لا تغيير في الخريطة السياسية في الجزائر بموجب نتائج الانتخابات النيابية المبكرة التي جرت السبت الماضي، هذا هو العنوان الأبرز للنتائج الأولية التي حافظت على المشهد نفسه من دون تغيير مفصلي، في مقابل صدمة كبيرة استيقظت عليها الأحزاب الناشئة التي كانت تتوقع أن تتيح لها هذه الانتخابات تمركزاً جيداً في توازنات البرلمان والمشهد الحزبي، إضافة إلى خيبة لافتة للمستقلين، بخلاف كل التوقعات التي كانت تعطيهم تقدماً قياسياً في هذه الانتخابات بدعم من السلطة.
وأبقت النتائج الأولية، حسب الولايات الـ58 والمناطق الأربع في الجالية، "جبهة التحرير الوطني" و"حركة مجتمع السلم" و"التجمع الوطني الديمقراطي" في الصدارة بشكل متفاوت في العديد من الولايات، مع صعود لافت لـ"حركة البناء الوطني" (منشقة عن مجتمع السلم وتمثل الإخوان في الجزائر)، و"جبهة المستقبل" (حزب أسسته كتلة من القيادات الشابة انشقت عن جبهة التحرير)، وهي الأحزاب التي يتوقع أن تكون الأكثر تأثيراً في تشكيل الحكومة المقبلة، إضافة إلى كتلة المستقلين.
وإذا كان الحضور البارز لـ"حركة مجتمع السلم" في صدارة النتائج مبرّراً ومتوقعاً بالنظر إلى حفاظها على ثقلها الشعبي وتنشيطها حملة هي الأفضل في الحملة الانتخابية، فإن وجود حزبي السلطة: "جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي"، ضمن مقدمة الأحزاب الفائزة بهذه الانتخابات، يمكن اعتباره مفاجأة سياسية في حدّ ذاته، بالنظر إلى أن الجبهة والتجمع هما أكثر الأحزاب السياسية التي استهدفها الحراك الشعبي، وطالب في تظاهرات فبراير/شباط 2019 بحلهما، وحمّلهما الجزائريون جزءاً من المسؤولية عن النكبة السياسية والاقتصادية التي انتهت إليها البلاد، وتورطهما في دعم الخيارات والسياسات التي انتهجتها السلطة في العقود الماضية، إضافة إلى التوقعات التي كانت تعتبر أن تعرّض الجبهة والتجمع إلى هزات تنظيمية داخلية حادة، ما بعد الحراك الشعبي، واعتقال وسجن كبار قيادات الحزبين، في صورة الأمينين العامين السابقين لـ"جبهة التحرير" جمال ولد عباس ومحمد جميعي، وأمين عام "التجمع الديمقراطي" أحمد أويحيى، وملاحقة عدد من نواب وقيادات هذا الحزب، قد تطيحهما في الانتخابات، لكنهما نجحا بحسب ما تظهره النتائج، ليس فقط في النجاة من هزيمة انتخابية، وإنما في الظفر بكتلة مهمة من المقاعد.
على صعيد آخر، وحسابياً، تُعدّ كل من "جبهة المستقبل" التي جمعت حتى الآن أكثر من 17 مقعداً، و"حركة البناء الوطني" التي يقترب مجموع مقاعدها من 30 مقعداً، من أكثر الأحزاب التي خرجت من هذه الانتخابات رابحة سياسياً من حيث تعزيز موقعهما في الساحة وتوسيع كتلتهما النيابية، مقارنة مع النتائج التي حصلتا عليها في انتخابات 2017، حيث كانت "جبهة المستقبل"، التي يقودها المرشح الرئاسي السابق عبد العزيز بلعيد، قد حصلت على 11 مقعداً، بينما كانت "حركة البناء"، التي يقودها المرشح الرئاسي السابق عبد القادر بن قرينة، قد حصلت على 14 مقعداً فقط ضمن تحالف كان قد ضمها مع "جبهة العدالة والتنمية" و"حركة الإصلاح الوطني" .
بيد أن مجموعة أحزاب ناشئة، كان يتوقع أن تتيح لها الانتخابات ولادة سياسية، لم تنجح في تحقيق ذلك، إذ أظهرت النتائج الأولية للانتخابات التشريعية حصولها على عدد محدود من المقاعد، لا يؤهل بعضها لتشكيل كتلة برلمانية في البرلمان (أقل من 11 مقعداً)، على غرار "جيل جديد" و"الفجر الجديد" وحزب "صوت الشعب"، فيما شكلت النتائج صدمة كبيرة لأحزاب كانت مهمة، كـ"جبهة العدالة والتنمية" التي يقودها عبد الله جاب الله، وحركة "الإصلاح والنهضة"، واستفاقت أحزاب على صدمة كبيرة بعدم حصولها على أي مقعد في الولايات التي شاركت فيها، على غرار "التحالف الوطني الجمهوري" و"تجمع أمل الجزائر"، وبقيت أحزاب أخرى في الظل، كحزب "الحرية والعدالة" و"الجزائر الجديدة" و"جبهة الحكم الراشد" و"طلائع الحريات"، حيث تسبب نظام العتبة الانتخابية، المحددة بخمسة في المائة من مجموع الأصوات في كل ولاية، في خسارتها.
