الصهيونية في تعريفها الأعم؛ وفقًا لمؤسسيها الأوائل، هي "حركة قومية" وأيديولوجيا غايتها إنشاء "وطن قومي للشعب اليهوديّ"، وعلى وجه التحديد في فلسطين، التي تسميها "أرض إسرائيل". ومنذ بداياتها في أواخر القرن التاسع عشر، حدّدت الصهيونية أهدافها في ما يلي: "العودة إلى صهيون (القدس)"، وجمع الشتات اليهودي، وإعادة إحياء الثقافة واللغة العبريين، وخلق "اليهودي الجديد" الذي جزم ماكس نورداو بأنه ينبغي أن يكون "يهوديّ العضلات" المتفوّق من ناحية القوة.
اتسمت الصهيونية بوجود عدد من التيارات فيها، بعضها سوّق نفسه بأنه يساريّ، فيما أطلقت صفة اليمينية على بعضه الآخر، ولكن من الثابت تاريخيًا أن شعار "احتلال البلد" مثلًا، وهو أحد الشعارات الرئيسية للصهيونية، لم يكن حصريًا لصهيونية يمينية فقط، إنما كان أيضا شعارًا لصهيونية يسارية تدّعي الاعتدال. وكانت أهمية الصهيونية اليسارية، من نواحٍ ومعانٍ كثيرة، تفوق بكثير أهمية الصهيونية العمومية واليمينية، وذلك لأنها وفرت درعًا أيديولوجيًا بطرحها الصهيونية كحركة اشتراكية تتبنى المساواة، وتتطلع بشدة إلى التعاون والسلام مع السكان العرب الفلسطينيين.
فالصهيونية اليسارية (كما تجسدّت في حركة "هشومير هتسعير") هي التي اقترحت إقامة دولة ثنائية القومية، كما أن تيارًا صهيونيًا يساريًا، كان ضئيلًا "تحالف السلام- بريت شالوم"، اقترح من جهته تقييد الهجرة اليهودية، من خلال التوصل إلى اتفاق مع الشعب العربي الفلسطيني، فيما عرض الحزب المركزي في الحركة الصهيونية (حزب "مباي") بعد حرب عام 1967 تسوية إقليمية مع الفلسطينيين.
لكن لا بُدّ من ذكر أن "هشومير هتسعير" كان يؤيد دولة ثنائية القومية في فترة الانتداب البريطاني بشرط إجراء ثلاثة تعديلات: أولًا، ألا تقوم الدولة الثنائية القومية سوى بعد أن يتحقق وجود أغلبية يهودية في البلد؛ ثانيًا، أن تستمر سلطة الانتداب البريطانية عشرين سنة أخرى؛ ثالثًا، في حال عدم موافقة الفلسطينيين على ذلك، أن تكون الدول العظمى مخولة بفرض ذلك عليهم بالقوة.
أما أعضاء جماعة "تحالف السلام"، وهم "الصهيونيون الأكثر تقدمًا"، فقد اقترحوا مساواة في السلطة تحت الانتداب البريطاني، حين كان اليهود يشكلون نحو 12 بالمئة من سكان البلد. كذلك وافقوا على تقييد الهجرة اليهودية بعد أن يتساوى عدد اليهود والعرب في فلسطين الانتدابية. وبسبب مثل هذه المطالب، التي بطبيعة الحال لم يكن في وسع الفلسطينيين قبولها، تعرّض أعضاء هذه المجموعة إلى الإدانة والشجب من جانب سائر مُكوّنات الحركة الصهيونية، بما في ذلك من جانب "هشومير هتسعير"، واتهموا بخيانة الصهيونية، علمًا بأنهم كانوا أقلية هزيلة جدًا في صفوف الجمهور اليهودي.
غير أن الدور المهم للصهيونية اليسارية تمثل في إقناع الجزء التقدمي الليبرالي الاشتراكي في صفوف الجمهور بأن الصهيونية هي أيديولوجيا عادلة، وبأن إسرائيل محاطة بأعداء غير مستعدين للاعتراف بذلك. وهذا الإقناع نجح نجاحًا يفوق التوقعات، وهو ما يمثل أحد الأسباب في كون الجمهور الليبرالي في إسرائيل يسلّم ويقبل باحتلال 1967 أيضًا.
يكمن في السطور السالفة جوهر ما يمكن اعتباره الوعي الصهيوني الذي يستحوذ بنسبة شبه تامة على إسرائيل، ولا يمكن اعتباره تعدديًّا. وهذا الوعي يجري تربية الإسرائيليين عليه منذ الصغر وحتى انتهاء الدراسة الجامعية، كما يجري بثّه في جميع وسائل الإعلام العامة والخاصة على لسان الزعماء والقادة والمتحدثين. ومن ناحية عملية فإن الإنسان المتوسط في إسرائيل لا يجد طريقًا للهرب أو الفكاك من الصهيونية. كما أن الجماعات المناهضة للصهيونية تحاول من جهتها الإقلال من الحديث عن الصهيونية، وذلك كي لا تنأى بنفسها عن الجمهور الخاضع لهذا الوعي.
