دفع مجلس النواب الليبي بعدة قرارات جملة واحدة إلى مشهد البلاد السائر في متاهات الغموض، لتزيد من شدة غموض المراحل المقبلة، بدلاً من تحديدها وتوضيح مصيرها، ومن أبرز تلك القرارات انتهاء ولاية الحكومة، والاعلان عن تشكيل غيرها منفرداً، من دون إشراك المجلس الأعلى للدولة.
وأنهى مجلس النواب جلستيه، الاثنين والثلاثاء، من دون أن تحدّد لجنة خارطة الطريق شكل المرحلة المقبلة، خصوصاً مصير الانتخابات، التي تُركت مواعيدها مفتوحة، ومن دون أن يبيّن أساسها الدستوري، وحتى أمر الحكومة، التي أكد انتهاء ولايتها، وأعلن فتح باب الترشح لمنصب رئيس الحكومة، وتركه معلّقاً من دون أن يحدّد موعداً لتقديم الترشيحات.
وبدت شروط الترشح لمنصب رئيس الحكومة الجديد، التي تلتها لجنة خارطة الطريق خلال جلسة أمس الثلاثاء، عامة، فمنها أن يكون ليبي الجنسية، وألا يكون صادرا بحقه حكم قضائي في جناية، وأن يتعهد بعدم الترشح للانتخابات المقبلة، لكن رئاسة المجلس دفعت بشرط تقاسم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة تزكية المرشح للنقاش بشكل موسع بين النواب، قبل أن تقرّر إسقاط هذا الشرط بناءً على تصويت بين النواب، بواقع 30 صوتاً رفض الشرط مقابل 21 صوتاً قبل ببقائه، في خطوة اعتبرها العديد من المراقبين ضرباً جديداً للمسار التوافقي، وجهود التقارب الأخيرة مع مجلس الدولة.
وشهدت جلسة أمس الثلاثاء، أجواء مشحونة وانقساماً حاداً حول قرار إنهاء ولاية الحكومة، وصل لحدّ قول النائب عائشة شلابي، إن "هناك اتفاقات وصفقات سياسية داخل مجلس النواب، ويقال إن سحب الثقة من الحكومة تم برشاوى قُدّمت للنواب"، علاوة على قطع كلمات النواب المعارضين لقرار إسقاط الحكومة، وقطع البث المرئي للجلسة عدة مرات.
ولم يصدر عن المجلس الأعلى للدولة أي موقف رسمي حتى الآن حيال استبعاده من قرار اختيار رئيس الحكومة، وقرار إسقاط الحكومة الحالية، كما لم يصدر عن الحكومة، التي يتواجد رئيسها عبد الحميد الدبيبة في تشاد في زيارة رسمية، أي موقف، ما يوحي بعدم اعترافه بقرار انتهاء ولاية حكومته.
خطوة "غير بريئة"
وعبّر عضو المجلس الأعلى للدولة إبراهيم صهد، عن مفاجأته بقرار مجلس النواب عدم إشراك مجلس الدولة في قرار اختيار رئيس الحكومة الجديد، لافتاً إلى أن رئاسة مجلس النواب أعلنت عن انعقاد الجلسة بقوام 120 نائباً، لكن الذين شاركوا في التصويت على قرار استبعاد مجلس الدولة هم 51 عضواً فقط، واصفاً الخطوة بـ"غير البريئة".
وفيما يتحفظ صهد، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، عن الإدلاء بموقفه حيال القرار، حتى صدور موقف رسمي من مجلس الدولة، إلا أنه يذكّر بأن "عقيلة صالح اعتاد على الالتفاف على الاتفاقات التي وُقّعت في السابق إثر عدة لقاءات مع ممثلي مجلس الدولة"، معتبراً أن الثقة مهتزة بين المجلسين، على الرغم من التقارب الذي فرض نفسه في الأيام الأخيرة للتوافق حول خارطة طريق جديدة.
وأكثر من ذلك، يشدد صهد على أن قرار استبعاد مجلس الدولة من اختيار رئيس الحكومة "هو ضرب للاتفاق السياسي في الصميم، ومخرجات ملتقى الحوار السياسي، وكلاهما نصّا على ضرورة التنسيق مع المجلسين، وتحديد كل الخطوات المتعلقة بالمسار السياسي بصفة مشتركة".
وتساءل صهد عن المدة التي سيحتاجها رئيس الحكومة الجديد لتشكيل حكومته، فـ"حكومة الدبيبة احتاجت أربعة أشهر لتبدأ العمل"، محذراً أيضاً من أن عدم قبول الدبيبة تسليم السلطة، لتتحول بذلك حكومته إلى حكومة موازية ويعود مشهد الانقسام السياسي.
