أثارت هجمات الجيش الروسي ضد المدن الأوكرانية إدانة دولية، لكن لا يجب أن ينسينا هذا أن العديد من الجيوش والجماعات تستخدم هذه التكتيكات في سورية واليمن وفلسطين المحتلة، وهي ممارسة صارت تُستعمل بكثافة منذ نهاية الحرب الباردة. يُوصف هذا التدمير للبنية التحتية الحضرية ونسيج المدن التي تشكل إطاراً للحياة الاجتماعية بـ"قتل المدن" (urbicide)، وهو يضاهي شكلاً من أشكال الإرهاب.
شهدت أحداث الأشهر الثلاثة الأولى من الحصار والقصف ثم احتلال مدينة ماريوبول، في بداية العدوان الروسي في شرق أوكرانيا، بثاً دراماتيكياً نحو العالم باستعمال الصور والكلمات وأشرطة الفيديو. وأفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في يونيو/ حزيران 2022، بتدمير جزئي أو كلي لـ90 في المائة من المباني السكنية في المدينة، و60 في المائة من المساكن الخاصة، وقطع جميع إمدادات الكهرباء والمياه والغاز، وتوقف جميع المستشفيات، واستنفاد الإمدادات الغذائية، وفرار 350 ألف شخص، ومقتل الآلاف، ناهيك عن جرائم الحرب التي ارتُكبت ضد المدنيين.
لم يمض وقت طويل لكي يلتقط المحللون العسكريون والسياسيون مصطلح "قتل المدن"، لوصف النتائج المتراكمة للتكتيكات العسكرية الروسية ضد ماريوبول ومدن أوكرانية أخرى، مع مقارنتها بالعمليات العسكرية الحضرية الروسية السابقة ضد حلب وغروزني.
وتلمّح تحليلاتهم إلى أن الأمر يتعلق بخيار عسكري، وسياسة استراتيجية مبدئية، روسية بشكل أساسي، لا تتردد في استعمال تكتيكات عملياتية جد وحشية، خالية من أي ضوابط و"غير متحضرة"، تهدف إلى قتل المدن من خلال جعل الحياة فيها غير ممكنة لسكانها: ومن ثم جاءت عبارة ارتكاب عملية "قتل المدينة" (urbicide).
شعوب الشرق الأوسط تدرك عن تجربة أن "قتل المدن" ليس مجرد نهج روسي للقتال في المناطق الحضرية
على الرغم مما قد يوحي به المحللون، فإن شعوب ومدن الشرق الأوسط تدرك عن تجربة أن "قتل المدن" ليس مجرد نهج روسي للقتال في المناطق الحضرية. قبل وقت طويل من مساهمة الروس في تدمير حلب، أصبحت أعمال قتل المدن عنصراً أساسياً من "أسلوب الحياة الحضري" في جميع أنحاء المنطقة، إذ يسعى جميع الغزاة عمداً إلى قتل المدينة أو إخضاعها أو حرمانها من سكانها.
على مدى نصف القرن الماضي، تعرّض الملايين من سكان المدن، من غزة إلى الموصل، ومن بغداد إلى خرمشهر (المحمرة)، ومن مخيم اليرموك إلى الفلوجة، للقصف العنيف والحصار وتدمير البنية التحتية الأساسية والموت، والتلوث البيئي، والهجرة القسرية، والمجاعة. بالنسبة للكثيرين، أصبح قتل المدن خط التواصل في حياتهم اليومية، وظاهرة اجتماعية حضرية.
كل الجيوش وكل الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية (ANEA) التي ترتكب اعتداءات على مدن الشرق الأوسط تطوّر مجموعة أدوات، تُعد "فناً عملياتياً" لكيفية استخدام قوتها وقدراتها المحددة عند إجراء "عمليات عسكرية في المناطق الحضرية" (أو Military Operations in Urban Terrain- MOUT وفقاً لتسمية حددها الجيش الأميركي قبل 30 عاماً).
وعلى كل حال، فإن أي تكتيك أو أداة قتال في المناطق الحضرية مضرّان بدرجات متفاوتة بالنسيج المادي والاجتماعي الحضري، وتجعل تأثيراتهما التشغيلية التراكمية الحياة الحضرية غير ممكنة تقريباً.
