يسعى الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ أشهر إلى إحداث حالة من الفراغ حوله، سبقت في الواقع حتى إجراءاته الاستثنائية التي أقرها في 25 يوليو/تموز الماضي. ويعتمد للوصول إلى هذا الأمر على استراتيجية تقوم على هدم وتفتيت كل الشرعيات القانونية والدستورية، باستثناء شرعيته هو، التي تجد مشروعيتها في الإرادة الشعبية التي يقول إنه يحوزها، برغم أن ذلك لم يثبته الشارع فعلياً.
وركز سعيّد منذ فرض التدابير الاستثنائية على استهداف المؤسسات الدستورية، إذ أعلن منذ 25 يوليو/تموز 2021 عن تجميد عمل مجلس الشعب وإقالة الحكومة المصادق عليها من البرلمان، قبل أن يقر في 30 مارس/آذار 2022 حل مجلس الشعب وتشرع النيابة في ملاحقة أعضائه. كما لم تسلم هيئة مكافحة الفساد من مخطط سعيّد، إذ قامت السلطات بإخلاء مقر الهيئة في 20 أغسطس/آب 2021، بعد أن أمر سعيد بإقالة المسؤولين عليها.
كذلك ذهب سعيّد أبعد من ذلك في استهداف السلطة القضائية عبر حل المجلس الأعلى للقضاء في فبراير/شباط الماضي، فيما عين مجلساً مؤقتاً بعد إلغاء قانون المجلس عبر مرسوم رئاسي. وجاء قرار سعيد بعد انتقادات وجهها للسلطة القضائية استهدفت أيضاً المحكمة الدستورية الوقتية حيث أمر بحل الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين في 22 سبتمبر/ أيلول 2021.
زهير إسماعيل: سعيّد، المهووس بالمشروعية، يدرك أنّ شرعيّته بلا أساس إلاّ قراره بالانقلاب على الدستور والديمقراطية
وفي خطوة إضافية، صدر في الجريدة الرسمية، أمس الجمعة، قرار تعديل قانون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، الذي أعلنت عنه الرئاسة التونسية أمس الأول الخميس، ويتضمن خصوصاً منح صلاحية تعيين أعضائها بقرار رئاسي. ونص القانون الجديد على أن تتكون الهيئة من 7 أعضاء بدل 9.
وتتألف الهيئة، بحسب القرار، من ثلاثة أعضاء يختارهم رئيس الجمهورية من بين أعضاء الهيئات العليا المستقلة للانتخابات السابقة، وقاضٍ عدلي له أقدمية عمل فعلي بعشر سنوات على الأقل، من بين ثلاثة قضاة يتم اقتراحهم من قبل مجلس القضاء العدلي على الرئيس، وقاضٍ إداري له أقدمية عمل فعلي بعشر سنوات على الأقل من بين ثلاثة قضاة يتم اقتراحهم من قبل مجلس القضاء الإداري.
كما تتألف من قاضٍ مالي له أقدمية عمل فعلي بعشر سنوات على الأقل من بين ثلاثة قضاة يتم اقتراحهم من قبل مجلس القضاء المالي، ومهندس مختص في مجال المنظومات والسلامة المعلوماتية، له أقدمية فعلية بعشر سنوات على الأقل، من بين ثلاثة مهندسين مختصين يتم اقتراحهم من قبل المركز الوطني للإعلامية.
وينص الفصل 6 (جديد) على أن " يعين رئيس الجمهورية رئيس الهيئة من بين الأعضاء الثلاثة للهيئات العليا المستقلة للانتخابات السابقة". وحدد المرسوم الجديد فترة ولاية كل عضو بأربع سنوات غير قابلة للتجديد. وأشار إلى تعويض "عبارة "المجلس التشريعي" أينما وردت في الفصول بعبارة "رئيس الجمهورية".
