
أكدت لجنة الانتخابات أن الانتخابات في الإقليمين لا يمكن إجراؤها في الوقت الحالي
واعتبرت اللجنة القضائية الخاصة، التي ترأسها رئيس المحكمة العليا القاضي عمر عطا بنديال، أنه ينبغي على الحكومة، وفق الدستور، إجراء هذه الانتخابات خلال 90 يوماً بعد تاريخ حلّ البرلمان في كلا الإقليمين. لكن حكومة شهباز شريف وصفت قرار المحكمة بغير الصائب، واعتبرت أن بنديال انحاز إلى رأي رئيس الوزراء الباكستاني السابق وزعيم حزب "حركة الإنصاف" عمران خان.
ومنذ أن أصدرت المحكمة العليا قرارها هذا، انهالت عليها الانتقادات الشديدة من قبل الوزراء في الحكومة والقياديين في التحالف الحاكم، وعلى رأسهم شهباز شريف، ووزير الدفاع خواجه آصف، ووزير الداخلية رانا ثناء الله. من جهتها، أكدت لجنة الانتخابات الوطنية، قبل أسبوعين، أن الانتخابات في الإقليمين لا يمكن إجراؤها في الوقت الحالي، وذلك بخلاف أمر المحكمة العليا.
وكان وزير الداخلية الباكستاني رانا ثناء الله قد أعلن، في 25 مارس الماضي، أن مسألة إجراء الانتخابات في الإقليمين تعود إلى لجنة الانتخابات الوطنية، وهي التي تقرر فيها، وأن المحكمة العليا "تبدو أنها انحازت إلى شخص واحد، وبالتالي، فإن قراراتها محل نزاع، ما يعني أنه ليس ضرورياً تنفيذ القرار، خصوصاً أن هناك بين قضاة المحكمة ذاتها من يعارض تلك الأوامر والقرارات".
تعديل دستوري لتشتيت القضاء
ولم تكتف حكومة شهباز شريف برفض أمر المحكمة العليا، بل بدأت أيضاً مسعى لتقويض صلاحيات رئيسها. وفي هذا الإطار، قدمت الحكومة الباكستانية، في 29 مارس الماضي، تعديلاً دستورياً إلى البرلمان، ينص على تقليص صلاحيات رئيس المحكمة العليا، ومنه أنه لا يمكنه اتخاذ قرار بالنظر في أي قضية من دون التشاور مع قضاة آخرين من أعضاء المحكمة.
وكان رئيس المحكمة العليا يتمتع قبل التعديل بصلاحية اتخاذ القرار بالنظر في أي قضية أو مسألة يراها مهمة للبلاد. وصادق البرلمان على التعديل في اليوم ذاته من طرحه، ثم مجلس الشيوخ في اليوم التالي، وأرسل إلى الرئيس الباكستاني عارف علوي ليوقع عليه ويصبح جزءاً من الدستور.
وأوضح الإعلامي والكاتب الباكستاني شاكر عباسي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن من أبرز محتويات التعديل الدستوري لعام 2023، أخذ صلاحية قرار النظر في أي قضية مهمة للبلاد من رئيس المحكمة العليا، إذ يضع التعديل هذه الصلاحية في يد لجنة مؤلفة من 3 قضاة من المحكمة العليا.
ورأى عباسي أن الدافع الرئيسي وراء خطوة الحكومة هو المواجهة الدائرة حالياً بينها وبين رئيس المحكمة العليا القاضي عمر عطاء بنديال، مشيراً إلى أن الأخير هو الرجل الوحيد الذي يقف في وجه سياسات الحكومة، ما دفعها للتحرك من أجل تقويض صلاحياته.
قلّص البرلمان صلاحيات رئيس المحكمة العليا بطلب من الحكومة، ولكن بغياب نواب حزب خان
واعتبر الإعلامي والكاتب الباكستاني أن خطوة الحكومة "هي من دون شك تعدّ تدخلاً في شؤون المؤسسة القضائية ومحاولة لتشتيت آراء قضاة المحكمة العليا"، لكنه لفت إلى أن الحكومة "لن تستفيد كثيراً" من الخطوة، بحسب رأيه، "لأن هذه الصلاحية لا تزال في أيدي القضاة وليست في يدها، إلا أن النقطة الأهم هو أن الحكومة لم تكن تملك من سبيل للضغط على المؤسسة القضائية سوى ذلك".
من جهته، قال المحامي الباكستاني في محكمة إسلام أباد، محمد حسيب، لـ"العربي الجديد"، إن التعديل الدستوري "سيكون جزءاً من الدستور من دون شك، سواء وقّع عليه الرئيس الباكستاني أم لم يوقع، لأن الدستور الباكستاني يؤكد أن التعديل الدستوري الذي يصادق عليه البرلمان ومجلس الشيوخ يصبح جزءاً من الدستور حتى من دون توقيع رئيس البلاد".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، بحسب حسيب، هو أن ذلك يحصل فيما يغيب عن البرلمان الباكستاني 228 نائباً هم المنتمون إلى حزب عمران خان، وبالتالي "فإن التعديل الدستوري أمر دُبّر في الليل ومن وراء الكواليس"، بحسب تعبيره. ورأى أن ذلك حصل "لأن المحكمة العليا هي الجهة الوحيدة التي تقف في وجه قرارات الحكومة في هذه الفترة المعيشية العصيبة".
في المقابل، رأى المحامي الباكستاني محمد راشد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التعديل الدستوري كان مطلب المحامين وكل من يهتم بالدستور والقوانين الباكستانية، إلا أن توقيته كان غير مناسب، إذ جاء في خضم الصراع بين المؤسسة القضائية والحكومة، وليس لصالح الشعب، بل لصالح شريحة صغيرة هي التحالف الحاكم.
وحول الجهة المستفيدة من التعديل الدستوري، قال راشد إنها الحكومة الساعية للحفاظ على سلطتها، لكنه حذّر من أنه "على المدى البعيد، فإن هذا التطور ليس مفيداً لمستقبل البلاد التي تمر بمرحلة حرجة اقتصادياً وأمنياً، وبالتالي، فإن الصدام بين مؤسسات الدولة أمر خطير جداً، لا سيما إن صح أن المؤسسة العسكرية تدعم الحكومة بينما المؤسسة القضائية تتصارع معها".
وأكد راشد أن "لا شكّ في أن الجيش مؤيد للحكومة، والتي لو كانت وحدها، لما استطاعت أن تقوم بكل الخطوات التي تقوم بها حالياً، ابتداء من الحملة ضد قيادات حزب خان واعتقالهم وصولاً إلى إجراء التعديل الدستوري لتقويض صلاحيات رئيس المحكمة العليا، أي أن كل ذلك ليس ممكناً من دون مباركة المؤسسة العسكرية ودعمها".
أما بالنسبة لقضية انتخابات الإقليمين المتنازع على موعدها، فقد أعلنت المحكمة العليا تشكيل لجنة من 3 قضاة برئاسة رئيسها للنظر مرة أخرى في قضية الانتخابات المحلية في البنجاب وخيبربختونخوا، بعدما رفضت الحكومة أمرها الأول الصادر في بداية مارس. لكن الحكومة عادت للاعتراض.
فقد كان رئيس المحكمة أعلن، الأسبوع الماضي، تشكيل لجنة قضائية من 5 قضاة للنظر في القضية. لكن اثنين منهما اعتذرا عن المشاركة وهما القاضيان محمد جمال مندوخيل، وأمين الدين خان، ما أجبر رئيس المحكمة العليا على إعلان تشكيل اللجنة من 3 قضاة، هم: رئيس المحكمة نفسه القاضي بنديال، والقاضيان إعجاز الحسن، ومنيب أختر.
ترفض الحكومة أن تعيد لجنة من قضاة المحكمة النظر في قضية انتخابات البنجاب وخيبربختونخوا
وأصدرت المحكمة العليا، أمس الثلاثاء، أمراً جديداً بإجراء الانتخابات المبكرة في إقليمي البنجاب وخيبربختونخوا، بحلول 15 مايو/ أيار المقبل، مؤكدة أن تأخيرها إلى 8 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، كما تريد هيئة الانتخابات الوطنية "غير قانوني". وقالت المحكمة إن انتخابات الإقليمين يجب أن تحصل بين 30 إبريل/ نيسان الحالي و15 مايو، وهو ما أكده محامي رئيس الوزراء السابق عمران خان، علي ظفار، بحسب وكالة "رويترز".
وكانت خطوة المحكمة العليا بالنظر مرة جديدة في قضية الانتخابات المحلية في الإقليمين قد أثارت حفيظة الحكومة والتحالف الحاكم. وقال رئيس الوزراء السابق نواز شريف، وهو زعيم حزب الرابطة الحاكم، في بيان صدر عنه في 31 مارس الماضي، إن أي قرار صادر عن هذه اللجنة "مرفوض منذ الآن"، داعياً إلى أن تنظر لجنة مكونة من جميع قضاة المحكمة العليا في القضية.
بدروه، رأى المساعد الخاص لرئيس الوزراء عطاء تارر، خلال مؤتمر صحافي عقده أمام مبنى المحكمة العليا في 30 مارس الماضي، أن اعتذار قاضيين عن المشاركة في النظر في القضية يشير إلى أن الأمر ليس متفقاً عليه بين القضاة أنفسهم، وبالتالي، فإن المسألة عبثية برمتها.
أما رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان، المعارض الوحيد للحكومة والذي يتمتع بقاعدة شعبية واسعة، لا سيما بسبب فشل حكومة شريف في التصدي للغلاء والحالة المعيشية الصعبة التي تمرّ بها البلاد، فقد شدّد في بيان على أنه لا تهمه اللجان القضائية وأعضاؤها، بل همّه الوحيد هو تطبيق الدستور، أي إجراء الانتخابات في الإقليمين بعد حلّ برلمانيهما، خلال 90 يوماً.