"طَرْق الأسطح" (roof-knocking) الإسرائيلي
عادة ما يؤدي، على سبيل المثال، استهداف زعماء المعارضة الرئيسيين بهدف الإعدام خارج نطاق القضاء، إلى تدمير مبنى معين أو كتلة معينة من المساكن. يعد استخدام بيانات الاتصالات الخاصة بتحديد الموقع الجغرافي لتحديد الأشخاص المستهدفين أسلوب اغتيال إسرائيلي وأميركي بشكل خاص، وهو يؤدي دائماً إلى أضرار جانبية للمدنيين والبنية التحتية. يشكل ما يسميه الإسرائيليون بـ"طَرْق الأسطح" تحذيراً لسكان المبنى، عن طريق مكالمة هاتفية مسجلة أو بإلقاء عبوات ناسفة خفيفة على أسطح المباني، من أن عملية باستعمال "ذخيرة ثاقبة" وشيكة.
تصنف الولايات المتحدة عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء التي تنفذها باستعمال طائرات بدون طيار، في فئتين: هناك من ناحية "الضربات الشخصية" ضد أفراد محددين بالاسم، ومن ناحية أخرى هناك "ضربات التوقيع"، التي تستعمل الخوارزميات لتحديد "النشاط المشبوه" (غير معرّف جيداً) ثم مهاجمة الموقع.
تَمثّل هدف الغارات الليلية المنتظمة في جنين، في إطار عملية "كاسر الأمواج" للجيش الإسرائيلي في 2022، في القضاء على أكبر عدد ممكن من المقاتلين الشباب وتعطيل الحياة اليومية لمجموعة السكان، من خلال تدمير المنازل.
تتسبّب تكتيكات القتال المباشر في أضرار جسيمة وواسعة النطاق للنسيج الحضري والحياة الاجتماعية
تتسبّب تكتيكات القتال المباشر في أضرار جسيمة وواسعة النطاق للنسيج الحضري والحياة الاجتماعية، خصوصاً إذا استمرت هذه المعارك لأسابيع أو امتدت إلى أحياء أخرى.
تتبع ذلك معركة استنزاف، مع نظام دفاع متعدد الطبقات متبوع بحصار، وتجتمع كلها لتدمير النسيج الحضري. يُسوّق الإسرائيليون لجيوش أخرى خبراتهم التكتيكية الخاصة المتمثلة في "عبور الجدران"، والتي تم تطويرها، وفقاً لتصريحاتهم، من خلال القتال من فوق وعبر وتحت شوارع ومباني غزة وجنين وبيروت.
استخدم تنظيم "داعش" سيارات مفخخة محمّلة بعبوات ناسفة مرتجلة improvised explosive device)- IED) وشبكة واسعة من الأنفاق في الموصل، لوقف تقدّم قوات التحالف العراقية عام 2017. قبلها في 2004، تبيّن أن شبكة واسعة من الأنفاق في الفلوجة تكتيك حضري فعال، أجبر القوات الأميركية والعراقية والبريطانية التي كانت تحاول استعادة المدينة، على خوض قتال بالأيدي تحت الأرض.
في 2007، بنت الولايات المتحدة جداراً خرسانياً بطول 5 كيلومترات حول حي الأعظمية في بغداد، سُمي بـ"جدار الأعظمية الكبير"، لمنع وصول قوات المعارضة وأجهزتها المتفجرة المرتجلة.
نشر الروس شركات عسكرية خاصة، مثل مجموعة "فاغنر"، كـ"قوات اصطدام" لاقتحام مدينة تدمر واستعادتها. أطلق تنظيم "داعش" حملة "تحطيم الجدران" في 2013 بقصد الإفراج عن أكبر عدد ممكن من مقاتليه من السجون وإعادتهم إلى الجبهة.
وكانت معركة الفلوجة الثانية (2004) واسترجاع الموصل من قبضة تنظيم "داعش" (2016-2017) من بين المعارك الأكثر حسماً في المدن منذ نصف قرن، جرت من حي إلى حي، بين جيوش نظامية ومقاتلين غير نظاميين. تمت محاصرة المدينتين واقتحامهما، مع مستويات مرتفعة من الخسائر ودمار هائل. دُمِّرت المدينتان بنسبة تفوق 60 في المائة، ولم يُعَد بناؤهما حتى اليوم.
هجوم جوي على مدن
استُكملت حرب المدن، حياً تلو آخر، برغبة متزايدة في تدمير أجزاء من المدن عن بُعد. وقد تُرجم هذا التطور العملياتي إلى هدف استراتيجي يتمثل في كسب الصراع من خلال جعل مساحات شاسعة من المدينة غير صالحة للعيش عن طريق هجمات جوية تستهدف البنية التحتية الحيوية والأحياء السكنية.
