عادت قضية جيفري إبستين، الملياردير الأميركي الذي توفي في زنزانته عام 2019 (أعلن أنه انتحر)، بعد سنوات طويلة من ملاحقته ثم اعتقاله بتهمة إدارة شبكة دعارة واستغلال قاصرات لأغراض جنسية، لتغذي مجدداً نظريات المؤامرة، وتلهب النخبة السياسية والمجتمع ورجال المال والإعلام والعلوم والاقتصاد، وأجهزة الاستخبارات، حول العالم، مع مجرد الكشف عن وثائق تتعلق بالقضية، بأمر قضائي صدر في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ورغم أن الأسماء التي يجري تداولها حالياً لمشاهير وشخصيات ممن يسّمون بالـ"A -Listers"، أي الأرفع مستوى، تعاملت مع إبستين وصديقته المسجونة، البريطانية الأميركية الفرنسية (من أب يهودي)، غيسلين ماكسويل، واستفادت من "خدماته"، بينها رئيسان أميركيان سابقان وأمير بريطاني، ومشاهير، أصبحت معروفة، إلا أن التفاصيل التي توفرها الوثائق، والتي ينتظر أن يتوالى الكشف عنها تباعاً، تعيد تسليط الضوء، على "الإمبراطورية" التي بناها هذا الرجل ويده اليمنى ماكسويل، والتي امتزج فيها عالم الجنس والمال والسياسة والنفوذ والابتزاز، ليقدم صورة إضافية عن "الجانب المظلم" لكل هذه النخبة، وهم جزء أصيل من صناعة القرار حول العالم.
وإذا كانت ليست خفية بالمطلق الانحدارات الأخلاقية التي من الممكن أن تصل إليها مثل هذه النخب، والتي تغذي الخيال حول كل أنواع الفساد الذي من الممكن أن يحيط بها، وكيفية تغلغل أجهزة الاستخبارات بمثل هذه الشبكات، يعيد الكشف عن وثائق إبستين، التذكير بغياب المحاسبة. فضلاً عن أن القضية بحدّ ذاتها ساهمت في توقيتها وبدء فضح قصصها منذ أعوام، في تكريس سطوة جانب مجتمعي آخر، في فضاء السياسة، وهو عالم الحركات النسوية، مع ما يحمله من اعتبارات سياسية وانتخابية.
تضمنت الأسماء المرتبطة بالقضية، وزراء ورجال أعمال ومحامين
وتدحرجت مع قضية إبستين، منذ سنوات، أسماء من العيار الثقيل، على غرار الرئيسين الأميركيين السابقين بيل كلينتون ودونالد ترامب (اعتقل إبستين آخر مرة بعهد ترامب)، ومؤسس شركة مايكروسوفت بيل غيتس، والأمير البريطاني، دوك يورك، أندرو، الذي اتخذ قصر باكنغهام في 2022، قراراً بتجريده من ألقابه العسكرية، ورعايته الملكية. وتكر سبحة الأسماء لتشمل كل القطاعات، منها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أيهود باراك، والمخرج الأميركي وودي آلن، والممثل الأميركي كيفن سبايسي، ووكيل العارضات جان لوك برونيل (عثر عليه ميتاً في زنزانته في باريس عام 2022 بعد ملاحقته بقضية اغتصاب قاصرات وتحرش جنسي).
كما تشمل "اللائحة"، الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ، والسيناتور السابق جورج ميتشيل، والسفير الأميركي السابق بيل ريتشاردسون، والمحامي آلان ديرشوفيتز، الذي كلفته إسرائيل أخيراً بتمثيلها أمام محكمة العدل الدولية، في قضية ارتكاب إبادة جماعية، في قطاع غزة، ومغني البوب الأميركي الراحل مايكل جاكسون، و"الساحر" البريطاني ديفيد كوبرفيلد، والمدعي العام الأميركي الراحل كينيث ستار، وغيرهم.
وتطول اللائحة إذا ما أخذت في الاعتبار أسماء أخرى كانت قريبة من إبستين، وربما لم تستفد من خدماته الجنسية، والتي فضحتها تباعاً مجموعة من النساء اللواتي ادعين على الملياردير الأميركي، أو قدمن بلاغات ضدّه، على مرّ سنوات طويلة ماضية، وعرفن باسم "جين دو" jane do، نظراً لبقاء أسمائهن سرّية، علماً أن منهن من بتن معروفات، وعلى رأسهن فيرجينيا جيوفري، المدعية الرئيسية ضد إبستين. ع
لماً أن الوثائق الجديدة التي يجري الكشف عنها، والتي عددها بالمئات، وأفرج عن الدفعة الأولى الأربعاء الماضي، خرجت إلى الضوء بقرار من القاضية في المحكمة الفيدرالية في مانهاتن لوريتا بريسكا، وهي ترتبط بالقضية المرفوعة ضد ماكسويل. ومن الأسماء المرتبطة بالقضية، وزراء أميركيون (سابقون)، كانوا أصدقاء لإبستين، من الحزبين، أثيرت حولهم شكوك حول مساندتهم له قضائياً.
