لم تعد أخبار الخروقات التي قام بها رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بوريس جونسون أثناء وجوده في منصبه مفاجئة، بل إنها لكثرتها ولتسارع وتيرة الكشف عنها باتت عادية في الوعي العام ومضجرة، بالضبط كما تحوّل الإفلات من المحاسبة والتهرّب من المسؤولية أمراً عادياً وسمة عامة تلاحق "حزب المحافظين" الحاكم منذ 13 عاماً.
وفي هذا السياق، لم يحمل ما أوردته صحيفة "ذا غارديان"، في عددها الصادر اليوم الخميس، أي جديد، سوى أن الزعيم المحافظ قام أيضاً ضمن الخروقات العديدة التي قام بها في أوج تفشّي وباء كوفيد-19، وفي عزّ إجراءات الإغلاق التي فرضها هو بنفسه، باستضافة صديقته منظمّة الحفلات ديكسي مالوني في مقرّه الريفي لتساعده هو وزوجته في تنظيم حفل زفافهما في صيف العام 2021.
ومع أن "التجمّعات الداخلية" كانت ممنوعة بموجب القانون ومحصورة بـ"الضرورة القصوى"، إلا أن المتحدث باسم جونسون اعتبر، بحسب الصحيفة، أن إقامة مالوني في المقرّ الصيفي لرئيس الوزراء كانت "ضرورية" لأنها ساعدتهما في رعاية طفلهما، ولأن زوجته كاري كانت حاملاً في ذلك الحين.
مجدّداً، ليس "التحايل" على القوانين ولا اللعب على الكلمات والمصطلحات مفاجئاً ضمن السياق العام الموسوم بالانحدار والفساد والمحسوبية وكل المفردات الأخرى التي تنفي ما تبنّاه ريشي سوناك من قيم وشعارات بعد فوزه في السباق إلى الزعامة.
ويبدو لافتاً أن تنشغل الصحافة المحلية العريقة منها والصفراء بالخروقات التي أقدم عليها جونسون أكثر بكثير من انشغالها بالاجتماعات التي يعقدها سوناك في واشنطن هذه اللحظة إلى جانب الرئيس الأميركي جو بايدن والرؤساء التنفيذيين لأهم شركات الأعمال في الولايات المتحدة.
واللافت أكثر هو عدم اكتراث حكومة "المحافظين" بما تسبّبت به من انهيار عام خلال السنوات الماضية، بحيث باتت "بريطانيا العظمى" ترمز إلى انتهاك القانون والتحايل عليه والفساد وغياب المساءلة والمحاسبة والعنصرية والتطرّف، أكثر ربما مما تحيل إلى "سيادة القانون" والحريات والتعددية والديمقراطية، لأن اللاعبين الأساسيين فيها إما أنهم يخضعون لتحقيقات الشرطة بسبب الأخطاء التي ارتكبوها، أو مطالبين بالاستقالة على خلفية سلوكهم غير القانوني، أو أنهم سيستقيلون في أي لحظة عندما تثبت إدانتهم.
والأشدّ إدهاشاً هو أن بعضهم لا يزال في منصبه رغم ما أدين به من أخطاء وخروقات، مثل وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، التي رفض سوناك إخضاعها للمزيد من التحقيقات في قضية تجاوزها القانون مرّتين خلال الصيف الماضي، مرة عندما تجاوزت حد السرعة المسموح به، ومرة ثانية عندما تهرّبت من جلسات التوعية الجماعية التي يخضع لها كل من تجاوز السرعة وأصدرت الشرطة بحقه مخالفة. لكن إعفاءها من التحقيق لا يبدو فجّاً على الإطلاق، لأن سوناك عيّنها في منصبها بعد أن كانت قد استقالت من حكومة ليز تراس بسبب خرقها القانون وتسريبها معلومات سرّية عبر بريدها الإلكتروني الخاص.
كما أن سوناك نفسه خرق القانون أكثر من مرة منافساً بوريس جونسون على لقب "أول رئيس حكومة بريطاني تصدر الشرطة بحقه غرامة". هذا، إضافة للتهرّب الضريبي الذي استقال على أثره رئيس حزب المحافظين ناظم الزهاوي، والتنمّر الذي دفع وزير العدل دومينيك راب للاستقالة أيضاً.
ثم يحدث أن يقرأ الناخب وسط كل هذا الانهيار عن "قائمة شرف" يعدّها بوريس جونسون لتكريم 50 شخصاً من "الموالين" له ومن المتبرّعين لحزبه. وجرت العادة أن يعلن رؤساء الوزراء المنتهية ولايتهم عن "قائمة شرف" تضمّ أسماء شخصيات رفيعة المستوى سياسياً واقتصادياً وفكرياً، وتتيح لتلك الشخصيات الالتحاق بمجلس اللوردات، على أن تتخلّى عن مناصبها في مجلس العموم.
إلا أن قائمة الشرف الخاصة بجونسون، والتي من المفترض أن تضمّ شخصيات قدّمت إنجازات ضخمة للمصلحة الوطنية العليا، تأخّرت لعدة شهور بسبب التحقيقات الجارية حول "تضليله المتعمّد" للبرلمان، وبسبب وجود بعض الشخصيات المثيرة للجدل، بحسب مصدر مقرّب من "حزب المحافظين" مثل ديفيد روس، أحد المتبرّعين الأساسيين للحزب، والذي أهدى جونسون "إجازة عائلية" عام 2021 إلى جزيرة "الأثرياء" موستيك في بحر الكاريبي.
قائمة الشرف الخاصة بجونسون تأخّرت لعدة شهور بسبب التحقيقات الجارية حول "تضليله المتعمّد" للبرلمان
ويحدث أيضاً أن يطغى خبر رضوخ سوناك لهذه القائمة ومباركته لها على "إنجازاته" الخارجية في واشنطن والاتفاقات التي سيعلن عنها مع "أقرب حليف" للمملكة المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أن "مباركة" سوناك، وإن كانت تستجدي توحيد صفوف الحزب المنقسم أكثر من أي وقت مضى، وتفادي المزيد من الخلافات الشخصية والعامة، إلا أنها تخاطر أيضاً بجرجرة الحزب إلى انتخابات فرعية مبكّرة في الخريف المقبل، لأن أعضاء الحزب المكرمّين لن تطأ أقدامهم مجلس اللوردات قبل أن يستقيلوا من مجلس العموم. وبالتالي، ستعجّل هذه الخطوة موعد الامتحان القاسي الذي قد يخسره الحزب الحاكم أمام "حزب العمال" المعارض، لا سيما بعد الفوز الذي حقّقه في الانتخابات المحلية الشهر الماضي.