اختار سلاح الجو التابع للنظام السوري اللجوء إلى "البراميل المتفجرة" لتدمير مجمّعات سكنية وأحياء
بقصد تدمير مجمّعات سكنية وأحياء، اختار سلاح الجو التابع للنظام السوري اللجوء إلى "البراميل المتفجرة" التي يتم إسقاطها من طائرات الهليكوبتر (يُقدّر أن أكثر من 80 ألف برميل استُعملت منذ 2011)، وهي محمّلة بأسلحة كيميائية أو بخليط رخيص من النفط والمتفجرات، كسلاح إرهاب رئيسي. وفقاً لبعض التقارير، يتم الآن وضع الخبرة السورية في متناول الجيش الروسي في أوكرانيا.
صرحت القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM)، بأنها استخدمت أكثر من 10000 سلاح ذي ذخيرة عنقودية، يحتوي على أكثر من مليون ذخيرة صغيرة، داخل المدن العراقية، بينما استخدم البريطانيون 70 ذخيرة عنقودية جوية وأكثر من 2000 ذخيرة عنقودية أرضية في الأيام الأولى من غزو 2003. ونفذت إسرائيل خلال حملة القصف التي استمرت أسبوعين على غزة في 2021 أكثر من 1000 غارة جوية ودمرت 15 برجاً سكنياً وأكثر من 1700 منزل.
زعم الروس أنهم استخدموا المدن السورية كمختبر تجارب لأحدث تقنيات الصواريخ والطائرات بدون طيار، بينما استعمل "أنصار الله" (الحوثيون) الطائرات بدون طيار لمهاجمة منشآت النفط في أبوظبي في يناير/ كانون الثاني 2022. وأعقبت هذا الهجوم بعد نحو شهر هجمات مماثلة على جدة، وجيزان، ونجران، والظهران في السعودية. كما سجلت صور الأقمار الصناعية أكثر من 950 موقع تصادم ناجم عن قنابل في أنحاء حلب خلال شهر من القصف المكثف للجيشين الروسي والسوري في 2016.
ظن جنرالات الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أن تصعيد "حرب المدن" (1984-1988)، التي تم شنها عبر موجات من الهجمات الصاروخية والقاذفات على العديد من المدن الإيرانية، من شأنها أن ترهب النظام الإيراني الجديد وتجبره على إلقاء سلاحه خلال الحرب العراقية الإيرانية. على خلاف ذلك، دفعت هذه الحرب طهران إلى تطوير مجموعة متطورة من الطائرات بدون طيار و"طائرات انتحارية بدون طيار"، التي تُباع الآن للروس و"حزب الله".
بنشرها لأكثر من 2000 ذخيرة دقيقة التوجيه (PGM) وشن غارات جوية في الساعات الأولى من "عملية حرية العراق" (غزو العراق في مارس/ آذار 2003)، كانت الولايات المتحدة مقتنعة بأن عملية "الصدمة والترويع" ستجبر البغداديين على الخضوع بسرعة من خلال حرب خاطفة ضد الجسور ومصادر الطاقة والبنى التحتية الحيوية الأخرى.
ودمرت الغارات الجوية الروسية وغارات النظام السوري على البنية التحتية المدنية في محافظة إدلب في 2019-2020 العديد من المستشفيات والمنشآت الصحية والمؤسسات التعليمية والأسواق، ما أجبر، حسب الأمم المتحدة، أكثر من 1.5 مليون شخص على الفرار من أحيائهم.
إن التعقيد المتزايد للهجمات الصاروخية من قبل الجماعات المسلحة في غزة، التي أطلقت ما يقرب من 4400 صاروخ في مايو/ أيار 2021 وأكثر من 1000 في أغسطس/ آب 2022، لم يُلحق إلا أضراراً قليلة بالمراكز السكانية الإسرائيلية، على الرغم من أنه شاهدٌ على تطور تقني متزايد، كما يتضح من توسيع مدى الصواريخ والزيادة في عدد عمليات الإطلاق.
أما التحالف الذي تقوده السعودية، فقد نفذ أكثر من 24000 غارة جوية على المراكز الحضرية التي تسيطر عليها جماعة "أنصار الله" (الحوثيون) منذ 2015.
