أعاد ما ورد في "صفقة القرن" بشأن اشتمال ما تُسمى "عملية تبادل الأراضي" (بين إسرائيل والفلسطينيين) على جزء من "منطقة المثلث" داخل مناطق 48، التذكير بموضوع التخلص من السكان العرب والحفاظ على إسرائيل يهودية.
واستنادًا إلى دراسة جديدة نُشرت في مجلة صادرة عن وزارة شؤون الاستخبارات الإسرائيلية في تموز/ يوليو 2020، تعتبر إسرائيل الديموغرافيا مجال اهتمام ذا أهمية من الدرجة الأولى بالنسبة لأمنها القومي.
ويؤكد كاتب الدراسة، وهو شموئيل إيفن، المسؤول الكبير السابق في جهاز الاستخبارات وحاليًا الباحث الزميل في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أن إسرائيل تعرّف نفسها بحسب "قانون أساس القومية"، الذي سُنّ في تموز/ يوليو 2018، كدولة قومية للشعب اليهودي، وهو تعريف يلزمها أن تحافظ على ميزان ديموغرافي تكون فيه أغلبية يهودية مطلقة. ومن هنا تنبع أهمية الحفاظ على ميزان إيجابي لهجرة اليهود من الدياسبورا إلى إسرائيل، فضلًا عن حقيقة أن الميزان الديموغرافي بين اليهود والفلسطينيين يبقى ذا تأثير كبير في مسألة الحدود الدائمة لدولة الاحتلال، سواء في سياق المفاوضات مع الفلسطينيين، أو في جوهر الخطاب السياسي الإسرائيلي.
تنتهج إسرائيل وسائل متعددة تحت غطاء الحفاظ على أمنها القومي في السياق الديموغرافي. ومنها ما يلي: أولًا، سنّ قوانين وأنظمة لضمان طابعها اليهودي، في مقدمها "قانون العودة" و"قانون القومية"؛ ثانيًا، تطبيق سياسة صارمة في ما يتعلق بتأشيرات الدخول إلى الدولة بإشراف سلطة السكان والهجرة والأجهزة الأمنية؛ ثالثًا، إنشاء جدران عازلة، أبرزها جدار الفصل مع مناطق الضفة الغربية؛ رابعًا، توثيق العلاقات مع الجاليات اليهودية في العالم وتشجيع هجرة اليهود إلى إسرائيل. وفي سبيل ذلك أقيمت وزارتان، هما وزارة الهجرة والاستيعاب ووزارة شؤون الشتات، بالإضافة إلى نشاط الوكالة اليهودية.
فلسطينيو 48
أخذ موضوع تعامل إسرائيل مع فلسطينيي 48 كـ"خطر ديموغرافي زاحف" مدًّا ملفتًا إثر الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت قبل عقدين.
ويمكن الاستدلال على ذلك، مثلًا، من وثائق "مؤتمر هرتسليا حول ميزان المنعة والأمن القومي في إسرائيل" السنوي الذي تمّ تأسيسه عام 2000 بمبادرة من "معهد السياسات والاستراتيجيا" في "المركز المتعدد المجالات" في مدينة هرتسليا بالقرب من تل أبيب، بعد فترة وجيزة من انهيار عملية التسوية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (أو عقب "استنفاد العملية السياسية الإقليمية التي انطلقت في مدريد" في تسعينيات القرن العشرين الفائت، على حدّ ما ورد في وثيقته التأسيسية)، وهو أول مؤتمر من نوعه يقارب موضوع المنعة (Resilience)، في ارتباطه المباشر مع الأمن القومي الإسرائيلي، ومع التحديات الماثلة أمام إسرائيل، داخليًا وإقليميًا وعالميًا.
وأعارت الوثيقة وزنًا كبيرًا لما سمّته "التهديد الديموغرافي على إسرائيل اليهودية"، من جانب الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك في إسرائيل. وفي ما يخص فلسطينيي 48 تضمنت توصيات على غرار: سياسة تشجيع أسر مؤلفة من 3- 4 أولاد "من خلال إبطال مخصصات التحويل (دولانية) إلى العائلات كثيرة الأولاد"، وتوزيع السكان اليهود "في مناطق إشكالية من ناحية ديموغرافية، وبالأخص في الجليل ومرج ابن عامر والنقب، وذلك من أجل الحؤول دون نشوء تواصل إقليمي لأكثرية عربية من شأنه أن يقطع أوصال إسرائيل"، وتبادل مجموعات سكانية بين إسرائيل ودولة فلسطينية عتيدة (في حال إقامتها)، وشمل مجموعات استيطانية يهودية محاذية للخط الأخضر من جهته الشرقية ضمن تخوم إسرائيل في مقابل نقل مجموعات سكانية عربية (أجزاء من "المثلث الصغير" والقدس الشرقية وتجمعات بدوية في النقب الشمالي) إلى السيادة الفلسطينية. كذلك أوصت بـ"دراسة منح العرب في إسرائيل إمكان الاختيار بين المواطنة الكاملة في دولة إسرائيل وبين المواطنة في الدولة الفلسطينية، مع حقوق مقيم دائم في البلد". ومن أجل "موازنة" الوزن الانتخابي للصوت العربي أيضًا، أوصت الوثيقة بتمكين المواطنين الإسرائيليين، الذين يعيشون في الخارج، من المشاركة في الانتخابات من دون الحاجة لمجيئهم إلى إسرائيل.