ترذيل سعيّد للمؤسسات التي يستهدفها
ويعتمد سعيّد على ترذيل المؤسسات التي يستهدفها، البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء وهيئة مقاومة الفساد وهيئة الانتخابات المستقلة، وكل من يعترض طريقه، عبر التركيز عليها بقصف إعلامي متواتر في كل خطاباته، متهماً إياها بالفساد والعمالة وخدمة الأجندات الخاصة وغيرها من النعوت.
وفي لقاء له مع المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي، جيل كيبال، في 12 إبريل/نيسان الحالي، قال سعيّد إن "العلاقات بين تونس وفرنسا تبقى دائما علاقات صداقة مع آفاق جديدة، ومع شرعية حقيقية للسلطة".
وأضاف سعيّد: "في بعض الأحيان توجد شرعية زائفة. وحين نقول شرعية قانونية يجب أن تعبر عن الإرادة العامة لصاحب السيادة"، بمعنى أن الشرعيات الأخرى غير حقيقية وزائفة، ولا إرادة عامة تسندها، وهو سيؤسس لشرعية حقيقية للسلطة.
ورد عليه نواب من الاتحاد الأوروبي، في زيارتهم الأخيرة إلى تونس، بأن "الشرعية السياسية لكل من الرئيس وأعضاء البرلمان تنبع بالتساوي من الشعب ومن الدستور ذاته".
وقال الباحث وعضو مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" زهير إسماعيل إنه "بعد أكثر من ثمانية أشهر على الانقلاب، تمكن قيس سعيّد أن يجمع بين يديه كل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وأضاف إليها عمليّاً السلطة الرقابية، فهو المتحكّم الفعلي في ما بقي قائماً من مؤسسات وإدارة".
سعيّد يتجه ليصبح سلطة تأسيسية جديدة
وأضاف، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن سعيّد "يتّجه إلى أن يصبح (بشخصه) سلطة تأسيسية جديدة على قاعدة الاستشارة القانونية، وما تمّ ضبطه من موعد للاستفتاء في 25 يوليو المقبل (استفتاء على الدستور والقانون الانتخابي)، وانتخابات مقررة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، وهذا ملخّص مشروع قيس سعيّد السياسي في الانتظام القاعدي".
ورأى إسماعيل أن "المشهد السياسي في تونس، في ظل الانقلاب الذي مضى عليه أكثر من ثمانية أشهر يخرج من تنازع الشرعيات إلى مواجهة مفتوحة بين انقلاب فاقد لكل شرعية، إلاّ رغبة سعيّد ومحيطه، وبين قوى ديمقراطية كاملة الشرعية تصرّ على استعادة المسار بمرجعيّة دستور الثورة واستعادة مؤسسات الدولة المختطفة وإعادة ما تهدّم منها".
وأوضح إسماعيل أن "قيس سعيّد، المهووس بالمشروعية، يدرك أنّ شرعيّته بلا أساس، إلاّ قراره بالانقلاب على الدستور والديمقراطية، وإصراره على الهدم النسقي لمؤسسات الدولة وتفكيك ما تمّ بناؤه من مؤسسات ديمقراطية، وفي مقدّمتها المؤسسة الأصليّة البرلمان، والمجلس الأعلى للقضاء والهيئات الدستورية".
زهير إسماعيل: الجبهة التي يقودها الشابي تجمع بين مهمّتين: استكمال مهمة غلق قوس الانقلاب والإعداد للبديل الديمقراطي
وأوضح أن هذا الأمر "بات يهدّد وحدة الدولة واستمرارها، في ظلّ أزمة مالية اقتصادية تفاقمت مع الانقلاب وأدائه الكارثي، وهو ما ضاعف من عزلة تونس عن محيطها الإقليمي والدولي، وهزّ علاقاتها مع شركائها التقليديين. وتكاد البلاد تقبع اليوم في ما يمكن أن نسمّيه الدرجة الصفر للدبلوماسية والسياسة الخارجية".
