قبرص.. 7 أعلام فوق جزيرة الـ 9200 كيلومتر

28 سبتمبر 2024
قوات الأمم المتحدة تفصل بين الجانبين في قبرص وتدير معابر للانتقال بينهما (Getty)
+ الخط -

لا تتجاوز مساحة جزيرة قبرص 9200 كيلومتر مربع، ولكنها كانت هدفاً لأي قوة كبرى في المنطقة بسبب موقعها الاستراتيجي. ضم الإسكندر الأكبر الجزيرة لإمبراطوريته في عام 333 قبل الميلاد. وفي عام 395 للميلاد أصبحت قبرص دولة يحكمها حاكم مسيحي. وصل إليها العرب خلال حكم معاوية بن أبي سفيان، وبدأ وجود الإسلام في الجزيرة منذ ذلك الوقت. بعدها تنازع البيزنطيون وجمهورية البندقية ونبلاء أثرياء على الجزيرة، واستمر الحال إلى عام 1571 عندما ضمتها الدولة العثمانية لحكمها، واستمرت سيطرتها على الجزيرة لأكثر من 300 سنة. ما يعبر عن تاريخ قبرص اليوم والتناقضات والصراعات التي عاشتها وتعيشها الجزيرة هي لوحة الأعلام المكونة من سبعة أعلام موجودة على أرضها. بدأت قصة الأعلام السبعة مع إنزال الأميرال البريطاني اللورد جوهن هاي العلم العثماني في لشكوفا (التسمية التركية لنيقوسيا)، في عام 1878 حين انتقلت إلى حكم بريطانيا بعقد إيجار. وسلمت إدارة الجزيرة من آخر والٍ عثماني وهو الباشا بسيم، ورفع العلم البريطاني على الجزيرة وما زال مرفوعاً إلى يومنا هذا على الأراضي البريطانية في الجزيرة أكروتيري وديكيليا. 
كان الدافع لرفع أعلام مختلفة هو شعور القبارصة اليونانيين بالانتماء لليونان، والقبارصة الأتراك بالانتماء لتركيا ومحاولات الطرفين تثبيت الهيمنة في مناطقهم. وبالرغم من إصدار الحاكم البريطاني في عام 1931 قرار منع رفع أي علم أجنبي في الجزيرة إلا أن ذلك لم يتحقق وما زال السكان في الجزيرة إلى اليوم يرفعون علم البلدين بمناسبات مختلفة. يمكن لحادثة إرسال علم تركي ضخم في عام 1972 والاحتفاء به أن يُظهر مدى رمزية هذا الأمر، فقد نشرت الصحف في حينها خبراً معنوناً بـ"العلم المرسل من الوطن الأم إلى الوطن الابن…أرسلت تركيا علماً بطول 12 متراً وقطر 18 متراً ووزن 65 كيلوغراماً إلى قبرص". 
أعلن في عام 1960 عن قيام جمهورية قبرص بموجب اتفاقية زيورخ ولندن مع وضع بريطانيا واليونان وتركيا بصفة ضامنين لحفظ سلام الجزيرة، وتم تصميم علم خاص بها من قبل القبرصي التركي عصمت غوني، وهو العلم الذي ما زال ليومنا هذا معتمداً لجمهورية قبرص (الجنوبية). في عام 1964 رفع في الجزيرة العلم الخامس وهو علم الأمم المتحدة مع دخول قواتها للجزيرة لحفظ الوضع الذي كان آخذاً في التدهور بين القبارصة الأتراك واليونان. وهي القوات التي ما زالت موجودة لليوم على الخط الفاصل بين الطرفين. بعد انقلاب مدعوم من اليونان، تدخلت القوات التركية بوصفها دولة ضامنة في قبرص في عام 1974، وتم الإعلان في شمال قبرص عن الجمهورية التركية لشمال قبرص في عام 1983، وصمم علم للجمهورية الجديدة. اكتملت لوحة الأعلام السبعة مع انضمام علم الاتحاد الأوروبي إلى مجموعة أعلام الجزيرة، فقد رفع العلم في الجزيرة في مايو/ أيار 2004 مع انضمام جمهورية قبرص (الجنوبية)، إلى الاتحاد الأوروبي.