نشر انعدام الأمن، أمر سبقت رؤيته
ماذا يحدث عندما يتم جمع أدوات تدمير المدن هذه في برنامج عملياتي يتم تنفيذه بانتظام على مدى فترة طويلة من الزمن، ويتم تطبيقه على مساحة حضرية بأكملها، في سعي عنيد للسيطرة الدائمة على ساحة المعركة والردع الاستراتيجي وزعزعة استقرار المجتمعات من خلال الرعب؟ عندها يصبح "قتل المدن" استراتيجية مفضّلة، حالة ذهنية تبرر الهجوم على الحياة الاجتماعية بأكملها لنشر الشعور بعدم الأمان في المدينة، في أي وقت وفي أي مكان.
لا ينجو من ذلك أي مكان أو ملجأ: المرافق الطبية، المؤسسات التعليمية، المؤسسات الثقافية، وسائل الإعلام، المكاتب الإدارية، محطات معالجة الصرف الصحي، الشبكات الكهربائية، رياض الأطفال، المقاهي، الحمامات والمطابخ. فتدمير المدينة ليس مجرد نتيجة ثانوية للقتال، بل هو سبب وجوده.
اللجوء القديم-الجديد لـ"قتل المدن" ليس سوى حصار طويل الأمد على أحياء أو مدن بأكملها. وعادة ما يكون الحصار مصحوباً بعمليات قصف وتوغّل منتظمة وإنكار الاحتياجات الإنسانية الأساسية مثل الماء والكهرباء، وإغلاق طرق الخروج.
حاصر التحالف السعودي الإماراتي ميناء الحديدة (اليمن) في يونيو 2018، مانعاً وصول الواردات الإنسانية بسهولة إلى المدن الأخرى؛ في يوم واحد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، نُفذت 200 غارة جوية على المدينة. وانتهى الحصار فعليا بانسحاب التحالف في نوفمبر 2021، لكن الذخائر غير المتفجرة (REG) استمرت، طوال سنة 2022، في حصد أرواح الأطفال في المناطق الملوثة من المدينة.
بدأ حصار الجزء الغربي من بيروت من قِبل الجيش الإسرائيلي بين يونيو وأغسطس 1982 بتدمير محطة توليد الكهرباء في جنوب المدينة، تبعه رفض الجيش الإسرائيلي السماح للصليب الأحمر الدولي المحمّل بمعدات طبية بدخول المدينة. كان تدمير الأرشيف والمؤسسات الثقافية والمرافق الطبية الفلسطينية "ضرورياً" للاستيلاء على المدينة؛ وتبعت ذلك بالطبع التسهيلات المقدمة من قبل الجيش الإسرائيلي لارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه.
قائمة المدن التي تمت محاصرتها في سورية خلال الربع قرن الأخير، والمشرّعة بشعار "الموت جوعاً حتى الخضوع"، أطول من أن تعد هنا، لكنها يجب أن تشمل حصار ثلاثة أسابيع وتدمير أجزاء كبيرة من مدينة حماة في 1982، ودرعا، مهد الثورة، في 2011.
رصدت الأمم المتحدة، على سبيل المثال، في يناير 2016، 18 موقعاً تمت فيها محاصرة 500 ألف شخص من قِبل القوات السورية/ الروسية أو تنظيم "داعش" أو من طرف جماعات مسلحة أخرى في: دير الزور، الفوعة، كفريا، الزبداني، مضايا، بقين، درايا، المعظمية، دوما، حرستا، عربين، زملكا، كفربطنا، عين ترما، حمورة، جسرين، سقبا، زبدين ومخيم اليرموك. ومن المؤكد أن تشمل قائمة أطول حلب والرقة وعين العرب (كوباني) والغوطة الشرقية.
شهدت "حرب المخيمات"، التي جرت في لبنان من إبريل/ نيسان 1985 إلى يوليو/ تموز 1988 على الخصوص بين حركة "أمل" اللبنانية والفصائل الفلسطينية، عمليات حصار وقصف جوي واشتباكات شوارع في مخيمات اللاجئين وعبرها. كما تجدر الإشارة إلى معركة خرمشهر الشرسة (1980)، التي تركت الجزء الأكبر من المدينة في حالة خراب، ومعركتي الفلوجة (إبريل 2004، نوفمبر 2004)، والعملية الأميركية لقمع مدينة الصدر في بغداد لمدة شهرين في 2008.