وبخلاف التوقعات التي كانت تشير إلى إمكانية اكتساح قوائم المستقلين بعد الإعلانات المتكررة من قبل الرئيس عبد المجيد تبون عن دعم ترشح الشباب وتوفير دعم مادي لمستقلين بأعمار أقل من 40 سنة، فإن النتائج أظهرت حصول المستقلين على عدد أقل من التوقعات، على الرغم من تقدمهم في بعض الولايات، كتيبازة وبومرداس، قرب العاصمة الجزائرية، وهو ما يظهر بحسب بعض المراقبين تراجعاً لافتاً للسلطة عن خيار الاستناد إلى المجتمع المدني، بسبب ضعفه الهيكلي والتنظيمي، والرفض الكبير الذي واجهه هذا الخيار من قبل القوى السياسية، التي رأت فيه محاولة لتحييد الأحزاب عن دورها.
وتؤشر هذه النتائج إلى عدم وجود تغيير كبير في سلوك وقناعات الناخب الجزائري في علاقته بالصندوق والاختيارات الانتخابية، على الرغم من كل المتغيرات التي أحدثها الحراك الشعبي، والانكشاف الكبير لأحزاب السلطة، واستمرار تأثير عوامل محلية ضاغطة على توجهات الناخبين، خصوصاً في مدن الداخل.
ويعتبر الباحث عبد الحميد براهيمي أن هذه النتائج هي انعكاس واضح للمقاطعة الواسعة للانتخابات، حيث إن الكتلة نفسها التي تعودت على الانتخاب، سواء التي تمثل حاضنات شعبية لأحزاب سياسية أو غيرها، هي نفسها التي توجهت إلى صناديق الاقتراع بالخيارات والقناعات نفسها، وعليه، فإنه من الطبيعي أن تكون النتائج نفسها التي كانت في السابق. ويوضح براهيمي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "إذا أخذنا كنموذج ولاية وادي سوف، فإن نسبة التصويت فيها لم تتجاوز 27.50 بالمئة، وهي النسبة الأقل في الأعوام العشرين الأخيرة، رغم اللعب على الوتر العشائري والقبلي من طرف جل المترشحين والقوائم المترشحة، والإمكانيات التي جندتها السلطات لتحفيز المواطنين على المشاركة". وقال: "في اعتقادي أن هذه المقاطعة الشعبية الكبيرة تعود إلى غياب عامل الثقة في النظام الانتخابي الذي صيغ على عين السلطة وحدها دون إشراك الطبقة السياسية، ضمن جملة أسباب دفعت المواطنين لعدم الاقتناع بجدوى المشاركة في الانتخابات، وغياب كل أمل في تغيير أوضاعهم، وبالتالي عدنا إلى النتائج السابقة نفسها".
لكن الكاتب المتخصص في الشؤون السياسية أحسن خلاص يعتبر أن هناك متغيرات حملتها هذه الانتخابات لا يمكن الاستهانة بها، ويقول لـ"العربي الجديد": "من الناحية الظاهرية، قد تبدو النتائج دالة على اللاتغيير، لكن هناك متغيرات جديدة لا يستهان بها، منها أننا أمام موارد بشرية جديدة لدى جميع الأحزاب المتصدرة، بعد الانسحاب الاضطراري للوجوه البرلمانية القديمة، إضافة إلى أن الجمع بين كتلة (مجتمع السلم) و(حركة البناء)، وهما من التيار الإسلامي، سيحدث نوعاً من التوازن في المشهد والبرلمان، بخلاف ما كان في السابق"، مضيفاً أن "هناك متغيراً يخص (جبهة التحرير) و(التجمع)، بحيث أن الرئيس تبون سيضطر للتعامل مع الأفلان والأرندي كشريكين وليس تابعين للسلطة، كما كان يتعامل معهما الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لأنهما نجحا من دون دعم مباشر أو رعاية من السلطة، كما كان في السابق، وهذا يفرض على الرئيس التراجع عن تجاهلهما، لكون أن لديهما شركاءهما في دواليب السلطة الفعلية، وستكون لهما الكلمة في تشكيل الحكومة المقبلة، التي ستتقاسمها مبدئياً الكتل الموالية للرئيس والجبهة والتجمع ومجتمع السلم والبناء".
