باتت كوسوفو أخيراً أمام منعطفٍ هو الأكثر حساسية في تاريخها الحديث، خصوصاً بعد استقلالها عام 2008 عن صربيا، بعد فوز حزب "حركة تقرير المصير" (فيتيفيندوسيي)، بالانتخابات التشريعية الأخيرة يوم الأحد الماضي. ولا يعود السبب إلى تكريس زعيم الحزب، ألبين كورتي، قوته في البلاد فحسب، بل بفعل تكاثف الظروف الملائمة للخروج بمسار سياسي مستقبلي، يتيح لبريشتينا تعزيز سيادتها من جهة، وتحسين علاقاتها مع صربيا (وريثة يوغوسلافيا السابقة) وأوروبا من جهة أخرى، انطلاقاً من عاملين: وباء كورونا المتفشي في أفقر بلدان البلقان، وانتخاب جو بايدن، حليف كوسوفو الأساسي، رئيساً للولايات المتحدة. منذ نحو 23 عاماً، تحديداً في فبراير/شباط عام 1998، شنّ الزعيم اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش حرب إبادة على كوسوفو، التي كانت جزءاً من يوغوسلافيا السابقة. وُوجهت بلغراد بمقاومة عنيفة ميدانياً من "جيش تحرير كوسوفو"، الذي كان كورتي الطالب الجامعي جزءاً منه، وفي ربيع عام 1999 تعرّضت العاصمة الصربية لغارات قوات حلف الأطلسي، لإجبارها على الانسحاب من كوسوفو. هنا، يأتي دور بايدن، الذي صاغ قانوناً لقصف يوغوسلافيا السابقة، بمعية صديقه الجمهوري الراحل جون ماكين، وقدماه لإدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، محفزاً "الأطلسي" للقيام بغاراته.
ساهم بايدن في تحرير كوسوفو من القوات الصربية عام 1999
جهود بايدن في الدفاع عن كوسوفو، أكسبته شعبية كبيرة في البلاد، إلى درجة إطلاق اسم ابنه الراحل، بو، على إحدى الطرقات السريعة، وسط كوسوفو، عام 2016. بعد 22 عاماً على الدور الأميركي الفاعل في إبعاد الصرب عن كوسوفو، عاد ابن "جيش تحرير كوسوفو"، ألبين كورتي، إلى رئاسة الحكومة في بريشتينا، بأريحية تفوق تلك التي حصل عليها في حكومته العام الماضي، كما وصل بايدن إلى البيت الأبيض. في هذه اللحظة المفصلية في كوسوفو، حثت الولايات المتحدة كورتي على إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات مع صربيا. وقال المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين إن "الولايات المتحدة تدعم بقوة الحوار الذي يرعاه الاتحاد الأوروبي بين كوسوفو وصربيا، بهدف التوصل إلى اتفاق تطبيع شامل ويعتمد على الاعتراف المتبادل". وأضاف: "سنشجع الحكومة الجديدة فور تشكيلها على إعطاء الأولوية لهذه المفاوضات"، مهنئاً كوسوفو على انتخاباتها. ولم يكن كورتي بعيداً عن هذا التوجه، حين تحدث يوم الاثنين الماضي، على ضرورة أن تبدأ المحادثات مع صربيا على أساس "المساواة" و"المعاملة بالمثل". وقال إن هذا الحوار يجب ألا يتركز على تعويض بلغراد عن خسارتها كوسوفو. مع العلم أن صربيا ترفض الاعتراف باستقلال كوسوفو منذ انفصال الإقليم في 2008، رغم أن البلدين اتفقا العام الماضي في واشنطن على تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما. وجاء فوز حزب كورتي، يوم الأحد الماضي، في استحقاق رفع خلاله شعار مكافحة الفساد في بلد ينهشه الفقر والاضطرابات السياسية. وستكون الحكومة الجديدة، الثالثة منذ بدء تفشي فيروس كورونا قبل عام. وفاقم الوباء الصعوبات الاقتصادية في البلد الفقير، وأودى بحياة أكثر من 1500 شخص، في وقت لا يزال التلقيح بعيد المنال. واستفاد حزب "فيتيفيندوسيي" بزعامة كورتي الرافع شعار مكافحة الفساد، من النقمة الشعبية على السلطات. وفازت الحركة، وهي أبرز أحزاب المعارضة اليسارية، بنحو 48 في المائة من الأصوات. أما "الحزب الديمقراطي" الذي أسسه قادة متمردون سابقون شاركوا في الحرب ضد يوغوسلافيا السابقة، فقد نال 17 في المائة، فيما نال حزب "الرابطة الديمقراطية" (يمين وسط) 13 في المائة. وخاض المتمردون السابقون المعركة الانتخابية في غياب عدد من شخصياتهم الرئيسية، بينهم الرئيس السابق هاشم تاجي الذي وجه إليه القضاء الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تهمة ارتكاب جرائم حرب. في المقابل، تعزّزت فرص فوز "فيتيفيندوسيي" بعدما انضمّت إليه الرئيسة بالإنابة فيوسا عثماني (38 عاماً) وهي رمز الجيل الجديد من الطبقة السياسية، بعدما انسحبت من حزب "الرابطة الديمقراطية"، بزعامة رئيس الوزراء المنتهية ولايته عبد الله هوتي. وحلّ حزب "فيتيفيندوسيي" في المرتبة الأولى بفارق ضئيل جداً في آخر استحقاقين انتخابيين، إلا أنه استُبعد من الحكم من جانب ائتلافات شكلتها أحزاب أخرى.
كورتي: لكوسوفو الحق في الانضمام إلى ألبانيا، لكننا لن نشعل حرباً بلقانية ثالثة لهذا السبب
والعام الماضي صمدت حكومة كورتي حوالى 50 يوماً قبل أن تسقط. لكن هذه المرة، يأمل كورتي في تشكيل ائتلاف حكومي بتحالفه مع الأحزاب التي تمثّل الأقليات المخصص لها 20 مقعداً في البرلمان المؤلف من 120 نائباً. ويقول محللون إن برنامج الحزب الذي عُرف في السابق بتظاهراته العنيفة قبل الاستقلال عام 2008 وبعده، لا يحظى بإجماع، إلا أن الناخبين سئموا ويريدون وجوهاً جديدة في الحكم. ويتّهم خصوم كورتي بأن لديه أهدافاً سلطوية ويمثل تهديداً للعلاقة المميزة التي تجمع كوسوفو والولايات المتحدة. ومنعته السلطات الانتخابية من الترشّح شخصياً للانتخابات بسبب إدانته بإلقاء غاز مسيل للدموع في البرلمان. لكن ذلك لن يمنعه دستورياً من تشكيل حكومة. ولوحظ أن كورتي المتشدد، والصاعد من الاحتجاجات في الشارع، باشر باعتماد مقاربة مغايرة في أدبياته، تحديداً بما يتعلق بتعديل الدستور وإجراء استفتاء يسمح للناس بإبداء رأيهم حيال إمكانية الانضمام إلى ألبانيا وتشكيل "دولة ألبانيا الكبرى". وقال في هذا الصدد: "لكوسوفو الحق في الانضمام إلى ألبانيا، لكننا لن نشعل حرباً بلقانية ثالثة لهذا السبب"، في إشارة إلى حرب البلقان الأولى (8 أكتوبر/تشرين الأول 1912 ـ 30 مايو/أيار 1913)، وحرب البلقان الثانية (29 يونيو/حزيران 1913 ـ 10 أغسطس/آب 1913).
(العربي الجديد، فرانس برس)