مطار نيقوسيا المهجور في المنطقة العازلة ويظهر علم شمال قبرص (Getty)
مطار نيقوسيا المهجور في المنطقة العازلة ويظهر علم شمال قبرص (Getty)

استئجار الجزيرة
بدأت القصة عندما أجّرت الدولة العثمانية الجزيرة لبريطانيا في عام 1878 مقابل مبلغ سنوي، فيما يحافظ العثمانيون على سيطرتهم على الجزيرة. هدف البريطانيون من استئجار الجزيرة إلى ضمان أمن المناطق التي يسيطرون عليها مقابل ضعف الدولة العثمانية وخساراتها الكبيرة أمام الروس، ما دفعها لقبول طلب الجانب البريطاني بالجزيرة لكي تكون قاعدة قريبة وقادرة على حماية العثمانيين عند الحاجة. كما نص الاتفاق على أن تنسحب بريطانيا من الجزيرة في حال انسحبت روسيا من شرق الأناضول. إلا أن البريطانيين منذ وصولهم للجزيرة فرضوا سيطرتهم وأنشأوا شكل سلطتهم الخاص، وأرسلوا موظفين بريطانيين ليحلوا مكان العثمانيين. وأصبحت اللغة الإنكليزية هي الرسمية في تعاملات الجزيرة بالإضافة إلى اللغتين التركية واليونانية. كما لم تدفع بريطانيا بدل إيجار الجزيرة مقابل القروض الممنوحة للدولة العثمانية ونفقات إدارة الجزيرة. وهذا تسبب بإزعاج للقبارصة لأنهم كانوا يدفعون ديناً لا علاقة لهم به.

قبرص البريطانية
مع بداية الحرب العالمية الأولى ودخول الدولة العثمانية ضمن تحالف دول المحور، أصدرت بريطانيا قرار إلحاق الجزيرة بها، واعتبارها أراضي بريطانية. وفي عام 1915 عرضت منح الجزيرة لليونان في حال انضمت الأخيرة لدول الحلفاء. لكن الملك اليوناني رفض هذا العرض لأنه لم يكن يريد الدخول بحرب ضد العثمانيين. اعترفت تركيا بعد اتفاقية لوزان بأن قبرص ملكية بريطانية، ومنح القبارصة الأتراك مهلة عامين في حال رغبتهم بأن ينتقلوا إلى تركيا ويصبحوا مواطنين أتراك. أصبح المفوض السامي هو حاكم الجزيرة باسم الملك. وأصبح الأتراك مخيرين بين الجنسيتين القبرصية والبريطانية. الذين اختاروا الجنسية التركية هاجروا للأناضول، والذين اختاروا البريطانية ذهبوا لبريطانيا أو إحدى مستعمراتها. وارتفع عدد السكان المسيحيين من 180 ألفا إلى 250 ألفا، ومن نسبة سكان 74% إلى 80%، وانخفضت نسبة الأتراك من 25% إلى 20%. لم تكن الحكومة البريطانية تريد كسر التوازن الكامل بين المسلمين والمسيحيين في الجزيرة، بل كانت ترغب بإبقاء قوة للمسلمين لكي تستخدمهم ضد اليونان في حال دعت الحاجة لذلك. 
وفي عام 1925 تم إلغاء منصب المفوض السامي، وإعلان قبرص مستعمرة للمملكة البريطانية.

وثيقة الجنسية التركية للسيد محمد مصطفى والسيدة خليدة في عام 1926 بعد اتفاقية لوزان
وثيقة الجنسية التركية للسيد محمد مصطفى والسيدة خليدة في عام 1926 بعد اتفاقية لوزان (فيسبوك)

