كلما تقدم الرئيس التونسي قيس سعيّد خطوة نحو الأمام في تنفيذ مشروعه السياسي اتسعت دائرة المعارضين له، وتفرّق أنصاره الذين ساندوه حين أقدم على إدخال البلاد في حالة الاستثناء في 25 يوليو/تموز الماضي، والتي تضمنت تجميد عمل البرلمان وإقالة حكومة هشام المشيشي إلى جانب وضع يده على مختلف السلطات.
وبعد مرور أربعة أشهر على إجراءات سعيّد التي جرى تمديدها وتوسيعها، جاء دور الاتحاد العام التونسي للشغل ليعلن على لسان أمينه العام نور الدين الطبوبي، أن الاتحاد غير مستعد لمواصلة مسايرة الرئيس في توجهه "الغامض". ولم يتردد الطبوبي في التأكيد قبل أيام أن اتحاد الشغل "لن يعطي صكاً على بياض لأيّ كان، ولا يمكن أن يقبل المضي بالبلاد نحو المجهول، وهو يطالب الرئيس بتحديد الخيارات والمضامين السياسية التي يتجه فيها ليحدد إن كان سيوافقها أو يعارضها". وأضاف "نقولها منذ الآن، اتحاد الشغل لن يقبل التوجه إلى العمل وفق ما يعرف باللجان الشعبية".
باشر اتحاد الشغل تعديل استراتيجيته بعد فترة من دعمه سعيّد
في البداية كان موقف القيادة النقابية مؤيداً لقرارات 25 يوليو، إذ حرصت على توفير المبررات لها بشكل واضح رغم تمسكها بالديمقراطية ورفضها المساس بالحريات. وحاول "الاتحاد" أن يكون عملياً، إذ عرض من جديد خدماته على رئيس الجمهورية، لكنه فوجئ بالأمر 117 الذي جمع فيه سعيّد كل السلطات بيده، من دون أن يضع سقفاً زمنياً لذلك. على هذا الأساس حذّر الاتحاد من تداعيات ذلك على المستقبل قائلاً "في 25 يوليو الله لطف بنا وكان هناك وعي للشعب والشباب مما جنّب البلاد الفوضى، ولكن في المرة المقبلة لا تستطيع أن تضمن النتيجة، والناس إذا فقدت الثقة بكل الأطراف سنعيش في حالة اللادولة ونصبح في خطر كبير جداً". مع ذلك استمرت حالة الغموض، وتسارعت الخطى نحو الهدف الذي وضعه سعيّد أمام عينيه، وهو تغيير النظام السياسي، وتحويل موازين القوى الانتخابية من أجل إقامة ما يسميه أنصاره بـ"الديمقراطية القاعدية".
وعلى الرغم من أن اللائحة التي صدرت عن البرلمان الأوروبي قبل أيام تضمنت الإقرار بأهمية دور اللجنة الرباعية للحوار الوطني، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أن القيادة النقابية عبّرت عن رفضها لما وصفته بـ"التدخلات الأجنبية" في الأوضاع الداخلية للبلاد "تحت أي مبرر". وذكرت في بيان لها أن "ذلك يمثل مساساً بالسيادة الوطنية وتكريساً لنزعة استعمارية بائدة تسعى إلى تقديم دروس فاشلة في الديمقراطية، وتصمت في المقابل أمام ما تتعرض له تونس من إفقار وتهديدات إرهابية، في ظل حكم التحالف الحاكم الذي استجار بالدول الخارجية بدعوى الدفاع عن الديمقراطية". فعلت القيادة العمالية ذلك حرصاً منها على كسب ثقة الرئيس، وتشجيعه على الإسراع في التحاور معها، لكنه لم يهتم بتلك الهدية التي قدمتها له.
طالب الجميع سعيّد بإطلاق حوار وطني لكنه راوغهم متحدثاً عن حوار مختلف تماماً عن الذي دعت إليه الأحزاب واتحاد الشغل والكونغرس الأميركي والبرلمان الأوروبي والدول السبع الكبرى. دعا هؤلاء إلى حوار يشمل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني، في حين تحدث الرئيس التونسي عن حوار مع الشباب. والغريب أن هذا الحوار لن يتناول قضايا الشباب وهمومه الرئيسية، بل سيتعلق فقط بتغيير النظام السياسي وأيضاً بوضع قانون جديد للانتخابات، وهما مسألتان مركزيتان في اللحظة الراهنة، وتهمان مباشرة مختلف الأطراف الفاعلة في البلاد، والشباب ليس سوى جزء حيوي من هذه القوى.
يبدو أن صبر اتحاد الشغل قد نفد، لهذا وجه الطبوبي دفعة من الرسائل القوية مثل قوله إن "لا أحد بإمكانه رسم مستقبل تونس خارج الاتحاد"، وإنه "لا يمكن لأيّ طرف أن يسيطر على اتحاد الشغل". الاتحاد متمسك بعدم التراجع عن الحق في تطبيق الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات السابقة، بل هدد السلطة بمعركة حول الحقوق الاقتصادية ستكون "ضارية"، مع تذكيره بأهمية الأحزاب في كل بلد ديمقراطي، علماً أن الاتحاد باشر مشاورات مع بعضها. وتُنبئ هذه التحذيرات عن احتمال تغيير فعلي في استراتيجية الاتحاد بعد حالة من التردد والتأييد المشروط للسلطة.
تتآكل قاعدة الرئيس في الأوساط الحقوقية
لكن ليس الاتحاد وحده من بدأ تعديل سياسته، بل توجد أصوات أخرى سخّرت جهودها للدفاع القوي عن رئاسة الجمهورية، إلا أنها وجدت نفسها مضطرة لتعديل خطابها، بعد أن اتضحت لها الجوانب الخفية في خطة الرئيس وأنصاره، رغم أنه لم يخفها عن التونسيين منذ حملته الانتخابية. ومن بين هؤلاء الذين قرروا مغادرة السفينة قبل أن تواصل طريقها نحو محطتها النهائية، أستاذان في القانون الدستوري خالفا آراء معظم زملائهما، ودافعا بشراسة عن توجهات الرئيس. الأول هو أمين محفوظ الذي أكد للرئيس أنه مع بقاء الأحزاب السياسية والجمعيات، وأنه مع الانتخابات الحرة والمباشرة والنزيهة، وطالبه بسقف زمني لحالة الاستثناء.
أما الأستاذ الجامعي الثاني فهو صغير الزكراوي الذي أصبح معروفاً في العالم العربي بعد ظهوره المتكرر في الفضائيات للدفاع عن سعيّد، والذي كتب أخيراً ما يلي: "يبدو أننا كتونسيين سنصبح أضحوكة العالم من جديد. ففي الوقت الذي بدأت فيه البلاد بالكاد تخرج من عشرية مدمّرة أتت على الأخضر واليابس، يطل علينا غير مرحب به رضا لينين وجماعته مبشرين بنظرية البناء القاعدي، أي بناء الديمقراطية من المحليات صعوداً إلى البرلمان. وهي نظرية طوباوية لم تنجح في أي بلد، وستفضي إلى تفكيك الدولة ترابياً". ورضا لينين هو صديق الرئيس، وأحد رموز أقصى اليسار في مرحلة السبعينات من القرن الماضي. وبناء عليه أعلن زكراوي أنه "سيتصدى شخصياً إلى مثل هذه المبادرات التي تنطوي على مخاطر جدية". بالتالي، يبدو أن للمشهد حلقات أخرى سيتابعها التونسيون بكثير من الشغف والقلق وربما الألم.