"جز العشب" في غزة
تسبّبت الهجمات الإسرائيلية المتكررة على النسيج الحضري الكثيف لقطاع غزة في 2008، و2012، و2014، و2021 و2022، بشكل شبه كلي عن طريق الجو أو بالمدفعية، في مقتل أكثر من 4000 شخص. يتم في التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي نعت هذه الحلقات المتكررة من "قتل المدن العنيف" مجازاً بعبارة "جز العشب"، بالتناوب مع "القتل البطيء للمدينة" والذي يتمثل في التحكّم في التنقل وفي الاحتياجات الأساسية وممارسة مراقبة دائمة مصحوبة باغتيالات مستهدفة.
تسبّبت الهجمات الإسرائيلية المتكررة على النسيج الحضري الكثيف لقطاع غزة، في مقتل أكثر من 4000 شخص
هذه الاستراتيجية الهجينة لقتل المدن، والتي يتم اللعب فيها على مدى فترات طويلة بين الأشكال العنيفة والبطيئة، جعلت 750 ألف ساكن في غزة المدينة و1.25 مليون من السكان الآخرين في هذا السجن الذي يمتد على 365 كيلومتراً مربعاً، يعيشون "قتل المدينة" كأسلوب حياة.
عرفت تعز (اليمن) تجربة مماثلة. المدينة مطوقة وتخضع لحصار من قبل قوات الحوثيين منذ 2015. وهي محاطة بألغام أرضية ومحرومة من الوصول المنتظم للغذاء والماء والإمدادات الطبية، ويتم قصفها بانتظام، كما يقوم القناصة بزرع الرعب في المخارج القليلة للمدينة. تجتمع فيها المجاعة والعنف المستمر والذخائر غير المنفجرة وسوء التغذية مع غياب الرعاية الطبية الأساسية، لتجعل معدل الوفيات في المدينة أحد أعلى المعدلات في اليمن.
تُهاجَم الحياة الحضرية أيضاً عبر الفضاء السيبراني. تُستخدَم الحرب الإلكترونية بصفة واسعة الآن لزعزعة استقرار البنى التحتية المدنية الحضرية والقيادية، وإلحاق أضرار بإمدادات الطاقة وعزل السكان عن شبكات الدعم والمقاومة. وهي قد تتسبّب في عدد أقل من الضحايا في المدن، لكنها أصبحت مدمجة جيداً في استراتيجية قتل المدن. يمكن تدمير البنى التحتية الحيوية عن طريق مهاجمة أنظمتها التشغيلية المادية أو عن طريق تعطيل هيكلها وأنظمة التوجيه من خلال تكتيكات الحرمان من الخدمات (DDoS)، أو تغيير المعطيات أو التخريب.
تُعتبر "وحدة 8200" للجيش الإسرائيلي، التي توفر قدرة دفاعية أكبر، الأكثر شهرة في المنطقة، غير أن حركة "حماس" حققت بعض النجاحات في الفضاء السيبراني ضد إسرائيل، مثلما فعلت إيران التي اتهمتها الولايات المتحدة، في 2020، بأنها هاجمت أجزاء من الشبكة الهيدروليكية الإسرائيلية.
شكل من الإرهاب
بينما نشاهد كيف تدمر الصواريخ والمدفعية الروسية أسلوب الحياة الحضري لملايين الأوكرانيين، من الجدير بالذكر أننا فشلنا على الدوام في وقف هذه الأنواع من التكتيكات والعقائد العملياتية واستراتيجيات "تدمير المدن" عندما استُعملت ضد مدن الشرق الأوسط. هنا، أصبح "قتل المدن"، منذ مدة طويلة، الطريق إلى الموت. زعزعة استقرار البيئة المبنية، التكاليف البيئية للتدمير، العواقب على الصحة والمرض، فقدان التراث الثقافي والذاكرة، إنكار الاحتياجات الأساسية وحقوق الإنسان وتوقيف النمو الاقتصادي: كل هذا يؤثر على الأجيال. تقتيل المدن إرهاب ضد جوهر ما يعنيه أن تكون إنساناً.
يُشَكِّل "قتل المدن"، كماضٍ وحاضر يتكرر باستمرار، مستقبل المدن في الشرق الأوسط
من مقابر حماة الجماعية التي يغطيها قصر أفاميا الشام (سورية)، إلى آلاف الأشخاص الذين لا يزالون مدفونين تحت 8 ملايين طن من الأنقاض السامة في الموصل، يُشَكِّل "قتل المدن"، كماضٍ وحاضر يتكرر باستمرار، مستقبل المدن في الشرق الأوسط.
ينشر بالتزامن مع أوريان 21
(https://orientxxi.info/ar)