بأصوات ما زالت قليلة، كي لا نقول معدودة، ولكن شديدة الصفاء وبالغة الدلالة، تتواتر في إسرائيل في الآونة الأخيرة دعوة إلى التحرّر من العقيدة الصهيونية، بوصف ذلك الطريق الأنسب لمعالجة أهم أسباب استمرار الصراع في فلسطين.
محاولة الصهاينة، الذين يُعرّفون أنفسهم بأنهم ليبراليون، أمثال أنصار حزب ميرتس، أن يرفعوا في الوقت ذاته رايتي الصهيونية والديمقراطية الليبرالية لا تعدو كونها أكثر من مجرّد وهم
وهي دعوة أتت، بادئ ذي بدء، في الأعوام القليلة الفائتة، على خلفية سنّ "قانون القومية" الإسرائيلي في عام 2018، وتنامت أكثر فأكثر في ظل الأزمة الحكومية التي شهدتها إسرائيل تحت تأثير محاولات وضع حدّ لعهد حُكم بنيامين نتنياهو. وما ينبغي قوله أيضًا في هذا السياق، أن هذه الدعوة موجهة في الوقت عينه إلى جهات تحاول إعادة إنتاج العقيدة الصهيونية، عبر تجميل صورتها، في مواجهة آخر مظاهر التطرّف والتوحش، كما تنعكس في الوقت الراهن على سبيل المثال في الأراضي المحتلة منذ عام 1967 وفي القدس، وذلك على أساس الادعاء أن ما وقف وراءها هو حركة قومية علمانية سعت لتحرير اليهود من ظلم الشتات، منطلقة من علمنة الديانة اليهودية، من ضمن أمور أخرى.
في جميع الأحوال؛ فإن أهمية هذه الأصوات تكمن في أنها تقرأ على نحوٍ صائبٍ جوهر العقيدة الصهيونية. وفي واقع الأمر فهي تعيد إلى الأذهان ماهية قراءات سابقة لها، ولا سيما تلك القراءات التي تزامنت مع انطلاقها، وبالأساس من طرف حركة "البوند".
هناك الكثير من الشواهد على ما ذكرت، ولا يسمح المجال للتوقف عند جميعها. وأكثر ما يهمنا هو ما تخلص إليه من تبصرات أو استنتاجات فكرية. وسأكتفي بالإشارة إلى اثنين من هذه الاستنتاجات، وهما استنتاجان متصلان: الأول، أن العقيدة الصهيونية لم تُلطّخ تحت وطأة الاحتلال في 1967 فقط، بل ولدت ملطخة في الأصل، فاحتلال ذلك العام هو استمرار مباشر للنكبة الفلسطينية في عام 1948؛ الثاني، أن الطريقة الوحيدة لإنهاء الكولونيالية والأبارتهايد هي عبر النضال ضد إسرائيل وضد الصهيونية، وليس التحالف معهما، من أجل "تخفيف حدّة" تطرفهما، أو "صوغ" طابعهما. وينطوي هذا الاستنتاج على رسالة موجهة بالأساس إلى من يصفون أنفسهم بأنهم "يسار صهيوني"، فحواها أن لفظتي اليسار والصهيونية أوكسيمورون "تناقض ظاهري" فاقع!
عند هذا الحدّ يجدر أن نستعيد ما ترتب على الجدل بشأن "قانون القومية" الإسرائيلي، الذي شرع عام 2018 كما ذكرنا، عدة محاولات تمحورت عمدًا حول تأطير الحركة الصهيونية، انطلاقًا من قاعدة التأصيل والمآل. ومع أن النتائج الناجزة لأغلب تلك المحاولات لم تُصب الهدف المطلوب، وانهمكت بقدر متفاوت من التطييف، فإن بعضها تميّز بأنه وضع الأمور في نصابها، على غرار ما فعل كثيرون ممن سبقوه، منذ تأسيس هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر.
من هؤلاء عدد من الأصوات الأكثر صفاء برأي الكاتب، وعلى وجه الخصوص صوت الأكاديمي نيف غوردون، والأكاديمي عيدان لنداو. فالأول كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية، والتمسك بكل قوة بالأيديولوجيا التي تدفع بالمساواة قدمًا، وشدّد على أنه لا ينبغي على المرء أن يكون راديكاليًا حتى يصل إلى مثل هذه الخلاصة، بل يكفي أن يكون ليبراليًا مستقيمًا وعادلًا.