وأشار إسماعيل إلى أنه في المقابل "وبعد شهرين من الانقلاب، انطلقت حركة مواطنية تدافع عن الدستور والديمقراطية بقيادة مواطنون ضدّ الانقلاب". واعتبر أنها "تمكنت، بعد ثمانية أشهر على الانقلاب، من دحض أسطورة التفويض الشعبي، بانبثاق شارع ديمقراطي متعاظم يتمسك بدستور الثورة واستعادة المسار الديمقراطي".
وأوضح أنه "شارع يدرك تعثّر مسار بناء الديمقراطية في سنوات الانتقال العشر، ويعي أسبابه، لكنه على وعي بزيف شعار تصحيح المسار وحقيقته الانقلابية. وأمكن له أن يقيم تمييزاً واضحاً بين أخطاء الانتقال الديمقراطي تحت سقف الديمقراطية وبمرجعية دستور الثورة، وبين خطيئة الانقلاب ومنحاه التدميري والخطير المهدد الدولة والمقسّم للمجتمع".
واعتبر أن "الخلاصة أنّ الانقلاب بلا شارع سياسي، وأنّه لا شرعية له إلاّ أجهزة الدولة الصلبة، التي يتمادى في توريطها، بعد أن جرّها مكرهة إلى دائرة التجاذب السياسي وخدمة توجهه الدكتاتوري".
استنهاض مؤسسة البرلمان
وأكد إسماعيل أن المبادرة المواطنية "نجحت في استنهاض المؤسسة الأصليّة، البرلمان. لقد مثّل مطلب عودة البرلمان البند الأول من خريطة الطريق التي عرضتها "مواطنون ضدّ الانقلاب" في ما عرف بالمبادرة الديمقراطية في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2021. وكان أن عُقدت جلسة البرلمان في 30 مارس/آذار الماضي، وموافقتها التاريخية على قانون يدعو إلى إيقاف العمل بكلّ الأوامر الرئاسية بعد 25 يوليو، وفي مقدّمتها الأمر 117 (نواة دستور سعيّد الجديد)".
وأشار إلى أن "التصويت مثل، من منظور سياسي وتشريعي، إسقاطاً للانقلاب. وهو ما حدا بسعيّد إلى حلّ البرلمان، بعد أن كان صرّح قبل يومين من قراره العبثي هذا، بأنّ الدستور لا يخوّل له حلّه".
واعتبر إسماعيل أن "الجبهة التي انطلقت مشاوراتها العملية بقيادة (رئيس الهيئة السياسية لحزب أمل) أحمد نجيب الشابي، سياسية بامتياز".
مهمتان للجبهة التي يقودها الشابي
وأوضح أن الجبهة "تجمع بين مهمّتين: استكمال مهمة إغلاق قوس الانقلاب، والإعداد للبديل الديمقراطي. وهي جبهة مفتوحة أمام كلّ القوى السياسية والمنظمات الوطنية على قاعدة استعادة المسار الديمقراطي بمرجعيّة الدستور. هذا هو الأساس الذي تقوم عليه الجبهة. وقد اتخذت لها اسماً مؤقتاً هو جبهة الخلاص الوطني، قد تستقرّ عليه مع تقدّم المشاورات".
وشدد على أن سعيّد "أمام هذا التقدّم المطّرد لبناء القوة السياسية لاستعادة الديمقراطية وإنقاذ الدولة، يواصل سياسة الهروب إلى الأمام، والتهديد باستعمال الأجهزة الصلبة للدولة".
وأكد إسماعيل أنه "لا أفق غير إزاحة قيس سعيّد، وهو لا يعدو أن يكون واجهة سياسية لبقايا لوبيات من النظام القديم، لم تصبر على البقاء تحت سقف الديمقراطية، فعملت على تقويض نتائج انتخابات 2014 لإرباك مسار الانتقال، رغم أنّها حملت المنظومة القديمة إلى السلطة، واستغلت نتائج انتخابات 2019 للانقلاب على الدستور والديمقراطية".