ولا بُدّ من التنويه بأن رئيس الحكومة الحالي بنيامين نتنياهو خاطب هذا المؤتمر في دورته الثالثة عام 2003، عندما كان وزيرا للمال في حكومة أريئيل شارون، وتطرّق إلى الموضوع الديموغرافي، مؤكدًا أن المشكلة الديموغرافية غير متركزة في عرب فلسطين وإنما في من سماهم "عرب إسرائيل". ومما قاله: "لا توجد لدينا أي نية للسيطرة على السكان الفلسطينيين (في الأراضي المحتلة منذ 1967)، ولذا فإن المشكلة الديموغرافية لن تكون قائمة هناك عندما ينتقل هؤلاء السكان إلى السيادة الفلسطينية. وقد حددنا في وثيقة الاستقلال أننا نقيم دولة يهودية وديمقراطية. دولة يهودية أولا وقبل أي شيء، وبعد ذلك ديمقراطية. وكي لا تلغي الديمقراطية الطابع اليهودي للدولة، يجب ضمان أغلبية يهودية. إن مسألة العلاقة بين الأغلبية اليهودية والأقلية العربية هي قبل أي شيء مسألة مزدوجة، مسألة نسيج العلاقات والقدرة على دمج هذه الأقلية في حياة الدولة وفي الاقتصاد والمجتمع من جهة أولى، ومسألة العدد من جهة أخرى. وإذا ما اندمج السكان العرب بشكل رائع (في الدولة) ووصل عددهم إلى 35 بالمئة أو 40 بالمئة من مجمل عدد سكان الدولة، عندها ستصبح الدولة اليهودية ملغية وتتحول إلى دولة ثنائية القومية. ولو بقيت نسبتهم كما هي عليه الآن، أي حوالي 20 بالمئة، أو حتى أصبحت أقل، لكن العلاقات بقيت متسمة بالصرامة والتحدي والعنف وما إلى ذلك، فإنه في هذه الحالة أيضًا سيتم مس ادعائنا بشأن النسيج الديمقراطي. ولذا نحن بحاجة إلى انتهاج سياسة توازن بين هذين الأمرين. وقبل أي شيء يتعين علينا أن نضمن أغلبية يهودية في دولة إسرائيل".
وفي سعي الاستراتيجية الإسرائيلية الصهيونية لـ"ضمان أغلبية يهودية"، يتم التركيز على الجغرافيا، ولا سيما على منطقتي الجليل والنقب، وأنشئت لأجلهما وزارة خاصة يتولاها وزير الداخلية، اسمها "وزارة تطوير الأطراف، النقب والجليل".
تشدّد هذه الوزارة على أن الوجود اليهودي في الجليل والنقب استراتيجي، غير أنه مُهدّد بـ"خطر ديموغرافي ملموس" يتمثل بنزعة السكان اليهود إلى تفضيل السكن في "متروبولين غوش دان" (وسط إسرائيل)، والهجرة التدريجية من المنطقتين. وفيما تشكل منطقة "متروبولين غوش دان"، الممتدة من مدينة نتانيا في الشمال وحتى مدينة رحوفوت في الجنوب، نحو 7% فقط من مساحة إسرائيل، ويسكن فيها اليوم نحو 40.6% من مجموع السكان، تشكل منطقة النقب، الممتدة من غور بئر السبع وحتى مدينة إيلات، نحو 60% من مساحة إسرائيل ويسكن فيها نحو 8% فقط من مجموع السكان في إسرائيل، بينما تشكل منطقة الجليل، الممتدة من الحدود الإسرائيلية ـ اللبنانية حتى مرج بن عامر، نحو 16% من مساحة دولة إسرائيل ويسكن فيها نحو 15% فقط من مجموع سكان الدولة.
وفي الجليل أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد والمتواصل ابتداء من عام 1991، حتى وصلت قبل عامين إلى 43.1% فقط من مجموع السكان في هذه المنطقة، وهي مرشحة للانخفاض حيال معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود (1.4%)، مقارنة بمعدلاته بين السكان العرب (1.7%)، وحيال استمرار هجرة السكان اليهود من الجليل.
وفي النقب، ثمة سيرورة مماثلة أيضًا، إذ أخذت نسبة السكان اليهود في الانخفاض الحاد ابتداء من عام 1995 (نهاية موجات الهجرة اليهودية من شمال أفريقيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق)، حتى وصلت قبل عامين إلى 59.7% من مجموع السكان في هذه المنطقة. ومن المرجح استمرار الانخفاض بفعل معدلات التكاثر الطبيعي السنوية بين السكان اليهود في المنطقة (1.6%)، مقابل معدلاته بين السكان العرب هناك (3.7%).
وقبل عامين أجملت دراسة صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" مترتبات هذا الخطر، حين أشارت إلى أن اختلال الميزان الديموغرافي في الجليل والنقب "ينطوي على خطر جيوسياسي يتهدد إسرائيل". وهو برأيها خطر يحدّده، بالأساس، التاريخ الدولي الذي يفيد بأن "الأقليات التي تتمتع بوعي وطني ولديها قيادات وطنية، والتي تشكل أغلبية سكانية في منطقة جغرافية خاصة بها، تجنح في العادة إلى تحقيق تطلعاتها القومية من خلال المطالبة، العنيفة أو الهادئة على حد سواء، بـ"الاستقلال الذاتي" (كتالونيا في إسبانيا) أو بالالتحاق بدولة أخرى قد تكون ذات حدود مشتركة (شبه جزيرة القرم). وبناء على هذا، ليس من المستبعد أن يتحرك السكان العرب في إسرائيل ـ الذين يعبرون باستمرار عن عدم الرضى من الوضع القائم، السياسي والاجتماعي، في الدولة ـ بمثل ما فعلت أقليات أخرى في العالم من قبل".
ولمنع ذلك ترصد إسرائيل ميزانيات طائلة جدًا تحت عناوين مختلفة، أبرزها "تطوير النقب والجليل"، الذي كان ولا يزال يعني تهويد المنطقتين، ولا تجد السلطات الإسرائيلية أي حرج في إشهاره على الملأ.