وفيما رأى صهد أن خطوة إسقاط الحكومة "متسرعة، وستزيد من التصدع في المشهد"، قال: "الجميع كان ينتظر خطوات تزيد من الثقة، وأن تقدّم كل الأطراف بعضاً من التنازلات حتى يزيد الوفاق للذهاب في تنفيذ خارطة طريق جديدة تؤمّن الاستقرار، والوصول بالبلاد إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية".
استمرار التواصل بين مجلسي النواب والدولة؟
من جهته، يرى الباحث الليبي في الشأن السياسي أحمد روياتي، أن عدم صدور أية ردة فعل رسمية من مجلس الدولة، يؤكد استمرار التواصل بينه وبين مجلس النواب، و"لا خوف من وقوع إشكالات في المستقبل بسبب قرار مجلس النواب الأخير"، بحسب رأيه.
وعبّر روياتي في حديثه لـ"العربي الجديد" عن تمنيه أن يحظى قرار اختيار رئيس جديد للحكومة بالإجماع بين المجلسين، وقال "حسب تقديري لن يؤثر هذا القرار على التقارب الأخير الحاصل بين المجلسين لصياغة المسار السياسي المقبل، فهناك العديد من الاتفاقيات بينهما، والأهم الآن هو الإجماع الحاصل حول إسقاط هذه الحكومة التي تغوّلت في الفساد، وفشلت في حل العديد من الملفات"، معتبراً أن استمرارها سيعمّق الأزمة الاقتصادية، ويضع البلاد على المحك، ويهدّد الوحدة الوطنية".
صراع خفي بين صالح والدبيبة
وإن يتفق أستاذ القانون الدستوري بالجامعة الليبية سليمان الرطيل، مع رأي روياتي في أن الحكومة شاب عملها الكثير من الإخفاقات وشبه الفساد، إلا أنه يؤكد أن إسقاطها لم يكن دافعه إنهاء الفساد والبحث عن حكومة تصلح هذه الإخفاقات، مشيراً إلى أن "القرار جاء في أتون صراع خفي بين عقيلة صالح والدبيبة"، معبّراً عن خشيته من تسخير صالح لقرارات مجلس النواب، وتوجيهها لخدمة مصالحه.
ويرصد الرطيل في حديثه لـ"العربي الجديد"، العديد من المخالفات في جلستي الاثنين والثلاثاء، لافتاً إلى أن "أولها أن صالح، لمّا علم بعدم ضمان حصول النصاب الكافي لإسقاط الحكومة، لجأ الى توكيل لجنة خارطة الطريق بهذه المهمة، واستند الى توصياتها وهذه المخالفة الدستورية الأولى"، مضيفاً "الثانية أن لجنة خارطة الطريق نصّت على أن الحكومة تقع في مسار السلطة التنفيذية، والأخيرة قائمة مقفلة انتخبها ملتقى الحوار السياسي بأربعة رؤوس، ثلاثة في المجلس الرئاسي، وواحد لرئاسة الحكومة، فلا يجوز قانوناً إسقاط رأس والإبقاء على البقية، فالقائمة مقفلة تسقط كلها أو تبقى كلها".
ويلفت إلى أن "هناك التفافاً مارسه صالح وحلفاؤه النواب، فحتى لو اعتبارنا عدم إشراك مجلس الدولة في تحديد مصير أي حكومة صحيح، باعتبار أن النواب لا يعترفون بالاتفاق السياسي، إلا أنه لا يمكنهم تجاوز اتفاق جنيف الذي جاء بالسلطة التنفيذية الحالية".
ويؤكد الرطيل أنه "حتى لو قبل الجميع بحق النواب في منح الحكومة الثقة وسحبها منها، إلا أن السلطة التنفيذية استثنائية، فالدبيبة خارج صلاحيات مجلس النواب كونه جاء وفقاً لانتخاب ملتقى الحوار، وفي قائمة مقفلة، والثقة مُنحت لحكومته وسُحبت منها"، موضحاً أن صلاحيات مجلس النواب في هذه الحالة لا تتجاوز إسقاط الحكومة وتكليف الدبيبة بتشكيل غيرها.
ورغم الإشكالات القانونية التي شابت قرارات مجلس النواب، إلا أن الرطيل يرى أن أهدافها سياسية بحتة، تهدف إلى خلط الأوراق بهدف إبعاد موعد الانتخابات إلى أكثر من عام على الأقل، مشيراً إلى أن الآثار السياسية لهذه القرارات لا يمكن التكهن بها بعد.