المسلم والمسيحي
شكلت بريطانيا مجلسا تشريعيا في الجزيرة يتألف من تسعة يونانيين وثلاثة أتراك وستة بريطانيين. أحالت في البداية الموظفين الأتراك إلى التقاعد واستبدلتهم بموظفين يونانيين. وتسبب هذا التهميش بخروج الأتراك من الجزيرة، بالإضافة إلى تحول بريطانيا من اعتماد تقسيم مسيحي - مسلم للسكان إلى شكل تركي - يوناني جعل كل مسلمي الجزيرة أتراك، وكل مسيحيي الجزيرة يونانيين. أول هجوم تعرض له المسلمون من قبل يونانيين في الجزيرة حصل في عام 1894 عندما رمت مجموعة منهم الحجارة على المصلين يوم الجمعة، وتطور الأمر لمهاجمة حي تركي في نيقوسيا في عام 1895، حيث كان ينظر اليونانيون للأتراك باعتبارهم محتلين سابقين ويدعمون المحتل الحالي للجزيرة. في المقابل، لم ينطلق أي عمل تركي منظم في الجزيرة إلا في عام 1911 عندما نظم محمد شوكت بيك وقفة احتجاجية ضد الاعتداءات وإلحاق الجزيرة باليونان. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، عقد الأتراك مؤتمرا يرفض إلحاق الجزيرة باليونان، وشكلوا وفدا برئاسة مفتي الجزيرة للذهاب إلى باريس. في حرب الاستقلال التركية، كانت الجبهة التركية - اليونانية هي الأكثر سخونة فيها، وهناك يونانيون وأتراك في الجزيرة ذهبوا للأناضول للمشاركة في الحرب.

سيرة سياسية
التحديثات الحية

إنوسيس
تطوّر الخطاب القومي عند القبارصة اليونانيين في الجزيرة مع صعود الخطاب القومي في اليونان في بداية القرن التاسع عشر. رفض القوميون القبارصة كلاً من الأتراك والبريطانيين، وأوضحوا مطالبهم منذ بداية دخول البريطانيين عندما اجتمع أسقف لارنكا مع البريطانيين يوم وصولهم إلى الجزيرة، وطالبهم بأن يعملوا على توحيد الجزيرة مع اليونان. وفي برقية أرسلها السفير البريطاني في إسطنبول هنري لايارد إلى وزارة الخارجية البريطانية في عام 1878، أوضح أن مطامع اليونانيين في الجزيرة كبيرة وأنهم سيقومون بكل شيء من أجل طرد الأتراك من الجزيرة وتوحيدها مع اليونان. بدأت بريطانيا في عام 1930 تضعف، ووصلت حركة التحرر ضد البريطانيين من مستعمراتها في آسيا وأفريقيا إلى جزيرة قبرص. لكن شعار التحرر لم يكن بهدف استقلال الجزيرة فقط، بل كان بهدف الوحدة مع اليونان، حيث خرج مصطلح "إنوسيس" على جدران الكنائس. لم يفهم ما المقصود منه، ولكن بعد فترة فُهم أن معناه الوحدة مع اليونان، وبدأت الكنائس تدعو لذلك. تجاوزت الكنائس الموضوع من شعارات إلى إجراء استفتاء وافق فيه 96% من الروم (المسيحيين) على الانضمام لليونان. رافق هذا التأييد انتخاب المؤيدين للوحدة مع اليونان مكاريوس الثالث رئيساً للكنيسة القبرصية الأرثوذكسية وهو بعمر الـ37 عاماً، وهو من أشد المؤيدين للوحدة مع اليونان. واكتمل السيناريو مع إرسال اليونان القائد العسكري القبرصي الذي كان يخدم في جيش اليونان جورجيوس غريفاس القبرصي ليقود الكفاح المسلح وحرب العصابات في قبرص. 

الأسقف مكاريوس الثالث (1913 - 1977)، رئيس أساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية وأول رئيس لجمهورية قبرص (Getty)
الأسقف مكاريوس الثالث (1913 - 1977)، رئيس أساقفة الكنيسة القبرصية الأرثوذكسية وأول رئيس لجمهورية قبرص (Getty)