وقد أوضح غوردون، في سياق جدل خاضه مع إحدى طالباته على صفحات جريدة "هآرتس"، أن الأيديولوجيا الصهيونية، في جوهرها الحقيقيّ، تنصّ على أن الجماعة الإثنية اليهودية تمتلك حقوقًا زائدة في البلد (فلسطين)، بما في ذلك الحق في السيطرة على منظومات القوة السياساتية. ومن أجل ضمان مثل هذا الأمر وعلى مدار كل الأعوام المنصرمة منذ النكبة الفلسطينية في 1948، كان الصهاينة بحاجة إلى أن يقوموا بممارسات آثمة كثيرة، تشمل من بين ما تشمل تهويد الحيّز بواسطة اقتلاع وتركيز سكان المكان الأصليين في مناطق صغيرة وذات مساحة أرض محدودة، وترتيب منظومة العلاقات بين الجماعات المتعددة في المجتمع الإسرائيلي، بشكل يكون فيه المواطنون اليهود هم المسيطرون بالمطلق، والمواطنون الفلسطينيون هم الخاضعون للسيطرة.
ويشير غوردون إلى أن كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو هو أحد أهم الأسفار الفكرية، التي كُتبت في عصر النهضة والتنوير في الغرب، وقد جرى استهلاله بالكلمات التالية: "يولد الإنسان حُرًّا، ويوجد الإنسان مُقيّدًا في كل مكان"، وربط فيه بين الحرية والمساواة. وقد شرح روسو أن حرية الإنسان مرهونة بالمساواة الأساسية في المجتمع، وعندما تكون لجماعة ما حقوق زائدة فإن الجماعة الأخرى تفقد ليس حقوقها فحسب، إنما تُصادر حريتها أيضًا.
شعار "احتلال البلد" مثلًا، وهو أحد الشعارات الرئيسية للصهيونية، لم يكن حصريًا لصهيونية يمينية فقط، إنما كان أيضا شعارًا لصهيونية يسارية تدّعي الاعتدال
بناء على ذلك؛ وحسب ما يؤكد غوردون، عندما تقوم الصهيونية بالتضحية بمسألة مساواة المواطنين الفلسطينيين، على مذبح "مشروعها القومي"، فإنها لا تصادر منهم المساواة فقط، بل وتسلبهم حريتهم أيضًا. وفي ضوء هذا؛ فإن الاستنتاج المنطقيّ هو أن اختيار أي مواطن إسرائيلي الصهيونية كعقيدة، يعني تلقائياً قبوله التضحية بقيمتي المساواة والحرية لكل من هو غير يهوديّ. وفي قراءته فإن محاولة الصهاينة، الذين يُعرّفون أنفسهم بأنهم ليبراليون، أمثال أنصار حزب ميرتس، أن يرفعوا في الوقت ذاته رايتي الصهيونية والديمقراطية الليبرالية لا تعدو كونها أكثر من مجرّد وهم.
ويتابع غوردون أنه وفقًا لما يؤكد عليه روسو، فإن التنازل عن الحرية مثله مثل التنازل عن الإنسانية، وعن الحقوق والواجبات المكفولة لكل إنسان لمجرّد كونه إنسانًا. ونظرًا إلى أن كل عقد اجتماعي يقوم على أساس توزيع معيّن لحقوق مواطني الدولة وواجباتهم، وإلى أن الإنسان المنزوع الحرية هو مواطن من دون حقوق وواجبات، فإن المواطنين الفلسطينيين في أراضي 1948 لا يمكنهم أن يكونوا شركاء حقيقيين في العقد الاجتماعي الإسرائيلي. وكما يؤكد تقتضي الاستقامة الفكرية القول: إن المواطنين الفلسطينيين بالنسبة إلى الصهيونية، بما في ذلك التيارات الليبرالية، هم لا أكثر من عائق أو مصدر إزعاج.
أمّا لنداو فأكد أن "الأبارتهايد الإسرائيلي"، كما يصفه، هو "جزء حيّ منّا، من تكويننا. وليس أن لغالبية الإسرائيليين حصة فيه ودورًا فقط، إنما هي تستفيد منه أيضا"! ولذا فـ "من الصعب التجنّد ضده، لأن النضال ضده يعني، في الوقت ذاته، النضال ضد مجتمعك، ضد أقاربك، وأحيانا كثيرة ضد نفسك ذاتها، أو ضد أجزاء من شخصيتك"!
كتب بصريح العبارة أن الفكرة الصهيونية هي رديف التهويد، ونقيض الحرية والمواطنة المتساوية. وجزم بأنه حان الوقت للانفصال عن الصهيونية، والتمسك بكل قوة بالأيديولوجيا التي تدفع بالمساواة قدمًا
أخيرًا، على ذكر ما تسبّبت به العقيدة الصهيونية من تضحية المنضوين تحت لوائها بقيمتي الحرية والمساواة، لا بُدّ من أن نشير كذلك إلى أن الشاعر والأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكي نشر في عام 1927 مقالات في صحف يونانية؛ كانت تصدر في مصر، اشتملت على انطباعاته من رحلته إلى فلسطين لحضور أعياد الميلاد هناك، ومن ضمن ما تضمنته عبارات وجهها إلى فتاة يهودية تبنّت الصهيونية، ورد فيها: "لقد بدأتِ بفقد حريتك، وتقييد نفسك، وتضييق مساحة قلبك، الذي أصبح الآن يميّز ويفرّق ويختار ولا يتقبّل سوى اليهود... ويجب أن تشعري بالخطر!".