بدأ الرئيس الأميركي جو بايدن جولة أوروبية لمدة خمسة أيام، يشارك خلالها في قمة الناتو في ليتوانيا، يومي 11 و12 يوليو/ تموز الجاري، والتي تعتبر أهم قمة للحلف منذ 1957، حيث تأتي في ظل حرب يدعمها الأخير ضد موسكو، وبعد تمرد عسكري ضد القيادة الروسية، 23 يونيو/حزيران الماضي، الذي سرعان ما انكفأت سيرته من دائرة الضوء إلى داخل أسوار الكرملين مع كل خباياه، التي تحوّلت إلى لغز "استعصى" على واشنطن فك رموزه حتى الآن.
تمرد "فاغنر" يقدّم في ظاهره فرصة للانتقال من "استراتيجية الدعم إلى استراتيجية الحسم" في الحرب لصالح أوكرانيا، على أساس أن تحرك قائد المجموعة يفغيني بريغوجين خلخل نظام الرئيس فلاديمير بوتين وكشف أعطابه، وبالتالي إمكانية هزيمته، لكن العتمة التي تلف محاولة بريغوجين منذ أيامها الأولى دعت إلى التحفظ والترقب.
وتقرّ الإدارة الأميركية بأنها لا تعرف شيئاً عن مصير بريغوجين، بحسب جيك بايدن، مستشار الرئيس بايدن، وتسبب خليط الصمت والمعلومات المتضاربة حول مكان وجوده، بين بيلاروسيا وروسيا، في الغموض حول مصيره، والذي يستخدمه الرئيس الروسي كورقة لإرباك الآخرين، وربما لتحضير الوضع لمفاجأة أو مفاجآت يحذر المستشار والسفير الأميركي السابق جون بولتون من استبعادها ومن الاستهانة بـ"قدرة بوتين" على اللجوء إليها، ومن بينها الخيار النووي التكتيكي، الذي يرى سوليفان أنه بات بمثابة "تهديد جدّي"، خاصة بعد إعلان الكرملين عن نقل بعضه إلى بيلاروسيا أخيراً.
ويعكس ذلك ما حذر منه بعض خبراء الشؤون الروسية بأن بوتين "لن يسمح" بهزيمة روسيا في هذه الحرب ولو اضطر للجوء إلى النووي، مع أن جماعة الصقور، سواء في الكونغرس أو في الوسط الدبلوماسي، مثل السفير الأميركي السابق في موسكو مايكل ماكول، لا يرون في ورقة النووي سوى عملية "تهويل" يوظفها الكرملين لحمل حلف شمال الأطلسي (الناتو) على التردد في مواصلة تسليح أوكرانيا. وتزعم الإدارة الأميركية أنها حريصة على عدم استفزاز موسكو بما قد ينتهي إلى مواجهة معها.
وتحركت الإدارة عشية القمة على ثلاثة خطوط متوازية أرادتها متوازنة، حيث أعلنت عن حزمة تسليح جديدة لأوكرانيا، شملت لأول مرة قنابل عنقودية، بالرغم من أنها محظورة في أكثر من مئة بلد، منها أعضاء في "الناتو"، بسبب خطرها على المدنيين.
وفي تبريره لها، قال بايدن، أمس الأحد، إن أوكرانيا "تتعرض بشكل متواصل لهجمات وحشية"، وأن هذا السلاح قد يساعد في "وقف" مثل هذه العمليات. وقال المنسق الإعلامي في مجلس الأمن القومي جون كيربي، الأحد، إن السلاح العنقودي من شأنه توفير "إمكانيات" ميدانية "تساعد" ضد المواقع الروسية.
وعلى ما يبدو أن الرسالة من الموافقة على تزويد كييف بالقنابل العنقودية أن واشنطن استضعفت موسكو بعد حركة "فاغنر"، وأنها بذلك تجسّ النبض لدعم أوكرانيا بأسلحة أكثر فتكاً في المرات اللاحقة، عملاً بسياسة "الجرعات" التي اعتمدتها من البداية، حيث كانت تمتنع عن تزويد اوكرانيا بأسلحة معينة لتعود بعد فترة إلى الانقلاب على موقفها وتسليمها هذه الأسلحة، كما حصل مع بطاريات باتريوت للدفاعات الجوية، ثم دبابات أبرامز، وطائرات "إف 16"، وغيرها من الأنظمة المتقدمة المضادة للدروع.
الخط الثاني المتوازي كان إعلان بايدن، الأحد، عن عزم إدارته على عدم تأييد دخول أوكرانيا في "الناتو" خلال هذه القمة، رغم ميل عدد كبير من بلدان الحلف لضمها إليه، وذريعته أنه من غير المناسب قبول هذه العضوية "أثناء الحرب"، وأن على أوكرانيا أن تعمل على استيفاء المواصفات المطلوبة قبل الانتماء إلى حلف شمال الأطلسي. ويشي رفضه بأن قرار إلحاق أوكرانيا بالحلف مسألة وقت ليس إلا، وهو توجه يدفع به فريق من أوساط العاملين سابقاً في مجالات السياسة الخارجية.
الخط الثالث تمثل في ما تردد عن لقاءات أجرتها مجموعة من المسؤولين السابقين، منهم رئيس مجلس العلاقات الخارجية ريتشارد هاس، مع مسؤولين روس، وعلى الأقل مرة واحدة مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ودارت المحادثات حول سبل إنهاء حرب أوكرانيا وفق ما تسرب، لكن المنسق جون كيربي نفى، أمس الأحد، أن تكون الإدارة على علم أو تنسيق مع المجموعة الأميركية التي قامت بالمحاولة "بالصفة الشخصية لأصحابها".
ومن المستبعد أن يقوم هؤلاء بمهمة من هذا النوع في وقت حرب من غير إطلاع الإدارة مسبقاً على المحاولة، ولا سيما أن الإدارة تتحدث باستمرار عن تسوية سياسية ولو مشروطة تؤدي إلى "سلام قادر على الصمود".
اعتماد هذا المزيج من التصعيد التدريجي، وعدم نسف الجسور مع الدبلوماسية غير المباشرة عشية القمة، يعكس دقة الوضع التي تفرض على "الناتو" المشي على حبل مشدود في لحظة روسية معقدة ومفخخة، أخطر ما فيها أنها مجهولة الوجهة: "الحقيقة أننا لا نعرف ماذا يجري في روسيا"، يقول جون بولتون، فكل الاحتمالات واردة.