واعتبر أن "إزاحة سعيّد ستكون حدثاً تاريخياً فارقاً، رغم صعوبة محو آثار الانقلاب ومستوى التدوير الحاصل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومع ذلك ستكون عملية إزاحته منعرجاً حاسماً وانتصاراً للديمقراطية، حتى وإن لم يتولّ الديمقراطيون قيادة المرحلة المقبلة".
وأضاف "سيسجل للمرة الأولى سقوط انقلاب عربي في وقت قياسي وبوسائل ديمقراطية. وهذا سيكون له ارتداداته القوية في كلّ المجال العربي، وتدشين موجة جديدة في مسار بناء الديمقراطية في المنطقة العربية".
خالد شوكات: يعتمد سعيّد في فرض مخططه الأحادي على مسايرة المؤسستين العسكرية والأمنية له
من جانبه، أكد رئيس المعهد العربي للديمقراطية، خالد شوكات أنه "من المستحيل على سعيّد فرض قراره الفردي في هدم المؤسسات الدستورية، ونقض عرى الشرعية الواحدة تلو الأخرى وقتل العملية السياسية برمتها".
شريحة تكره التجربة الديمقراطية
وأوضح أن سعيّد "يستمد، في هذه المرحلة، قدرته على فعل ذلك من خلال تأييد شريحة شعبية، تقودها كراهية التجربة الديمقراطية أكثر مما يقودها برنامج ورؤية سياسية. والكراهية لا يمكنها أن تستمر، خصوصاً مع استفحال الأزمة الاجتماعية والاقتصادية". وأضاف: "كما يعتمد سعيّد في فرض مخططه الأحادي على مسايرة المؤسستين العسكرية والأمنية له، وهذه المسايرة برأيي مؤقتة، كالكراهية تماماً".
واعتبر شوكات، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "سعيّد يخوض هذه التجربة التسلّطية، التي تستهدف أهم تجارب الديمقراطية في العالم العربي، من دون تنظيم سياسي فاعل يساعده على مواجهة بقية التنظيمات السياسية، التي هي بصدد الاقتراب من بعضها البعض، والتنسيق أكثر فيما بينها والتوافق على برنامج عمل موحد للمعارضة".
وقال: "لم يشهد التاريخ من قبل انتصار حاكم بمفرده على نخب بلاده، التي قامت سياساته الغريبة بتوحيدها ضده بعد أن كانت مشتتة، ناهيك عن دولة عريقة لها أعراف وتقاليد ضاربة في القدم كالدولة التونسية، التي قد تصبر بعض الوقت على سيرة مغامرة في الحكم وشاذة في التاريخ، لكنها لن تصبر طويلاً".
النخب معتادة على مقاومة الحكم الفردي
وأوضح شوكات أن "النخب التونسية، ورغم العديد من الأمراض التي تخترقها، وأهمها النرجسية، فإنها معتادة على مقاومة الحكم الفردي التسلطي، ولها باع طويل في المسألة، ونفس أطول على المقاومة".
وأشار إلى أنه "تكفي مراجعة سجلاتها في التصدي لمعارضة الحكم لعقود، أيام الرئيسين الراحلين (الحبيب) بورقيبة و(زين العابدين) بن علي، حتى ندرك أن مهمة هذه المعارضة في مواجهة سعيّد يسيرة وهينة، وهو الرجل الذي سيكلّف المؤسستين العسكرية والأمنية أكثر مما تتحملان".
وأشار شوكات إلى أن "حروب سعيّد مع المؤسسات الدستورية والهيئات المستقلة لا تهدأ، وهي مصدر إزعاج في جميع الجبهات التي فتحها. ومن يخوض حروباً على جميع الجبهات سيخسرها في النهاية، فالقضاء لم يستسلم وكذلك البرلمان والمجتمع المدني والإعلام. خلاصة القول إن مشروع سعيّد لن يمر، والديمقراطية التونسية ستستأنف مسارها حتماً".