ولن تكون الأسماء الجديدة القديمة، ملاحقة قضائياً، بأي حال من الأحوال، إلا أن إعادة الكشف عن هويتها، واستمرار تلطيخ سمعتها بقضية إبستين، قد يجري استغلاله سياسياً في الولايات المتحدة خصوصاً، في حملة دونالد ترامب الانتخابية، أو كسلاح لدى اليمين الأميركي، الذي سيصوّب على سلّة الشخصيات الديمقراطية، السياسية، ومن الممولين للحزب، ومشاهير، ومتجندين لخدمة القضايا الإنسانية، لربطها بالفساد.
بيل كلينتون
وحظي الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، بالحصة الكبرى من التداول، مع الكشف عن الوثائق، علماً أن اسمه كان ارتبط أيضاً بفضيحة مونيكا لوينسكي، التي كاد أن يعزل بها في الكونغرس حين كان رئيساً. وأظهرت الوثائق أن كلينتون سافر أكثر من مرة على طائرة إبستين الخاصة، وأشاد مرة بالمستوى الثقافي والخيري للأخير. وأظهرت الوثائق التي رفعت السرية عنها أن إحدى ضحايا إبستين، جوهانا سيوبيرغ، التي وصفت في وثيقة تفاصيل سهرة في منزل بنيويورك ضمّت المدعية الأخرى جيوفري، وماكسويل والأمير أندرو، قالت إنها لم تلتق كلينتون أبداً، لكن إبستين أدلى مرة بملاحظة أمامها أن "كلينتون يفضّلهن صغيرات"، في إشارة إلى النساء اللواتي يؤمنهن إبستين للمشاهير.
ضغط كلينتون على "فانيتي فير" لعدم كتابة مقال حول إبستين
ولم توجه أي اتهامات إلى كلينتون من قبل ضحايا إبستين، علماً أن الرئيس الأميركي السابق كان أكد في الماضي، عبر متحدث باسمه، أنه بينما سافر على متن إحدى طائرات إبستين (ظهر اسمه على 26 رحلة بين 2001 و2003)، إلا أنه لم يزر يوماً منازل الأخير، ولم يكن لديه علم بجرائمه، ولم يتحدث إلى إبستين منذ أن أدين الأخير في فلوريدا عام 2008. علماً أن كلينتون حظي أيضاً بدعم مالي كبير من إبستين، لا سيما لتمويل جمعيته "كلينتون فاوندايشان".
وفي تصريح عام 2002، قال كلينتون عن إبستين إنه "رجل أعمال ناجح جداً وإنساني ملتزم مع فهم رفيع بالأسواق العالمية وبعلوم القرن الـ21". لكن عاد وأكد في 2019 أنه سافر فقط 4 مرات على متن طائرة إبستين، وكلّها من أجل أعمال لجمعتيه، ونفى أي علم له بـ"جرائم إبستين المريعة التي أدين فيها في فلوريدا أو نيويورك". ومن الادعاءات التي تظهرها الوثائق الجديدة اليوم، أن كلينتون زار مرة مكاتب مجلة "فانيتي فير"، وضغط عليهم لعدم كتابة مقال حول "صديقه الجيّد" إبستين، يتهم الأخير بإنشاء شبكة دعارة.
دونالد ترامب
وعاد اسم الرئيس السابق دونالد ترامب، ليرد في "وثائق إبستين"، وذلك في عزّ حملة ترامب الرئاسية لولاية جديدة، والتي يلاحق خلالها بعدد من القضايا، منها "التمرد" ومحاولة الانقلاب على الدستور، ما يعد باباً جديداً فتح عليه للإحراج السياسي، في وقت حسّاس، قد يستغله الديمقراطيون، وعلى رأسهم الرئيس جو بايدن.
وكان اسم ترامب قد ورد منذ القضايا الأولى التي لاحقت إبستين، وخرجت إلى العلن صور له، مع الأخير، في منتجع ترامب في مارآلاغو في فلوريدا، تعود لعام 1997 ثم في 2000، وذلك مع زوجته ميلانيا، وشريكة إبستين، ماكسويل. علماً أن ترامب نفسه قدم إلى السياسة من عالم الترفيه.
وكان ترامب قد وصف إبستين، في عام 2002، بتصريح لإحدى المجلات الأميركية، أنه "رجل جيد جداً"، وأكد أنه يعرفه منذ 15 عاماً. وقال ترامب حينها: "إنه من الممتع جداً مجالسته، حتى أنه يقال إنه يحب النساء الجميلات تماماً مثلي، والعديد منهن شابات. لا شكّ في ذلك: "جيفري يتمتع جيداً بحياته الاجتماعية".