إلى ذلك، أكد الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة تيبازة، قرب العاصمة الجزائرية، زهير بوعمامة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن مآلات انتخابات السبت الماضي أثبتت أن المراهنة على قوى المجتمع المدني لتغيير الخريطة والمشهد السياسي أخفقت للمرة الثانية بعد إخفاق التعبئة في استفتاء الدستور، مشيراً إلى أن استمرار السلوك الانتخابي نفسه للناخب الجزائري يفسّر تكرار النتائج نفسها.
ولفت إلى أن تصور البعض أن المستقلين (وليسوا كلهم مستقلين في الحقيقة)، يمكن أن يؤدوا أدواراً تعبوية تستقطب جمهور الناخبين، كان توقعاً خاطئاً، مضيفاً أن "هذا يؤكد حقيقة أن الديمقراطية هي نظام الأحزاب. لست أعلم ما كان في نوايا السلطة ولكن المراهنة المفرطة على القوائم المستقلة، كبديل محتمل لأحزاب كانت بلا شكّ تمرّ بفترة صعبة ومأزومة، هو رهان سقط للمرة الثانية بعد المراهنة عليها لتعبئة الناخبين في الاستفتاء، ما يدعو في اعتقادي إلى التفكير جدياً في ما يجب فعله لأجل إحداث خلخلة حقيقية على هذا المستوى، مع أن هناك إيجابية كبيرة في إقبال الشباب وطبقة الجامعيين على هذا الاستحقاق، على الرغم من هزالة الأداء والنتائج هذه المرة، ولكن ذلك ستكون له إيجابياته على المسار العام للتغيير في المستقبل، وعلى كسر الاحتكارات والصور النمطية السياسية في المخيلة الجماعية للجزائريين".
ويفسر بوعمامة عدم تغير السلوك الانتخابي للجزائريين، سواء في العلاقة بالعزوف كالتجاهل والمقاطعة كموقف سياسي، وبالتالي النتائج التي آلت إليها الانتخابات الجزائرية، بأنه "نتاج ثقافة ترسخت لجيل كامل صنعتها سياقات لم تكن تشجع بالمطلق على المشاركة، وهي أيضاً امتداد لتصور شعبي لا ينظر بإيجابية للفعل السياسي الباني، عقلية تنتظر أن يحدث الشيء ويأتيها عرضاً، لا أن تشارك في صنعه وتقديمه"، مشيراً إلى أن مردّ ذلك إلى صورة الفعل الانتخابي لدى الناخب الجزائري وفقاً للتجارب السابقة، "ربما لأن الانتخابات لم تكن تقدم ولا تؤخر، ولم تكن آلية لإحداث الفارق، بل كانت فقط وسيلة ختم وتصديق على اختيارات تصنع بعيداً عن غالبية الشعب، لكن هذه المرة السياقات مختلفة، ولذلك كان من المأمول أن يحدث بعض التحول في سلوك الجزائريين الانتخابي، ولكن ذلك لم يحدث"، هذا بالإضافة إلى "استمرار الفواعل والعروض الانتخابية الباهتة نفسها، إلا في ما ندر خلال الحملة الانتخابية، والتي يغلب فيها منطق التعبئة على منطق البرامج".
ويضيف بوعمامة إلى العوامل التي لم تحدث أي تغيير في السلوك الانتخابي والنتائج، منها رفض كتلة كبيرة من مكونات الحراك الشعبي الانتظام والمشاركة الفاعلة، وبالتالي البقاء على هامش الحدث الانتخابي، وقال: "أعود لأقول إن عجز أو امتناع قوى الحراك عن الانتظام والتمأسس وخوض المعترك الانتخابي فوّت عليها وعلى التجربة الجارية فرصة إحداث اختراقات مهمة، والتقدم بسرعة على مسار التحول على صعيد إحداث تغييرات عميقة في الإرث المؤسسي الباقي، أحزاباً وقوى وتوازنات".
وبرأي أستاذ العلوم السياسية في جامعة تيبازة، فإنه يمكن لنتائج الانتخابات أن تشكل أرضية لتشكيل حكومة موسعة، قائلاً: "الإعلان عن النتائج قد يحمل بعض التغييرات غير الكبيرة، من قبيل تقدم كتلة الإسلاميين لتكون موازية عددياً لكتلة الوطنيين"، مضيفاً: "في النهاية، الرئيس سيكون في راحة من أمره، وسيعيد تشكيل الفريق الحكومي بلا ضغوطات كبيرة، وعلى الأرجح سيعمد إلى تأليف حكومة سياسية موسعة، تضم أكبر الفائزين من الأحزاب مع بعض الشخصيات المستقلة، ولكني أعتقد بأن عليه أن يختار فريقه هذه المرة بعناية فائقة، لأن الورقة الوحيدة التي بقيت له هي حكومة تعمل بأكثر فعالية في ما تبقى من عهدته، فموعد 2024 يلعب على هذا المعطى بالذات، وأي إخفاق قد يجعله خارج حسابات 2024".