الأتراك وجمهوريتهم
لم يظهر الأتراك أي رد فعل ضد حكم البريطانيين في وقت كان فيه الروم يتصدرون المشهد ضد السلطة الحاكمة. وبسبب حاجة البريطانيين للشرطة، فتحوا باب التطوع وأدخلوا الكثير من الأتراك لكي يمنعوا حركات التمرد اليونانية. وأصبح هناك توازن في القوة بين المجموعتين في الجزيرة: الأولى مسلحة تسليح عصابات والثانية مسلحة بسلاح الشرطة، في عام 1958 كان عدد أفراد الشرطة الأتراك 1700 وعدد عناصر الشرطة اليونانيين 70 في الجزيرة. وفي قوات الشرطة الاحتياطية كان عدد الأتراك 542 ولم يكن فيها أي يوناني. يقول رؤوف دينتاش، رئيس اتحاد القبارصة الأتراك: "كان نضال الروم من أجل الوحدة مع اليونان، ونضالنا لأجل بقاء قبرص تركية وستبقى تركية. كنا نعتقد بأن تركيا ستأتي وأننا على أراض تركية، وأنه إذا خرج البريطانيون سيعود الأتراك، لذلك رأينا أن مكاننا الطبيعي هو مع البريطانيين الذين يضربون من يريد الوحدة مع اليونان". في الخمسينيات، لم تكن لدى تركيا سياسة خاصة لقبرص. إلا أنه بعد تنظيم اليونانيين استفتاء الضم قال وزير الخارجية التركي نجم الدين صادق: "لا يوجد شيء اسمه المسألة القبرصية، لأن قبرص اليوم هي تحت الحكم والإدارة البريطانية ولدينا قناعة بأن انكلترا ليست لديها النية أن تنقل أراضي من سيطرتها إلى دولة ثانية. لذلك لا داعي لأن ينفعل شبابنا بشكل زائد".
لكن عمليات القتل واقتراب الوصول إلى نقطة خسارة الجزيرة دفعت تركيا إلى إرسال قوات في عام 1974 لشمال قبرص، وسيطرت هذه القوات على شمال الجزيرة، وتم تأسيس دولة فيدرالية للقبارصة الأتراك. في عام 1983، تم الإعلان عن قيام جمهورية شمال قبرص. حاولت تركيا من خلال المفاوضات والاتفاقيات التي وقعت في عامي 1977 و1979 أن تجعل قبرص دولة فيدرالية واحدة بإقليمين تركي ويوناني، لكن ذلك لم ينجح.

الجيش التركي يدخل شمال قبرص عام 1974 (Getty)
الجيش التركي يدخل شمال قبرص عام 1974 (Getty)

ماذا عن جمهورية الشمال اليوم؟ 

في مقال بعنوان "الأخطاء منذ خمسين سنة والدولة المرتبطة في تركيا"، كتب كايا تركمان في مجلة "تاريخ" يحلل العلاقة التركية ــ القبرصية، حيث يقول إن المحاولات لجعل شمال قبرص دولة مستقلة لم تتحقق لأن أنقرة كانت الحاكم الحقيقي دائماً.

رؤوف دنكتاش (1924 - 2012)، أول رئيس لشمال قبرص (Getty)
رؤوف دنكتاش (1924 - 2012)، أول رئيس لشمال قبرص (Getty)

وذكر الكاتب بأن حكومة شمال قبرص بحاجة لنيل موافقة السفير التركي على أي قرار تتخذه، وحتى القوات المسلحة في شمال قبرص تدار من قبل هيئة عسكرية تركية. والشرطة لا تدار بأمر وزير الداخلية، بل بأمر قائد القوة التركية. وأضاف أنه بالرغم من وجود وزير مالية، لكن من يتخذ القرارات المالية الأخيرة كان هيئة تسمى هيئة المساعدة، واليوم أصبح مكتب التنمية والاقتصاد التركي التابع للسفارة التركية في نيقوسيا. يذكر الكاتب بأن ابن قبرص يعيش إشكاليتين في العلاقة مع الوطن الأم تركيا: الأولى، أسلوب الاستعلاء التركي على القبارصة الأتراك، وتظهر جلية عندما سأل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس وزراء شمال قبرص "كم هو راتبك؟" والثانية، أن نسبة القبارصة الأتراك في بلدهم آخذة بالتراجع، فمعظم الأتراك الموجودين في قبرص من المهاجرين الأتراك.