شقيق إبستين عن حملة انتخابات 2016: "قال لي جيفري إن لديه معلومات عن ترامب وهيلاري كلينتون، يمكن أن تفجر الانتخابات"
وعندما اعتقل إبستين المرة الأخيرة، أعيد تسليط الضوء خلال حقبة ترامب، على وزير العمل ألكسندر أكوستا، الذي كان مدعياً عاماً لفلوريدا حينما أدين إبستين للمرة الأولى، في 2007، وجرى التذكير بـ"الاتفاق" بين الرجلين، والتي سمحت لإبستين بقضاء فترة عقوبته في بالم بيتش بدلاً من السجن. وحينها، سعى البيت الأبيض، في 2019، بعد استعادة القصة والصور، لإبعاد نفسه عن إبستين، علماً أن فيرجينيا جيوفري قالت في ادعائها إنها عملت في منتجع مارآلاغو.
وجاء في الوثائق الجديدة، أيضاً، أنه خلال إحدى الرحلات مع إبستين، أبلغه الطيارون أنهم بحاجة إلى الهبوط في مدينة أتلانتيك سيتي بولاية نيوجيرسي، فاقترح حينها أن يتصلوا بترامب. وكان الطيار الخاص بإبستين، لاري فيسوسكي، قد كشف عام 2021، في شهادته خلال محاكمة ماكسويل، أنه اصطحب على متن الطائرة الخاصة بالأخير، شخصيات مهمة مثل الأمير أندرو وكلينتون ودونالد ترامب.
وأكد ترامب، عبر متحدث اسمه، رداً على الوثائق الجديدة، بأن كل شيء ورد "أصبح مفضوحاً" منذ مدة، علماً أن شقيق إبستين، مارك، نقل عنه قوله أخيراً إنه "خلال حملة انتخابات 2016، قال لي جيفري إن لديه معلومات عن ترامب وهيلاري كلينتون، يمكن لها أن تفجر الانتخابات".
وكان ترامب قد صّرح عام 2015، تعليقاً على سؤال صحافي حول مزاعم انتهاكات جنسية تجري في جزيرة إبستين الخاصة في الكاريبي، بقوله: "إن الجزيرة فعلاً هي حفرة قذارة... فقط اسألوا الأمير أندرو، سيقول لكم".
الأمير أندرو
وكان اسم شقيق الملك البريطاني، تشارلز، الأمير أندرو، الأكثر توقعاً، مع الإعلان عن الكشف عن الوثائق، وهو من عرّف في عدد من الشهادات السابقة، بأنه "الأبله الصغير". وكانت جيوفري قد اتهمت الأمير أندرو بالاعتداء الجنسي عليها، وهي في سنّ المراقبة، في منازل إبستين وشريكته ماكسويل. وتشكل الوثائق الجديدة، إحراجاً إضافياً للعائلة المالكة في بريطانيا، وخصوصاً للملك "غير الشعبي" كفاية.
وأول من أمس الخميس، حثت جماعة "ريبابليك" البريطانية المناهضة للملكية، شرطة لندن على التحقيق مع الأمير أندرو، معلنة تقديم بلاغ للشرطة حول ارتباطات أندرو بقاصرات وبإبستين. وأضافت أن "الوثيقة واضحة للغاية بأن شخصاً ما أُجبر أثناء وجوده في لندن على إقامة علاقات جنسية مع أندرو عندما كان قاصراً"، في إشارة إلى الاتهامات التي نفاها الأمير البالغ 63 عاماً باستمرار. وكان أندرو توصل في 2022 مع جيوفري إلى تسوية، علماً أن الشرطة البريطانية كانت أعلنت في 2021 أنها لن تتخذ أي إجراء بعد مراجعة الاتهامات الموجهة ضد الأمير أندرو.
وانسحب الأمير أندرو من الحياة العامة بعد مقابلة أجراها مع "بي بي سي" أثارت فضيحة بسبب عدم إبدائه أي تعاطف مع ضحايا إبستين، وبات محروماً من أي دور رسمي ولم يعد بإمكانه استخدام لقب صاحب السمو الملكي.
الموساد
ولم يتهم إبستين، فقط، بالمتاجرة بقاصرات، واستغلالهن جنسياً، في خدمة علاقاته في المجتمع المخملي ومصالحه، بل بالتعامل أيضاً مع "الموساد" الإسرائيلي (علماً أن إبستين يهودي الديانة) ربطاً ليس فقط بشهادات عدة، وعلاقته بأيهود باراك، بل بعلاقته بوالد ماكسويل، قطب الإعلام البريطاني روبرت ماكسويل، الذي حضر دفنه في القدس المحتلة، كبار السياسيين الإسرائيليين، والذي أثارت وفاته في نوفمبر/تشرين الثاني 1991، العديد من النظريات بالنظر إلى أوضاع شركاته والفساد الذي خيّم على عمله وسرقاته، والتي هيمنت عليها انتقادات الرأي العام، إذ بعد انتشال جثته من البحر في الكناري، خرجت نظريات أكدت مقتله على يد الموساد. وتداولت الوثائق الجديدة، مجدداً، اسم باراك، علماً أن عميل الموساد السابق آري بن مناشي كان أكد في شهادة في السابق، أن إبستين، عمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية.