يواصل التحالف الحاكم في العراق، "الإطار التنسيقي"، تحقيق مزيد من المكاسب السياسية على حساب غريمه التقليدي "التيار الصدري"، إذ نجح بعد جلسات صاخبة داخل البرلمان في تمرير قانون الانتخابات الجديد، الذي يقابل بالرفض الشديد من القوى والأحزاب المدنية والمستقلة، إلى جانب "التيار الصدري"، بزعامة مقتدى الصدر.
تمرير القانون يوصف بأنه هدم آخر منجز للتظاهرات العراقية الواسعة التي عمت مدن جنوب ووسط البلاد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، والتي أجبرت البرلمان آنذاك على تشريع قانون انتخابي أتاح صعود قوى مدنية ومستقلة.
وسيكون القانون الجديد متاحاً للتطبيق في انتخابات مجالس المحافظات والبرلمان في آن واحد، ويعتمد على نظام الدائرة الواحدة في كل محافظة، وعلى آلية "سانت ليغو" في احتساب أصوات الناخبين، بدلاً من أن يكون الفائز هو من يحصل على أعلى عدد أصوات في دائرته الانتخابية.
ويُنظر للقانون الجديد، الذي اعتبره نواب مستقلون بأنه "مُفصّل على مقاس الكتل الكبيرة"، في كونه يخنق الأحزاب والقوى الناشئة والمرشحين المستقلين. كما أنه يتيح ضياع أصوات الناخبين للحزب أو المرشح المنفرد، خصوصاً بعد اعتماد قاسم انتخابي يبلغ 1.7، وهي نسبة عالية، فالدول التي تعتمد نظام التمثيل النسبي في انتخاباتها تعتمد القاسم 1.4.
وكلما ارتفع القاسم الحسابي لأصوات الناخبين تقل حظوظ الأحزاب الصغيرة والمرشحين الداخلين في قوائم منفردة، لصالح الأحزاب الكبيرة، خصوصاً الدينية منها، التي تدخل بعدد كبير من المرشحين، وتمتلك إمكانيات مالية واسعة، عدا عن وجود جمهور ثابت لها.
القانون لا يصب في صالح تحالف "الإطار التنسيقي" فقط، إذ صوّتت لصالحه القوى العربية السنّية والكردية أيضاً، في إشارة إلى التقاء مصالح الأطراف الثلاثة على القانون، الذي يضيّق الخناق على القوى المدنية والمستقلة الناشئة في مناطق كل طرف، شمال وغرب وجنوب ووسط البلاد.
ما زال "التيار الصدري" غائباً عن مشهد التعليق على الحدث
وسيتعيّن على الأحزاب المدنية والقوى المستقلة، جمع شتاتها وتجاوز الخلافات البينية القائمة حالياً، والدخول في تحالف أو قائمة انتخابية واحدة، تتوزع على جميع الدوائر الانتخابية في العراق، والبالغ عددها وفقاً للقانون الجديد 19 دائرة انتخابية، على عدد المحافظات العراقية. وهذه الدوائر هي: البصرة، والقادسية، وذي قار، وميسان، وبابل، وواسط، والمثنى، وكربلاء، والنجف، وبغداد، وصلاح الدين، والأنبار، ونينوى، وكركوك، وديالى، والسليمانية، وأربيل، ودهوك، وحلبجة.
في المقابل، فإن "التيار الصدري"، الذي يُعتبر أبرز المتضررين من القانون، ما زال غائباً عن مشهد التعليق على الحدث. ويسمح القانون بتشتت أصوات الصدريين، خصوصاً أن أصوات مدن كاملة ستذوب مع مدن أخرى أكبر منها.
ومن المعروف أن جمهور التيار الصدري يتركز في مناطق محددة، لا سيما في بغداد وذي قار وكربلاء والنجف والبصرة، وهو ما سيسمح لقوى "الإطار التنسيقي"، وتحديداً حزب "الدعوة الإسلامية"، وتحالف "الفتح"، الجناح السياسي لـ"الحشد الشعبي"، استعادة أصوات سابقة له، حصل عليها في انتخابات 2018 وفقدها في انتخابات 2020.
و"سانت ليغو"، هي طريقة حساب رياضية تُتبع في توزيع أصوات الناخبين بالدول التي تعمل بنظام التمثيل النسبي، وتعتمد على تقسيم أصوات التحالفات على الرقم 1.4 تصاعدياً، وفي هذه الحالة، تحصل التحالفات الصغيرة على فرصة للفوز.
لكن العراق وعلى مدى جولات انتخابية عدة، خصوصاً في انتخابات 2006 و2010 و2014، اعتمد قواسم انتخابية مرتفعة، أبرزها 1.9 عام 2014، وهو ما جعل حظوظ الكيانات السياسية الكبيرة أكبر على حساب المرشحين الأفراد (المستقلين والمدنيين)، وكذلك الكيانات الناشئة والصغيرة.
مشادات كلامية وخلافات
وشهدت جلسة التصويت الأخيرة على القانون، التي استمرت حتى ساعات الفجر الأولى من يوم أمس الإثنين، مشادات كلامية وصراخ بين النواب المستقلين ورئاسة البرلمان، ما دفع الأخيرة إلى طلب دخول قوات الأمن إلى قاعة البرلمان.
وأظهرت مقاطع فيديو عمليات تدافع داخل ممرات القاعة بين النواب الرافضين للقانون وقوات الأمن، انتهت بإخراج عدد من النواب بالقوة من القاعة التشريعية لإكمال جلسة التصويت. وتم تمرير القانون بتصويت 218 نائباً من أصل 329 نائباً في البرلمان.
أبرز المآخذ على القانون
وألزم القانون الجديد إجراء انتخابات مجالس المحافظات قبل 20 ديسمبر/كانون الأول المقبل، لكنه ترك مسألة الانتخابات البرلمانية المبكرة من دون تحديد سقف زمني، وهو ما يفتح الباب مجدداً للتشكيك بجدية تراجع "الإطار التنسيقي" وحكومة محمد شياع السوداني عن إجراء انتخابات خلال عام واحد، وفقاً لما ورد في برنامجه الحكومي المُصّوت عليه نهاية أكتوبر العام الماضي.
وحمل القانون الجديد فقرات عدة لافتة، كما في اشتراط تصويت النازح أن يكون مسجلاً في وزارة الهجرة العراقية، وهي نقطة إشكالية من عدة أوجه، أبرزها أنه ليس كل النازحين مسجلين في وزارة الهجرة، وهناك من يقيم على حسابه الخاص في مدن أخرى، وقسم من سكان المدن منزوعة السكان تتعامل معهم وزارة الهجرة على أنهم قضية أمنية وسياسية، كما في حال مخيمات بزيبز والعامرية التي تؤوي نازحي جرف الصخر والعويسات.
كما أن هذا الاشتراط مخالف لفقرات في الدستور، الذي أجاز للعراقي الإقامة في أي مكان يريده بالبلاد، ومنع مصادرة حقه في التصويت، بما في ذلك نزلاء السجون المدانون.
كما تضمن القانون تخصيص 9 مقاعد فقط للديانات والعرقيات العراقية، وهي نسبة قليلة جداً، تم اعتمادها على الموجودين منهم داخل العراق وليس النازحين أيضاً، إذ منح للمسيحيين خمسة مقاعد فقط من أصل 329 في البرلمان.
ومعروف أن لكل 100 ألف عراقي نائب واحد في البرلمان، وهو ما يعني تقدير 500 ألف مسيحي من دون النظر إلى وجود أكثر من 700 ألف نازحين في دول مختلفة منذ سنوات، والأمر ذاته للمكون الصابئي والشبكي والإيزيدي والفيلية، بواقع مقعد لكل مكون منهم.
كما تضمّن القانون عملية عد وفرز الأصوات داخل محطات الاقتراع، وهو إجراء ثبُت في انتخابات عديدة حصول عمليات تزوير واسعة في عملية العد والفرز، وأخطاء حسابية كبيرة، كان أبرزها في انتخابات عام 2014.
واللافت إشارة القانون في المادة العاشرة منه، إلى إلزام الحكومة بالعمل على إعادة نازحي نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، في وقت أفرد القانون فقرة لنازحي جرف الصخر وسنجار بالحديث عن فتح محطات اقتراع في مخيماتهم، وهو ما يشير إلى استعصاء إقناع المليشيات بإنهاء سيطرتها على جرف الصخر، وكذلك الحال بالنسبة لمسلحي حزب العمال الكردستاني الذي يوجد في سنجار.
توعّد النواب المدنيون والمستقلون بالطعن في القانون
كما حرم القانون عراقيي الخارج البالغ عددهم أكثر من 6 ملايين، من التصويت، وألزمهم العودة للعراق في حال رغبتهم التصويت بالانتخابات، وهو ما يعني ضياع أصوات مهمة للمدنيين والقوى العلمانية والمستقلة.
وعالج القانون أزمة انقلابات النواب الفائزين وانتقالهم من حزب أو كتلة إلى أخرى، في الفقرة 13 من القانون بمنع انتقالهم إلى أي كتلة قبل تشكيل الحكومة في ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية، أو اختيار المحافظ في ما يتعلق بانتخابات مجالس المحافظات.
وفي سياق ما يتم الاستدلال به في تفصيل القانون على مقاس الأحزاب، أورد أيضاً أن النائب المتوفى أو المستقيل أو المطرود يُستعاض عنه بمرشح من قائمته أو حزبه نفسه، وليس بالفائز الثاني الحاصل على أعلى الأصوات، وهو ما يتيح للحزب أو الكتلة ضمان نسبتها في البرلمان، حتى مع طرد أحد نوابها لسبب ما أو وفاته.
طعن أمام القضاء
وتوعّد النواب المدنيون والمستقلون بالطعن في القانون أمام المحكمة الاتحادية، مؤكدين أن القانون مرر بشكل غير قانوني وجرى التلاعب بعدد الحضور في الجلسة الأولى التي عُقدت يوم الإثنين في 20 مارس/آذار الحالي.
وقال عضو كتلة "إشراقة كانون" في البرلمان زهير عبد الله، للصحافيين في بغداد، إن "النواب الرافضين لقانون سانت ليغو سيطعنون في دستورية جلسة البرلمان لدى المحكمة الاتحادية".
كما أوضح رئيس كتلة "امتداد" المدنية علاء الركابي، في تصريح له، أن "الأحزاب الصغيرة لن يكون لديها أي أمل بالحصول على تمثيل في البرلمان، وأنها سوف تُسحق، إذا ما طبّق القانون الجديد"، مؤكداً أن الحركة ستطعن بالقانون أمام القضاء.
كما قال النائب المستقل حسين السبعري، في تصريح صحافي، "سنذهب باتجاه المحكمة الاتحادية للطعن في الجلسة"، مؤكداً أنه "بعد التصويت انتهت الحلول الوسطى، والكتل الكبيرة مصرة على تهميش الآخر". وتابع: "سنوحد مواقفنا وننسق بين القوى المعارضة لتكون لدينا قوة داخل البرلمان".
نائب رئيس مجلس مفوضية الانتخابات السابق، سعد الراوي قال، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الملاحظات كثيرة" على القانون الذي جرى التصويت عليه.
وأضاف الراوي أن "القانون غير مفصل، وسيطرح إشكالات كثيرة وسيُفسر لصالح الفاعل السياسي. مثلاً لغاية الآن لا يوجد لدينا تفسير للكتلة الكبرى، وتعدد التصويت والعد والفرز يدوي وإلكتروني وتدقيق سجل الناخبين، كما أنه لا وجود لعقوبات واضحة حيال مخالفي الحملات الانتخابية، وهذا إشكال كبير في القانون، بما فيها استعمال معدات ومقدرات الدولة لصالح الأحزاب".
وتابع الراوي أن "الأحزاب الناشئة وغيرها تحتاج إلى دراسة القانون الجديد، ووضع خطة انتخابية مستفيدة من فقراته، وعلى ضوئها توزع المرشحين والناخبين المؤيدين".
واعتبر أن تلك القوى لديها فرصة إذا استطاعت استقطاب أكثر من 60 في المائة من الناخبين الذين عزفوا سابقاً وإقناعهم بمشروع سياسي إصلاحي جديد ومختلف. من جهته، اعتبر الباحث والمختص في الشأن السياسي العراقي عمر الجنابي، أنه بعد تشريع قانون الانتخابات الجديد، "يكون المشهد قد عاد كلياً إلى ما قبل تظاهرات تشرين/أكتوبر 2019، أو بالأصح إلى ما قبل 2014".
الأحزاب الدينية أبرز المستفيدين
وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "أبرز المستفيدين من القانون هي الأحزاب الدينية القائمة على التمثيل الطائفي، وهو ما يعني أن العراق سيبقى رهن الخطاب الطائفي، مع استمرار وجود الأحزاب ذاتها في السلطة".
ورأى أن "ما حصل عملية تأمين حصص للأحزاب في كل انتخابات، وليس تصويتاً على قانون انتخابي طبيعي، والهدف هو الحد من خطر المدنيين والمستقلين الذين حققوا نتائج مهمة بالانتخابات الأخيرة". وتابع: "الإطار التنسيقي تمكن من تحويل هزيمته في الانتخابات، إلى تمكين واستحواذ على كامل المشهد".
الجنابي: بعد تشريع القانون عاد المشهد إلى ما قبل 2014
وحول المُتوقع من "التيار الصدري" بعد إقرار القانون، قال الجنابي إن "التيار الصدري مضطر للقبول بالأمر الواقع، وتنظيم نفسه من جديد على ضوء القانون الجديد، لأنه في النهاية تكتل أيديولوجي، وجمهوره يتبع قيادة دينية، وسبق له المشاركة في عدة انتخابات بهذا القانون وله خبرة جيدة فيه".
وأضاف أن "الصدر ترك المستقلين والكتل الناشئة وحدهم كما تركوه عندما كان بحاجة لهم لتشكيل الحكومة، وأخذ موقف الحياد وأكمل اعتزاله وابتعاده عن المشهد. كما أخذوا هم موقف الحياد بينه وبين الإطار التنسيقي، حيث سبق له أن حذرهم من الخسارة في حال البقاء على الحياد وعدم الاصطفاف مع أحد الجانبين". وختم بالقول: "في النهاية الخاسر الأكبر ليس الصدر، بل الأحزاب الناشئة والمستقلون الذين سيضطرون إلى لملمة الشتات والدخول بقائمة موحدة لا رأس لها".